المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

يتحدث القرآن الكريم من خلال ما يذكره من قصص عن سنن الله الكونية ، وعن العظات والعبر المستفادة ، ويبين في أثناء القصة الكثير من العقائد والأحكام والأخلاق . وقد ذكر في السورة السابقة طرفا من سيرة بني إسرائيل صور فيه الكثير من انحرافهم ، وفي هذه السورة يذكر جوانب أخرى من ضلالهم وانحرافهم ، ويرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن في عقيدته وسلوكه ، ويبين حقيقة الدين السماوي ، ويشير إلى آداب المجادلة ، ويذكر العادات في الانتصار والفشل أحيانا . ويبين مقام الشهداء يوم القيامة ، والجزاء وعمومه للذكر والأنثى ، وطريق الفلاح ، وتبتدئ هذه السورة الكريمة بما ابتدأت به السورة السابقة .

1- الم ، حروف صوتية سيقت لبيان أن القرآن المعجز من هذه الحروف .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة آل عمران مدنية وآياتها مائتان .

قوله تعالى : { الم } . قال الكلبي والربيع بن أنس وغيرهما : نزلت هذه الآيات في وفد نجران وكانوا ستين راكباً قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم ، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم ، العاقب ، أمير القوم ، وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، واسمه عبد المسيح ، والسيد ، ثمالهم ، وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم . وأبو حارثة بن علقمة وهو أسقفهم وحبرهم ، دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى العصر ، عليهم ثياب الحبرات ، جبب وأردية في جمال رجال ، وإذا بالحارث بن كعب يقول : ما رأينا وفداً مثلهم ، وقد حانت صلاتهم فقاموا للصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دعوهم " فصلوا إلى المشرق ، فتكلم السيد والعاقب فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسلما " قالا : قد أسلمنا قبلك ، قال : كذبتما ، يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولداً ، وعبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير ، قالا : إن لم يكن ولداً لله فمن أبوه ؟ وخاصموه جميعاً في عيسى فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه ؟ قالوا بلى ، قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت ؟ وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه ؟ قالوا : بلى ، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً ؟ قالوا : لا ، قال : ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؟ قالوا : بلى ، قال : فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم ؟ قالوا : لا ، قال : فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء ، وربنا لا يأكل ولا يشرب ، قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ؟ ثم غذي كما يغذى الصبي ؟ ثم كان يطعم ويشرب ويحدث ؟ قالوا : بلى ، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم ؟ فسكتوا ، فأنزل الله تعالى صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها ،

1

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة آل عمران مدنية وآياتها مائتان

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا القرآن هو كتاب هذه الدعوة . هو روحها وباعثها . وهو قوامها وكيانها . وهو حارسها وراعيها . وهو بيانها وترجمانها . وهو دستورها ومنهجها . وهو في النهاية المرجع الذي تستمد منه الدعوة - كما يستمد منه الدعاة - وسائل العمل ، ومناهج الحركة ، وزاد الطريق . .

ولكن ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسنا ، ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية ، ذات وجود حقيقي ؛ ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة ؛ ووجهت به حياة إنسانية حقيقية في هذه الأرض ؛ وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية وفي رقعة من الأرض كذلك . معركة تموج بالتطورات والانفعالات والاستجابات .

وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن ، طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة ، لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجه هذا الخلق المسمى بالإنسان ، والتي تواجه هذه الأمة المسماة بالمسلمين ! بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا حية ، ذات كينونة واقعية حية ؛ ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيها واقعيا حيا ، نشأ عنه وجود ، ذو خصائص في حياة " الإنسان " بصفة عامة ، وفي حياة الأمة المسلمة بوجه خاص .

ومعجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقع معين في حياة أمة معينة ، في فترة من فترات التاريخ محددة ، وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها ، ولكنه - مع هذا - يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة ، وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة في شؤونها الجارية ، وفي صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها ، وفي معركتها كذلك في داخل النفس ، وفي عالم الضمير ، بنفس الحيوية ، ونفس الواقعية التي كانت له هناك يومذاك .

