التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ نَقِيرٗا} (124)

{ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ به وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ( 123 ) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ( 124 ) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ( 125 )وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا ( 126 ) } .

في الآيات :

( 1 ) تقرير بأن مصير الناس في الآخرة لن يكون وفقا لأماني السامعين ، ولا أماني الكتابيين وظنونهم ورغباتهم ، وبأن من يعمل السوء لا بد من أن يجزي عليه بما يستحق دون أن يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا . وبأن من يؤمن بالله ويعمل صالحا من ذكر أو أنثى يدخل الجنة دون أن يبخس من حقه شيء .

( 2 ) وتساؤل على سبيل الاستطراد والحث والتنويه عما إذا كان يصح أن يكون أحد أحسن دينا ومنهجا ممن أسلم وجهه لله وأخلص له وحده واتبع ملة إبراهيم المستقيمة الموحدة الذي اتخذه له خليلا .

( 3 ) وتقرير استطرادي وتعقيبي بأن لله ما في السماوات وما في الأرض وأنه محيط بكل شيء ومحص لكل عمل يصدر من أي كان فلا تخفى عليه خافية ولا يفلت منه أحد .

تعليق على الآية

( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجزيه )

والآيات الثلاث التي بعدها

روى المفسرون روايات متعددة الطرق والصيغ والأسماء متفقة المدى في نزول الآيات يستفاد منها أن جدلا جرى بين فريق من أهل الكتاب وفريق من المسلمون حول الأقرب إلى الله تعالى والأولى به من الفريقين ؛ حيث قال الكتابيون : كتبنا وأنبياؤنا أسبق ، وقال المسلمون نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا مهيمن على كتبكم وشريعتنا أوفى الشرائع ونحن مؤمنون بكتبكم وأنبيائكم وأنتم غير مؤمنين بكتابنا ونبينا ، فنحن الأقرب والأولى . وهناك رواية تذكر أن الآية الأولى نزلت بسبيل الرد على قريش التي كانت تنكر الآخرة وحسابها وعلى الكتابيين الذي كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى .

وليس شيء من الروايات واردا في الصحاح ، ومع ذلك فالآيات متناسبة معها بحيث يمكن القول : إنها نزلت في مناسبة مماثلة لتقرر الحق في الموقف الجدلي أو التفاخري ولتنبه على أن رضاء الله ورحمته إنما ينالا بالإيمان والعمل الصالح وليس بالتفاخر والآمال والادعاء . والآية ( 125 ) احتوت ثناء على من اتبع ملة إبراهيم . وهي منسجمة في الآيات بحيث يمكن القول : إنها جزء منها . ولقد كان يقوم جدل بين النبي والكتابيين حول ملة إبراهيم وأولى الناس به وحكي ذلك في آيات سورة آل عمران ( 65 و 68 ) التي مر تفسيرها . ومن الجائز أن يكون الكلام في الجدل الجديد تطرق إلى ذلك فاقتضت حكمة التنزيل بيان كنه ملة إبراهيم التوحيدية الإسلامية والتنويه بأن أحسن الناس هم الذين يسلمون وجوههم له ويتبعون هذه الملة ؛ حيث يبدو أن رواية الجدل بين المسلمين والكتابيين هي الأكثر ورودا كسبب لنزول الآيات . وعلى ضوء آيات سورة آل عمران يمكن القول : بأن الآيات انطوت على تقرير أولوية وأفضلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به على أهل الكتاب الذين هم طرف في الموقف الجدلي ؛ لأنهم هم الذين اتبعوا هذه الملة .

ومن الممكن أن يلمح شيء من الصلة بين موضوع هذه الآيات والآيات السابقة ، فإما أن تكون قد نزلت هذه بعد تلك فوضعت مكانها للتناسب الظرفي والموضوعي ، وإما أن تكون وقعت بعدها للتناسب الموضوعي والله تعالى أعلم .

