قوله تعالى : { وإما تخافن } أي : تعلمن يا محمد .
قوله تعالى : { من قوم } ، معاهدين .
قوله تعالى : { خيانةً } ، نقض عهد بما يظهر لكم من آثار الغدر كما ظهر من قريظة والنضير .
قوله تعالى : { فانبذ إليهم } ، فاطرح إليهم عهدهم .
قوله تعالى : { على سواء } ، يقول : أعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواءً ، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب معهم .
قوله تعالى : { إن الله لا يحب الخائنين } . أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أنا أبو سهل محمد بن عمر بن طرفة السجزي ، أنا أبو سليمان الخطابي ، أنا أبو بكر محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرزاق بن داسة التمار ، ثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، ثنا حفص بن عمر النمري ، ثنا شعبة ، عن أبي الفيض ، عن سليم بن عامر ، عن رجل من حمير قال : كان بين معاوية وبين الروم عهد ، وكان يسير نحو بلادهم ، حتى إذا انقضى العهد غزاهم ، فجاء رجل على فرس وهو يقول : الله أكبر ، الله أكبر ، وفاء لا غدر ، فنظروا فإذا هو عمرو بن عنبسة ، فأرسل إليه معاوية فسأله فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي ألدها ، و ينبذ إليهم عهدهم على سواء ، فرجع معاوية رضي الله عنه .
فأما الحكم الثاني فيتعلق بحالة الخوف من نقض العهد وتوقع الخيانة ؛ وذلك بظهور أفعال وأمارات تدل على أن القوم يهمون بنقض العهد فعلاً :
( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء . إن الله لا يحب الخائنين ) . .
إن الإسلام يعاهد ليصون عهده ؛ فإذا خاف الخيانة من غيره نبذ العهد القائم جهرة وعلانية ؛ ولم يخن ولم يغدر ؛ ولم يغش ولم يخدع ؛ وصارح الآخرين بأنه نفض يده من عهدهم . فليس بينه وبينهم أمان . . وبذلك يرتفع الإسلام بالبشرية إلى آفاق من الشرف والاستقامة ، وإلى آفاق من الأمن والطمأنينة . . إنه لا يبيت الآخرين بالهجوم الغادر الفاجر وهم آمنون مطمئنون إلى عهود ومواثيق لم تنقض ولم تنبذ ؛ ولا يروّع الذين لم يأخذوا حذرهم حتى وهو يخشى الخيانة من جانبهم . . فأما بعد نبذ العهد فالحرب خدعة ، لأن كل خصم قد أخذ حذره ؛ فإذا جازت الخدعة عليه فهو غير مغدور به إنما هو غافل ! وكل وسائل الخدعة حينئذ مباحة لأنها ليست غادرة !
إن الإسلام يريد للبشرية أن ترتفع ؛ ويريد للبشرية أن تعف ؛ فلا يبيح الغدر في سبيل الغلب ؛ وهو يكافح لأسمى الغايات وأشرف المقاصد ؛ ولا يسمح للغاية الشريفة أن تستخدم الوسيلة الخسيسة .
إن الإسلام يكره الخيانة ، ويحتقر الخائنين الذين ينقضون العهود ؛ ومن ثم لا يحب للمسلمين أن يخونوا أمانة العهد في سبيل غاية مهما تكن شريفة . . إن النفس الإنسانية وحدة لا تتجزأ ؛ ومتى استحلت لنفسها وسيلة خسيسة ، فلا يمكن أن تظل محافظة على غاية شريفة . . وليس مسلما من يبرر الوسيلة بالغاية ، فهذا المبدأ غريب على الحس الإسلامي والحساسية الإسلامية ، لأنه لا انفصال في تكوين النفس البشرية وعالمها بين الوسائل والغايات . . إن الشط الممرع لا يغري المسلم بخوض بركة من الوحل ، فإن الشط الممرع لا بد أن تلوثه الأقدام الملوثة في النهاية . . من أجل هذا كله يكره الله الخائنين ويكره الله الخيانة :
يقول تعالى لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه{[13095]} { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ } قد عاهدتهم { خِيَانَةً } أي : نقضًا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود ، { فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ } أي : عهدهم { عَلَى سَوَاءٍ } أي : أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم ، وهم حرب لك ، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء ، أي : تستوي أنت وهم في ذلك ، قال الراجز : فَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدر [ الأعْداء ]{[13096]} *** حتى يجيبوك إلى السواء{[13097]}
وعن الوليد بن مسلم أنه قال في قوله : { فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } أي : على مهل ، { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } أي : حتى ولو في حق الكفارين ، لا يحبها أيضًا .
