قوله تعالى : { ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً } ، أي : مقدار النقير ، وهو النقرة التي تكون في ظهر النواة ، قرأ ابن كثير ، وأبو جعفر ، وأهل البصرة ، وأبو بكر { يدخلون } بضم الياء ، وفتح الخاء ، ها هنا وفي سورة مريم ، وحم المؤمن ، زاد أبو عمرو : { يدخلونها } في سورة فاطر . وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الخاء . روى الأعمش عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : لما نزلت { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به } قال أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء ، فنزلت هذه الآية : { ومن يعمل من الصالحات } الآية ، ونزلت أيضاً .
وفي النص تلك التسوية بين شقي النفس الواحدة ، في موقفهما من العمل والجزاء ؛ كما أن فيه شرط الإيمان لقبول العمل ، وهو الإيمان بالله :
( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى - وهو مؤمن - فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ) . .
وهو نص صريح على وحدة القاعدة في معاملة شقي النفس الواحدة - من ذكر أو أنثى . كما هو نص صريح في اشتراط الإيمان لقبول العمل . وأنه لا قيمة عند الله لعمل لا يصدر عن الإيمان . ولا يصاحبه الإيمان . وذلك طبيعي ومنطقي . لأن الإيمان بالله هو الذي يجعل العمل الصالح يصدر عن تصور معين وقصد معلوم ؛ كما يجعله حركة طبيعية مطردة ، لا استجابة لهوى شخصي ، ولا فلتة عابرة لا تقوم على قاعدة . .
وهذه الألفاظ الصريحة تخالف ما ذهب إليه الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في تفسير جزء " عم " عند قوله تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) . . إذ رأى النص لعمومه هذا يشمل المسلم وغير المسلم . بينما النصوص الصريحة الأخرى تنفي هذا تماما . وكذلك ما رآه الأستاذ الشيخ المراغي - رحمه الله . وقد أشرنا إلى هذه القصة في جزء عم [ الجزء الثلاثين من الظلال ] .
وقوله : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ]{[8389]} } لما ذكر الجزاء على السيئات ، وأنه لا بد أن يأخذ مستحقها من العبد إما في الدنيا - وهو الأجود له - وإما في الآخرة - والعياذ بالله من ذلك ، ونسأله العافية في الدنيا والآخرة ، والصفح والعفو والمسامحة - شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده ذُكْرَانهم وإناثهم ، بشرط الإيمان ، وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير ، وهو : النقرة التي في ظهر نواة التمرة ، وقد تقدم الكلام على الفتيل ، وهو الخيط الذي في شق النواة ، وهذا النقير وهما في نواة التمرة ، وكذا القطمير وهو اللفافة التي على نواة التمرة ، الثلاثة في القرآن .
{ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلََئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : الذين قال لهم : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ } يقول الله لهم : إنما يدخل الجنة وينعم فيها في الاَخرة ، من يعمل من الصالحات من ذكوركم وإناثكم ، وذكور عبادي وإناثهم وهو مؤمن بي وبرسولي محمد ، مصدّق بوحدانيتي ، ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عندي ، لا أنتم أيها المشركون بي المكذّبون رسولي ، فلا تطمعوا أن تحلوا وأنتم كفار محلّ المؤمنين بي وتدخلوا مداخلهم في القيامة وأنتم مكذّبون برسولي . كما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ انْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } قال : أبى أن يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح ، وأبى أن يقبل الإسلام إلا بالإحسان .
وأما قوله : { وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرا } فإنه يعني : ولا يظلم الله هؤلاء الذين يعملون الصالحات من ثواب عملهم مقدار النقرة التي تكون في ظهر النواة في القلة ، فيكف بما هو أعظم من ذلك وأكثر . وإنما يخبر بذلك جلّ ثناؤه عباده أنه لا يبخسهم من جزاء أعمالهم قليلاً ولا كثيرا ، ولكن يوفيهم ذلك كما وعدهم .
وبالذي قلنا في معنى النقير قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : { وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرا } قال : النقير : الذي يكون في ظهر النواة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرة ، عن عطية ، قال : النقير : الذي في وسط النواة .
فإن قال لنا قائل : وما وجه دخول «مَنْ » في قوله : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ } ، ولم يقل : ومن يعمل الصالحات ؟ قيل : لدخولها وجهان : أحدهما أن يكون الله قد علم أن عباده المؤمنين لن يطيقوا أن يعملوا جميع الأعمال الصالحات ، فأوجب وعده لمن عمل ما أطاق منها ولم يحرمه من فضله بسبب ما عجزت عن عمله منها قواه . والاَخر منهما أن يكون تعالى ذكره أوجب وعده لمن اجتنب الكبائر وأدّى الفرائض ، وإن قصر في بعض الواجب له عليه ، تفضلاً منه على عباده المؤمنين ، إذ كان الفضل به أولى ، والصفح عن أهل الإيمان به أحرى . وقد تقوّل قوم من أهل العربية أنها أدخلت في هذا الموضع بمعنى الحذف ، ويتأوّله : ومن يعمل الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن . وذلك عندي غير جائز ، لأن دخولها المعنى ، فغير جائز أن يكون معناها الحذف .
وقوله تعالى : { ومن يعمل من الصالحات } دخلت { من } للتبغيض إذ ، { الصالحات } على الكمال مما لا يطيقه البشر ، ففي هذا رفق بالعباد ، لكن في هذا البعض الفرائض وما أمكن من المندوب إليه ، ثم قيد الأمر بالإيمان إذ لا ينفع عمل دونه ، وحكى الطبري عن قوم : أن { من } زائدة ، وضعفه كما هو ضعيف ، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي : «يَدخُلون الجنة » بفتح الياء وضم الخاء ، وكذلك حيث جاء من القرآن ، وروي مثل هذا عن عاصم ، وقرأ أبو عمرو في هذه الآية وفي ( مريم ) و( الملائكة ) وفي ( المؤمن ){[4300]} «يُدخَلون » بضم الياء وفتح الخاء ، وقرأ بفتح الياء من { سيدخلون جهنم داخرين }{[4301]} و«النقير » النكتة التي في ظهر نواة التمرة ومنه تنبت ، وروي عن عاصم «النقير » ما تنقره بأصبعك ، وهذا كله مثال للحقير اليسير .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : فهنا كمل الرد على أهل الأماني والإخبار بحقيقة الأمر .