اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ نَقِيرٗا} (124)

قوله : { [ ومن يعمل ] من الصالحاتَ من ذكر } " " من " الأولَى : للتَّبعيضِ ؛ لأنَّ المكلَّف لا يطيق عَمَل كل الصَّالِحَات .

وقال الطَّبَرِي : " هي زائدةٌ عند قَوْم " وفيه ضعفٌ ، لعدم الشَّرْطَيْن ، و " مِنْ " الثانية للتبيين ، وأجاز أبو البقاء{[9848]} أن تكُونَ حالاً ، وفي صَاحِبها وجهان :

أحدهما : أنه الضَّميرُ المَرْفُوع ب " يَعْمَل " .

والثاني : أنه الصَّالحات ، أي : الصالحات كَائِنةً من ذكر أو أنثى ، وقد تقدَّم إيضاح هذا في قوله : { لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى } [ آل عمران : 195 ] والكلامُ على " أوْ " أيضاً ، وقوله : " وَهُوَ مُؤْمِنٌ " جملة حَالِيّة من فَاعِل " يَعْمَل " .

[ قوله " يدخلون " ] قرأ أبو عَمْرو ، وابن كَثير ، وأبُو بَكْر عن عَاصِم{[9849]} : " يُدْخَلون " هُنَا ، وفي مَرْيم ، وأوَّل غَافِر بضم حَرْف المُضَارَعة ، وفتح الخَاء مبنياً للمَفْعُول ، وانفردَ ابنُ كَثِيرٍ وأبو بكْرٍ بثانية غَافِر ، وأبو عمرو بالتي في فَاطِر ، والبَاقُون : بفتحِ حَرْفِ المُضَارعة ، وضمِّ الخَاءِ مبنياً للفاعِل ، وذلك للتفنُّنِ في البلاغَةِ . والأوّل أحْسن ؛ لأنَّهُ أفْخَم ، ولِكَوْنه مُوافقاً لقوله : { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } .

وأما القِرَاءة الثَّانية : فهي مُطَابِقَةٌ لقوله : { ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ } [ الزخرف : 70 ] ، ولقوله { ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ } [ الحجر : 46 ] .

والنقير : النَّقْرَة في ظَهْر النَّوَاة ، مِنْها تَنْبُت النَّخْلَة ، والمَعْنَى : أنَّهم لا يُنْقَصُون قدر مَنْبَت النَّوَاة .

فإن قِيلَ : لم خصَّ اللَّه الصالِحينَ بأنَّهم لا يُظْلَمُونَ ، مع أنَّ غيرهم كَذَلِك ؛ كما قال :

{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] ، وقوله { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 108 ] .

فالجواب : من وجهين :

الأول : أن يَكُون الرَّاجع في قوله : " ولا يُظْلَمُونَ " عائداً إلى عُمَّال السُّوءِ ، وعُمَّال{[9850]} الصَّالِحَات جَمِيعاً .

والثَّاني : أن من لا يُنْقِصُ من الثَّواب ، أولى بأن لا يَزِيدَ في العِقَابِ .

روى الأعْمَش ، عن أبي الضُّحَى{[9851]} عن مَسْرُوقٍ ، قال : لمَّا نَزَل { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قال أهْل الكِتَاب : نَحْنُ وأنْتُم سَوَاءٌ ، فَنَزَلتْ : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ } الآية ، ونزل أيْضاً : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ }

[ النساء : 125 ] .

فصل : صاحب الكبيرة لا يخلد في النار

وهذه الآية من أدَلِّ الدَّلائِل على أن صَاحِبَ الكَبِيرَة لا يُخَلَّد [ في النَّارِ ]{[9852]} بل ينقل{[9853]} إلى الجَنَّة ؛ لأنَّا بينَّا أن صاحِبَ الكبِيرَة مؤمن ، وإذا ثَبَتَ ذَلِك ، وكان قد عَمِلَ الصَّالِحَات ، وجب أنْ يدْخُل الجَنَّة ، لهذه الآية ، ولزم بِحُكْم الآيَات الدَّالَّة على وَعِيد الفُسَّاق أن يَدْخُل النَّار ، فإمَّا{[9854]} أن يدْخُل النَّار{[9855]} ، ثم يَنْتَقِل إلى النَّارِ ، وذلك بَاطِلٌ بالإجْماع ، أو يَدْخُل النَّار ، ثم ينتقل إلى الجَنَّة ، وذلك هُو المَطْلُوب .


[9848]:ينظر: الإملاء 1/195.
[9849]:ينظر: حجة القراءات 237-238، والحجة 3/181، 182، والعنوان 85، وإعراب القراءات 1/138، وشرح شعلة 343، وشرح الطيبة 4/215، وإتحاف 1/521.
[9850]:في أ: وعمل.
[9851]:في أ: الضحاك.
[9852]:سقط في ب.
[9853]:في ب: ينتقل.
[9854]:في ب: وأما.
[9855]:في ب: الجنة.