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة{[13098]} عن أبي الفيض ، عن سليم بن عامر ، قال : كان معاوية يسير في أرض الروم ، وكان بينه وبينهم أمد ، فأراد أن يدنو منهم ، فإذا انقضى الأمد غزاهم ، فإذا شيخ على دابة يقول : الله أكبر [ الله أكبر ]{[13099]} وفاء لا غدرا ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ومن كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلَّنَّ عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على سواء " قال : فبلغ ذلك معاوية ، فرجع ، وإذا الشيخ عمرو بن عبسة ، رضي الله عنه .
وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة وأخرجه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان في صحيحه من طرق عن شعبة ، به{[13100]} وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري ، حدثنا إسرائيل ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي البختري عن سلمان - يعني الفارسي - رضي الله عنه : أنه انتهى إلى حصن - أو : مدينة - فقال لأصحابه : دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله{[13101]} صلى الله عليه وسلم يدعوهم ، فقال : إنما كنت رجلا منهم{[13102]} فهداني الله عز وجل للإسلام ، فإذا أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وإن أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون ، فإن أبيتم نابذناكم على سواء ، { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } يفعل بهم ذلك ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون الله{[13103]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِمّا تَخَافَنّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىَ سَوَآءٍ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الخَائِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وإمّا تخافنّ يا محمد من عدوّ لك بينك وبينه عهد وعقد أن ينكث عهده وينقض عقده ويغدر بك ، وذلك هو الخيانة والغدر . فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ يقول : فناجزهم بالحرب ، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم بما كان منهم من ظهور آثار الغدر والخيانة منهم حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب ، فيأخذوا للحرب آلتها ، وتبرأ من الغدر . إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الخائِنِينَ الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر به ، فيحاربه قبل إعلامه إياه أنه له حرب وأنه قد فاسخه العقد .
فإن قال قائل : وكيف يجوز نقض العهد بخوف الخيانة والخوف ظنّ لا يقين ؟ قيل : إن الأمر بخلاف ما إليه ذهبتَ ، وإنما معناه : إذا ظهرت آثار الخيانة من عدوّك وخفت وقوعهم بك ، فألق إليهم مقاليد السلم وآذنهم بالحرب . وذلك كالذين كان من بني قريظة ، إذ أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربتهم معه بعد العهد الذي كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسالمة ، ولن يقاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فكانت إجابتهم إياه إلى ذلك موجبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الغدر به وبأصحابه منهم ، فكذلك حكم كل قوم أهل موادعة للمؤمنين ظهر لإمام المسلمين منهم من دلائل الغدر مثل الذي ظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريظة منها ، فحُقّ على إمام المسلمين أن ينبذ إليهم على سواء ويؤذنهم بالحرب .
ومعنى قوله : عَلى سَوَاءٍ : أي حتى يستوي علمك وعلمهم بأن كل فريق منكم حرب لصاحبه لا سلم . وقيل : نزلت الاَية في قريظة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ قال قريظة .
وقد قال بعضهم : السواء في هذا الموضع : المَهَل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : إنه مما تبين لنا أن قوله : فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ أنه على مهل . كما حدثنا بكير عن مقاتل بن حيان في قول الله : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ .
وأما أهل العلم بكلام العرب ، فإنهم في معناه مختلفون ، فكان بعضهم يقول : معناه : فانبذ إليهم على عَدْل يعني حتى يعتدل علمك وعلمهم بما عليه بعضكم لبعض من المحاربة . واستشهدوا لقولهم ذلك بقول الراجز :
وَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدّرِ الأعْدَاء ***حتى يُجِيبُوكَ إلى السّوَاءِ
يعني إلى العدل . وكان آخرون يقولون : معناه الوسط ، من قول حسان :
يا وَيْحَ أنْصَارِ الرّسُولِ وَرَهْطِهِ ***بَعْدَ المُغَيّبِ فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ
بمعنى في وسط اللحد . وكذلك هذه المعاني متقاربة ، لأن العدل وسط لا يعلو فوق الحقّ ولا يقصر عنه ، وكذلك الوسط عدل ، واستواء الفريقين فيما عليه بعضهم لبعض بعض المهادنة عدل من الفعل ووسط . وأما الذي قاله الوليد بن مسلم من أن معناه المهل ، فما لا أعلم له وجها في كلام العرب .
