33- وقال المستضعفون للمستكبرين : بل تدبيركم ووسوستكم لنا في الليل والنهار أوقعنا في التهلكة حين كنتم تطلبون منا أن نكفر بالله ، ونجعل له شركاء ، وأسر الفريقان الحسرة لما رأوا العذاب واقعاً بهم ، فعلموا أن لا فائدة من إظهار هذه الحسرة ، وجعلنا الأغلال في أعناق الذين لم يؤمنوا . هل يستحق هؤلاء إلا جزاء ما كانوا يعملون ؟ !
قوله تعالى : { وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار } أي : مكركم بنا في الليل والنهار ، والعرب تضيف الفعل إلى الليل والنهار على توسع الكلام ، كما قال الشاعر :
ونمت وما ليل المطي بنائم *** . . .
وقيل : ( مكر الليل والنهار ) هو طول السلامة وطول الأمل فيهما ، كقوله تعالى : { فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم } { إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسروا } وأظهروا { الندامة } وقيل : أخفوا ، وهو من الأضداد ، { لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا } في النار الأتباع والمتبوعين جميعاً { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } من الكفر والمعاصي في الدنيا .
ولو كانوا في الدنيا لقبع المستضعفون لا ينبسون ببنت شفة . ولكنهم في الآخرة حيث تسقط الهالات الكاذبة والقيم الزائفة ؛ وتتفتح العيون المغلقة وتظهر الحقائق المستورة . ومن ثم لا يسكت المستضعفون ولا يخنعون ، بل يجبهون المستكبرين بمكرهم الذي لم يكن يفتر نهاراً ولا ليلاً للصد عن الهدى ؛ وللتمكين للباطل ، ولتلبيس الحق ، وللأمر بالمنكر ، ولاستخدام النفوذ والسلطان في التضليل والإغواء :
( وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا : بل مكر الليل والنهار ، إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً ) . .
ثم يدرك هؤلاء وهؤلاء أن هذا الحوار البائس لا ينفع هؤلاء ولا هؤلاء ، ولا ينجي المستكبرين ولا المستضعفين . فلكل جريمته وإثمه . المستكبرون عليهم وزرهم ، وعليهم تبعة إضلال الآخرين وإغوائهم . والمستضعفون عليهم وزرهم ، فهم مسؤولون عن اتباعهم للطغاة ، لا يعفيهم أنهم كانوا مستضعفين . لقد كرمهم الله بالإدراك والحرية ، فعطلوا الإدراك وباعوا الحرية ورضوا لأنفسهم أن يكونوا ذيولاً وقبلوا لأنفسهم أن يكونوا مستذلين . فاستحقوا العذاب جميعاً ؛ وأصابهم الكمد والحسرة وهم يرون العذاب حاضراً لهم مهيأ :
( وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ) . .
وهي حالة الكمد الذي يدفن الكلمات في الصدور ، فلا تفوه بها الألسنة ، ولا تتحرك بها الشفاه .
ثم أخذهم العذاب المهين الغليظ الشديد :
( وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا ) . .
ثم يلتفت السياق يحدث عنهم وهم مسحوبون في الأغلال ، مهملاً خطابهم إلى خطاب المتفرجين !
( هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ? ) . .
ويسدل الستار على المستكبرين والمستضعفين من الظالمين . وكلاهما ظالم . هذا ظالم بتجبره وطغيانه وبغيه وتضليله . وهذا ظالم بتنازله عن كرامة الإنسان ، وإدراك الإنسان ، وحرية الإنسان ، وخنوعه وخضوعه للبغي والطغيان . . وكلهم في العذاب سواء . لا يجزون إلا ما كانوا يعملون . .
يسدل الستار وقد شهد الظالمون أنفسهم في ذلك المشهد الحي الشاخص . شهدوا أنفسهم هناك وهم بعد أحياء في الأرض . وشهدهم غيرهم كأنما يرونهم . وفي الوقت متسع لتلافي ذلك الموقف لمن يشاء !
{ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار } أي : بل كنتم تمكرون بنا ليلا ونهارا ، وتَغُرّونا وتُمَنّونا ، وتخبرونا أنا على هدى وأنا على شيء ، فإذا جميع ذلك باطل وكَذبٌ ومَيْن .
قال قتادة ، وابن زيد{[24351]} : { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } يقول : بل مكرهم بالليل والنهار . وكذا قال مالك ، عن زيد بن أسلم : مكرهم بالليل والنهار .
{ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا } أي نظراء وآلهة معه ، وتقيموا لنا شُبَهًا وأشياءَ من المحال تضلونا بها { وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ } أي : الجميع من السادة والأتباع ، كُلٌّ نَدم على ما سَلَف منه .
{ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا } : وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم ، { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }{[24352]} أي : إنما نجازيكم بأعمالكم{[24353]} ، كُلٌّ بحسبه ، للقادة عذاب بحسبهم ، وللأتباع بحسبهم { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 38 ] .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فَرْوَة بن أبي المغراء ، حدثنا محمد بن سليمان{[24354]} بن الأصبهاني ، عن أبي سنان ضرار بن صُرَد ، عن عبد الله بن أبي الهُذَيل{[24355]} ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن جهنم لما سيق إليها أهلها تَلَقَّاهم لهبها ، ثم لَفَحَتْهُم لفحةً فلم يبق لحم{[24356]} إلا سقط على العرقوب » . {[24357]}
وحدثنا{[24358]} أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدثنا الطيب أبو الحسن ، عن الحسن بن يحيى الخُشَني قال : ما في جهنم دار ولا مغار ولا غل ولا سلسلة ولا قيد ، إلا اسم صاحبها عليه مكتوب . قال : فحدثته أبا سليمان - يعني : الداراني ، رحمة الله عليه{[24359]} - فبكى ثم قال : ويحك . فكيف به لو جمع هذا كله عليه ، فجعل القيد في رجليه ، والغُلّ في يديه والسلسلة في عنقه ، ثم أدخل النار وأدخل المغار ؟ ! .
{ وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار } إضراب عن إضرابهم أي لم يكن إجرامنا الصاد بل مكركم لنا دائبا ليلا ونهارا حتى أعورتم علينا رأينا . { إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا } والعاطف يعطفه على كلامهم الأول وإضافة ال{ مكر } إلى الظرف على الاتساع ، وقرئ { مكر الليل } بالنصب على المصدر و{ مكر الليل } بالتنوين ونصب الظرف و{ مكر الليل } من الكرور . { وأسروا الندامة لما رأوا العذاب } وأضمر الفريقان الندامة على الضلال والإضلال وأخفاها كل عن صاحبه مخافة التعيير ، أو أظهروها فإنه من الأضداد إذ الهمزة للإثبات والسلب كما في أكشيته . { وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا } أي في أعناقهم فجاء بالظاهر تنويها بذمهم وإشعارا بموجب أغلالهم . { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } أي لا يفعل بهم ما يفعل إلا جزاء على أعمالهم ، وتعدية يجزي إما لتضمين معنى يقضي أو بنزع الخافض .
هذه مراجعة من الأتباع للرؤساء حين قالو لهم : إنما كفرتم ببصائر أنفسكم قال المستضعفون بل كفرنا بمكركم بنا بالليل والنهار «وأضاف المكر إلى الليل والنهار من حيث هو فيهما » ولتدل هذه الإضافة على الدؤوب والدوام ، وهذه الإضافة كما قالوا «ليل نائم ونهار صائم » ، وأنشد سيبويه
* فنام ليلي وتجلى همي *{[9665]}
وهذه قراءة الجمهور ، وقرأ قتادة بن دعامة «بل مكرٌ الليلَ والنهارَ » بتنوين «مكرٌ » ونصب «الليلَ والنهارَ » على الظرف ، وقرأ سعيد بن جبير «بل مكَرّ » بفتح الكاف وشد الراء من كر يكر وبالإضافة إلى «الليل والنهار » وذكر عن يحيى بن يعمر وكأن معنى هذه الآية الإحالة على طول الأمل والاغترار بالأيام مع أمر هؤلاء الرؤساء بالكفر بالله ، و «الند » المثيل والشبيه ، والضمير في قوله { أسروا } عام جميع ما تقدم ذكره من المستضعفين والمستكبرين ، { أسروا } معناه اعتقدوها في نفوسهم ، ومعتقدات النفس كلها سر لا يعقل غير ذلك ، وإنما يظهر ما يصدر عنها من كلام أو قرينة ، وقال بعض الناس { أسروا } معناه أظهروا وهي من الأضداد .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا كلام من لم يعتبر المعنى أما نفس الندامة فلا تكون إلا مستسرة ضرورة ، وأما الظاهر عنها فغيرها ولم يثبت قط في لغة أن أسر من الأضداد ، وقوله تعالى : { لما رأوا العذاب } أي وافوه وتيقنوا حصولهم فيه وباقي الآية بين .