وعلى كل حال فالآيات قوية حاسمة في التعبير والتقريب والتلقين كما هو واضح فلا يصح لامرئ أن يركن على الدعوى والأماني والانتساب والظواهر .

وعلى كل إنسان أن يتأكد من أنه ملاق جزاء عمله ، إن خيرا فخيرا وإن سوءا فسوءا . وأن النهج القويم الذي يرضى الله عنه ولا نهج خيرا منه هو إسلام النفس لله عز وجل ونبذ سواه والعمل الصالح في اتباع ملة الإسلام لمستقيمة التي هي ملة إبراهيم عليه السلام . وتقرير كون كل امرئ ملاقيا جزاء عمله بدون ظلم خيرا كان أو سواءا مما تكرر في القرآن كثيرا ، بل ومما دار عليه كل هدف قرآني بالنسبة لحياة الإنسان في الدنيا والآخرة .

ولقد كان كثير من العرب والكتابيين ينتسبون إلى إبراهيم فاستحكمت الآيات في الجميع فالانتساب إلى إبراهيم لا يفيد إلا باتباع ملته . وكل دعوى خلاف ذلك باطلة . وهذا المعنى مما تضمنته وهدف إليه كثير مما جاء في قصص إبراهيم عليه السلام على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة عديدة .

ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة تذكر أن المسلمين فزعوا من الآيات وراجعوا النبي في صددها ، واعتبروها من أشد آيات القرآن عليهم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هدأ روعهم وطمأنهم وبشرهم . ولم يرد من ذلك في الكتب الخمسة إلا حديث واحد رواه الترمذي عن أبي هريرة قال ( لما نزل { من يعمل سوءا يجز به } شق ذلك على المسلمين ، فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قاربوا وسددوا . ففي كل ما يصيب المؤمن كفارة حتى الشوكة يشاكها أو النكبة ينكبها . حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير ){[682]} ويلحظ أن في القرآن المكي آيات فيها من التقرير الحاسم مات في هذه الآيات مثل آيات سورة الزلزلة ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره 7 ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره 8 ) وآية فصلت ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد 46 ) ويبدو أن الآية الجديدة قد شقت على المستجدين في الإسلام في العهد المدني ، الذين كانت لهم من المصالح والمشاغل الدنيوية ما يؤثر في سلوكهم فأفرغتهم ، وجعلتهم يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم فاقتضت حكمته هذا التطمين الذي في الحديث مع الترجيح أن الكفارة التي تكون فيما يصاب به المسلم هي بالنسبة للهفوات الصغيرة التي وعد الله بالتجاوز عنها للمسلمين إذا ما اجتنبوا الكبائر على ما جاء في الآية ( 31 ) من هذه السورة . والله أعلم .

وبمناسبة جملة ( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) روى المفسرون روايات عديدة في سبب ذلك ليس منها شيء معزوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو واردا في كتب الصحاح .

ومن ذلك أنه أجدب وضاق على أهله العيش فخرج يلتمس رزقا وعاد دون فائدة ، فوجد عند أهله خبزا فقالوا له : هذا من الدقيق الذي أرسله خليلك . ومنها أن جبريل أو الملائكة بشروه بأن الله اتخذه خليلا ؛ لأنه يعطي الناس دون أن يسألهم . ولعل ذلك مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وزمنه كأمثاله من قصص إبراهيم عليه السلام ، ويتبادر لنا أن الله قد أذن في هذه الآية بأنه اتخذ إبراهيم خليلا لما كان من إخلاصه له وإسلام النفس إليه وتوحيده لا شائبة فيه . وهو ما وصف به في آيات قرآنية عديدة منها آيات سورة النحل ( 130 132 ) التي فيها تقرير كون الله اجتباه وأتاه في الدنيا حسنة . وفي الاجتباء معنى من معاني الخلة التي منها الخليل . والله تعالى أعلم .


[682]:التاج ج 4 ص 88.