وقوله تعالى : { وإما تخافن } الآية قال أكثر المؤلفين في التفسير : إن هذه الآية هي من بني قريظة ، وحكاه الطبري عن مجاهد ، والذي يظهر من ألفاظ القرآن أمر بني قريظة قد انقضى عند قوله { فشرد بهم من خلفهم } ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية بأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة إلى سالف الدهر{[5420]} ، وبنو قريظة لم يكونا في حد من تخاف خيانته فترتب فيهم هذه الآية وإنما كانت خيانتهم ظاهره مشتهرة ، فهذه الآية هي عندي فيمن يستقبل حاله من سائر الناس غير بني قريظة ، وخوف الخيانة بأن تبدو جنادع الشر{[5421]} من قبل المعاهدين وتتصل عنه أقوال وتتحسس من تلقائهم مبادىء الغدر فتلك المبادىء معلومة ، والخيانة التي هي غايتهم مخوفة لا متيقنة ، وحيئنذ ينبذ إليهم على سواء ، فإن التزموا السلم على ما يجب وإلا حوربوا ، وبنو قريظة نبذوا العهد مرتين{[5422]} ، وقال يحيى بن سلام : تخاف في هذه الآية بمعنى تعلم .
قال القاضي أبو محمد : وليس كذلك ، وقوله { خيانة } يقتضي حصول عهد لأن من ليس بينك وبينه عهد فليست محاربته لك خيانة ، فأمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إذا أحس من أهل عهد ما ذكرنا ، وخاف خيانتهم أن يلقي إليهم عهدهم ، وهو النبذ ومفعول قوله { فانبذ } محذوف تقديره إليهم عهدهم .
قال القاضي أبو محمد : وتقتضي قوة هذا اللفظ الحض على حربهم ومناجزتهم إن لم يستقيموا ، وقوله { على سواء } قيل معناه يكون الأمر في بيانه والعلم به على سواء منك ومنهم ، فتكونون فيه أي في استشعار الحرب سواء ، وقيل معنى قوله { على سواء } أي على معدلة أي فذلك هو العدل والاستواء في الحق ، قال المهدوي : معناه جهراً لا سراً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا نحو الأول ، وقال الوليد بن مسلم : { على سواء } معناه على مهل كما قال تعالى : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتهم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر }{[5423]} .
قال القاضي أبو محمد : واللغة تأبى هذا القول ، وذكر الفراء أن المعنى انبذ إليهم على اعتدال وسواء من الأمر أي بيّن لهم على قدر ما ظهر منهم لا تفرط ولا تفجأ بحرب ، بل أفعل بهم مثلما فعلوا بك .
قال القاضي أبو محمد : يعني موازنة ومقايسة ، وقوله تعالى : { إن الله لا يحب الخائنين } يحتمل أن يكون طعناً على الخائنين من الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يريد فانبذ إليهم على سواء حتى تبعد عن الخيانة ، فإن الله لا يحب الخائنين فيكون النبذ على هذا التأويل لأجل أن الله لا يحب الخائنين ، والسواء في كلام العرب قد يكون بمعنى العدل والَمْعدلة ، ومنه قوله تعالى : { إلى كلمة سواء بيننا وبينكم }{[5424]} ومنه قول الراجز : [ الرجز ]
فاضرب وجوه الغدر الأعداء*** حتى يجيبوك إلى السواء{[5425]}
وقد يكون بمعنى الوسط ، ومنه قوله تعالى : { في سواء الجحيم }{[5426]} ومنه قول حسان بن ثابت : [ الكامل ]
يا ويح أنصار النبي ورهطه*** بعد المغيَّب في سواء الملحدِ{[5427]}
عطف حكم عام لمعاملة جميع الأقوام الخائنين بعد الحكم الخاصّ بقوم معينين الذين تلوح منهم بوارق الغدر والخيانة ، بحيث يبدو من أعمالهم ما فيه مخيلة بعدم وفائهم ، فأمَره الله أن يردّ إليهم عهدهم ، إذ لا فائدة فيه وإذ هم ينتفعون من مسالمة المؤمنين لهم ، ولا ينتفع المؤمنون من مسالمتهم عند الحاجة .
والخوف توقع ضر من شيء ، وهو الخوف الحقّ المحمود . وأمّا تخيل الضرّ بدون أمارة فليس من الخوف وإنّما هو الهَوس والتوهّم . وخوف الخيانة ظهور بوارقها . وبلوغُ إضمارهم إيّاها ، بما يتّصل بالمسلمين من أخبار أولئك وما يأتي به تجسّس أحوالهم كقوله تعالى : { فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } [ البقرة : 229 ] وقوله : { فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة } [ النساء : 3 ] .
