88- وترى - أيها الرسول - الجبال تظنها ثابتة لا تتحرك ، ولكنها في واقع الأمر تتحرك بسرعة كالسحاب ، وهذا من صنع الله الذي خلق كل شيء وأبدعه . إنه سبحانه كامل العلم بما يفعل الناس من طاعة ومعصية ، ومجازيهم عليه{[168]} .
قوله تعالى :{ وترى الجبال تحسبها جامدة } قائمة واقفة ، { وهي تمر مر السحاب } أي : تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض . فتستوي بها وذلك أن كل شيء عظيم وكل جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وبعد ما بين أطرافه فهو في حسبان الناظر واقف وهو سائر ، كذلك سير الجبال لا يرى يوم القيامة لعظمتها ، كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه وهو سائر ، { صنع الله } نصب على المصدر ، { الذي أتقن كل شيء } يعني : أحكم ، { إنه خبير بما تفعلون } قرأ ابن كثير ، وأهل البصرة : بالياء ، والباقون بالتاء .
ويصاحب الفزع الانقلاب الكوني العام الذي تختل فيه الأفلاك ، وتضطرب دورتها . ومن مظاهر هذا الاضطراب أن تسير الجبال الراسية ، وتمر كأنها السحاب في خفته وسرعته وتناثره . ومشهد الجبال هكذا يتناسق مع ظل الفزع ، ويتجلى الفزع فيه ؛ وكأنما الجبال مذعورة مع المذعورين ، مفزوعة مع المفزوعين ، هائمة مع الهائمين الحائرين المنطلقين بلا وجهة ولا قرار !
( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) .
سبحانه ! يتجلى إتقان صنعته في كل شيء في هذا الوجود . فلا فلتة ولا مصادفة ولا ثغرة ولا نقص ، ولا تفاوت ولا نسيان . ويتدبر المتدبر كل آثار الصنعة المعجزة ، فلا يعثر على خلة واحدة متروكة بلا تقدير ولا حساب . في الصغير والكبير ، والجليل والحقير . فكل شيء بتدبير وتقدير ، يدير الرؤوس التي تتابعه وتتملاه .
وهذا يوم الحساب عما تفعلون . قدره الله الذي اتقن كل شيء . وجاء به في موعده لا يستقدم ساعة ولا يستأخر ؛ ليؤدي دوره في سنة الخلق عن حكمة وتدبير ؛ وليحقق التناسق بين العمل والجزاء في الحياتين المتصلتين المتكاملتين ، ( صنع الله الذي أتقن كل شيء . إنه خبير بما تفعلون ) .
وقوله : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } أي : تراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه ، وهي تمر مر السحاب ، أي : تزول عن أماكنها ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا } [ الطور : 9 ، 10 ] ، وقال { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا } [ طه : 105 ، 107 ] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً } [ الكهف : 47 ] .
وقوله : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } أي : يفعل ذلك بقدرته العظيمة الذي قد أتقن كل ما خلق ، وأودع فيه{[22206]} من الحكمة ما أودع ، { إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } أي : هو عليم بما يفعل عباده من خير وشر فيجازيهم عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السّحَابِ صُنْعَ اللّهِ الّذِيَ أَتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ إِنّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَتَرى الجِبَالَ يا محمد تَحْسَبُها قائمة وَهِيَ تَمُرُ .
كالذي حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَتَرَى الجبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً يقول : قائمة ، وإنما قيل : وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السّحابِ لأنها تجمع ثم تسير ، فيحسب رائيها لكثرتها أنها واقفة ، وهي تسير سيرا حثيثا ، كما قال الجعدي :
بأرْعَنَ مِثْلِ الطّوْدِ تَحْسِبُ أنّهُمْ *** وُقُوفٌ لِحاجٍ والرّكابُ تُهَمْلجُ
قوله : صُنْعَ اللّهِ الّذِي أتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ وأوثق خلقه . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : صُنْعَ اللّهِ الّذِي أتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ يقول : أحكم كلّ شيء .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : صُنعَ اللّهِ الّذِي أتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ يقول : أحسن كلّ شيء خلقه وأوثقه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : الّذِين أتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ قال : أوثق كلّ شيء وسوّى .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد أتْقَنَ أوثق .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة إنّهُ خَبِيرٌ بِمَا يَفْعَلونَ يقول تعالى ذكره : إن الله ذو علم وخبرة بما يفعل عباده من خير وشرّ وطاعة له ومعصية ، وهو مجازي جميعهم على جميع ذلك على الخير الخيرَ ، وعلى الشرّ الشرّ نظيره .
هذا وصف حال الأشياء يوم القيامة عقب النفخ في الصور ، و «الرؤية » هي بالعين{[9091]} وهذه الحال ل { الجبال } هي في أول الأمر تسير وتموج وأمر الله تعالى ينسفها ويفتها خلال ذلك فتصير كالعهن ، ثم تصير في آخر الأمد هباء منبثاً ، و «الجمود » : التصاُّم في الجوهر ، قال ابن عباس { جامدة } قائمة ، ونظيره قول الشاعر [ النابغة ] : [ الطويل ]
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم . . . وقوف لحاج والركاب تهملج{[9092]}
و { صنع الله } مصدر معرف والعامل فيه فعل مضمر من لفظه ، وقيل هو نصب على الإغراء بمعنى انظروا صنع الله{[9093]} ، و «الإتقان » الإحسان في المعمولات وأن تكون حساناً وثيقة القوة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «يفعلون » بالياء وقرأ الباقون «تفعلون » بالتاء على الخطاب .