وقد تقدم عند قوله تعالى : { فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله } في سورة [ البقرة : 229 ] .
وقوم } نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم ، أي كلّ قوم تخاف منهم خيانة .
والخيانة : ضد الأمانة ، وهي هنا : نقض العهد ، لأنّ الوفاء من الأمانة . وقد تقدّم معنى الخيانة عند قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول } في هذه السورة [ 27 ] .
والنبذ : الطرح وإلقاء الشيء . وقد مضى عند قوله تعالى : { أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم } في سورة [ البقرة : 100 ] .
وإنّما رتّب نبذ العهد على خوف الخيانة ، دون وقوعها ، لأن شؤون المعاملات السياسية والحربية تجري على حسب الظنون ومخائل الأحوال ولا ينتظر تحقّق وقوع الأمر المظنون لأنّه إذا تريَّث وُلاة الأمور في ذلك يكونون قد عرضوا الأمة للخطر ، أو للتورّط في غفلة وضياع مصلحة ، ولا تُدار سياسة الأمّة بما يدار به القضاء في الحقوق ، لأنّ الحقوق إذا فاتت كانت بليّتها على واحد ، وأمكن تدارك فائتها . ومصالح الأمّة إذا فاتت تمكّن منها عدوّها ، فلذلك علّق نبذ العهد بتوقّع خيانة المعاهدين من الأعداء ، ومن أمثال العرب : خُذ اللص قبل يَأخُذَك ، أي وقد علمت أنّه لص .
{ وعلى سواء } صفة لمصدر محذوف ، أي نبذاً على سواء ، أو حال من الضمير في ( انبذ ) أي حالة كونك على سواء .
و { على } فيه للاستعلاء المجازي فهي تؤذن بأنّ مدخولها ممّا شأنه أن يعتلى عليه . و { سواء } وصف بمعنى مستو ، كما تقدم في قوله تعالى : { سواء عليهم أأنذرتهم } في سورة [ البقرة : 6 ] . وإنما يصلح للاستواء مع معنى ( على ) الطريق ، فعلم أن سواء } وصف لموصوف محذوف يدلّ عليه وصفه ، كما في قوله تعالى : { على ذات ألواح } [ القمر : 13 ] ، أي سفينة ذات ألواح . وقوله النابغة :
كما لقيت ذاتُ الصَّفا من حليفها
ووصف النبذ أو النابذ بأنّه على سواء ، تمثيل بحال الماشي على طريق جادّة لا التواء فيها ، فلا مخاتلة لصاحبها كقوله تعالى : { فقل آذنتكم على سواء } [ الأنبياء : 109 ] وهذا كما يقال ، في ضدّه : هو يتبعُ بنيات الطريق ، أي يراوغ ويخاتل .
والمعنى : فانبذ إليهم نبذاً واضحاً علناً مكشوفاً .
ومفَعول ( انبذ ) محذوف بقرينة ما تقدّم من قوله : { ثم ينقضون عهدهم } [ الأنفال : 56 ] وقوله : { وإما تخافنّ من قوم خيانة } أي انبذ عهدهم .
وعُدّي « انبِذْ » ب ( إلى ) لتضمينه معنى اردد إليهم عهدهم ، وقد فهم من ذلك لا يستمرّ على عهدهم لئلا يقع في كيدهم وأنّه لا يخونهم لأنّ أمره ينبذ عهده معهم ليستلزم أنّه لا يخونهم .
وجملة : { إن الله لا يحب الخائنين } تذييل لما اقتضته جملة : { وإما تخافن من قوم خيانة } إلخ تصريحاً واستلزاماً . والمعنى : لأنّ الله لا يحبّهم ، لأنّهم متّصفون بالخيانة فلا تستمرَّ على عهدهم فتكون معاهداً لمن لا يحبّهم الله ؛ ولأنّ الله لا يحبّ أن تكون أنت من الخائنين كما قال تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيما } في سورة [ النساء : 107 ] . وذكر القرطبي عن النحّاس أنّه قال : هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه .
قلت : وموقع ( إنّ ) فيه موقع التعليل للأمر برد عهدهم ونبذه إليهم فهي مغنية غناء فاء التفريع كما قال عبد القاهر ، وتقدّم في غير موضع وهذا من نكت الإعجاز .