ولكي نحصل نحن من القرآن على قوته الفاعلة ، وندرك حقيقة ما فيه من الحيوية الكامنة ، ونتلقى منه التوجيه المدخر للجماعة المسلمة في كل جيل . . ينبغي أن نستحضر في تصورنا كينونة الجماعة المسلمة الأولى التي خوطبت بهذا القرآن أول مرة . . كينونتها وهي تتحرك في واقع الحياة ، وتواجه الأحداث في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها ؛ وتتعامل مع أعدائها وأصدقائها ؛ وتتصارع مع شهواتها وأهوائها ؛ ويتنزل القرآنحينئذ ليواجه هذا كله ، ويوجه خطاها في أرض المعركة الكبيرة : مع نفسها التي بين جنبيها ، ومع أعدائها المتربصين بها في المدينة وفي مكة وفيما حولهما . . وفيما وراءهما كذلك . .

أجل . . يجب أن نعيش مع تلك الجماعة الأولى ؛ ونتمثلها في بشريتها الحقيقية ، وفي حياتها الواقعية ، وفي مشكلاتها الإنسانية ؛ ونتأمل قيادة القرآن لها قيادة مباشرة في شؤونها اليومية وفي أهدافها الكلية على السواء ؛ ونرى كيف يأخذ القرآن بيدها خطوة خطوة . وهي تعثر وتنهض . وتحيد وتستقيم . وتضعف وتقاوم . وتتألم وتحتمل . وترقى الدرج الصاعد في بطء ومشقة ، وفي صبر ومجاهدة ، تتجلى فيها كل خصائص الإنسان ، وكل ضعف الإنسان ، وكل طاقات الإنسان .

ومن ثم نشعر أننا نحن أيضا مخاطبون بالقرآن في مثل ما خوطبت به الجماعة الأولى . وأن بشريتنا التي نراها ونعرفها ونحسها بكل خصائصها ، تملك الاستجابة للقرآن ، والانتفاع بقيادته في ذات الطريق .

إننا بهذه النظرة سنرى القرآن حيا يعمل في حياة الجماعة المسلمة الأولى ؛ ويملك أن يعمل في حياتنا نحن أيضا . وسنحس أنه معنا اليوم وغدا . وأنه ليس مجرد تراتيل تعبدية مهومة بعيدة عن واقعنا المحدد ، كما أنه ليس تاريخا مضى وانقضى وبطلت فاعليته وتفاعله مع الحياة البشرية .

إن القرآن حقيقة ذات كينونة مستمرة كهذا الكون ذاته . الكون كتاب الله المنظور . والقرآن كتاب الله المقروء . وكلاهما شهادة ودليل على صاحبه المبدع ؛ كما أن كليهما كائن ليعمل . . والكون بنواميسه ما زال يتحرك ويؤدي دوره الذي قدره له بارئه . الشمس ما زالت تجري في فلكها وتؤدي دورها ، والقمر والأرض ، وسائر النجوم والكواكب لا يمنعها تطاول الزمان من أداء دورها ، وجدة هذا الدور في المحيط الكوني . . والقرآن كذلك أدى دوره للبشرية ، وما يزال هو هو . فالإنسان ما يزال هوهو كذلك . ما يزال هو هو في حقيقته وفي أصل فطرته . وهذا القرآن هو خطاب الله لهذا الإنسان - فيمن خاطبهم الله به . خطاب لا يتغير ، لأن الإنسان ذاته لم يتبدل خلقا آخر ، مهما تكن الظروف والملابسات قد تبدلت من حوله ، ومهما يكن هو قد تأثر وأثر في هذه الظروف والملابسات . . والقرآن يخاطبه في أصل فطرته وفي أصل حقيقته التي لا تبديل فيها ولا تغيير ؛ ويملك أن يوجه حياته اليوم وغدا لأنه معد لهذا ، بما أنه خطاب الله الأخير ؛ وبما أن طبيعته كطبيعة هذا الكون ثابتة متحركة بدون تبديل .

وإذا كان من المضحك أن يقول قائل عن الشمس مثلا : هذا نجم قديم " رجعي ؟ " يحسن أن يستبدل به نجم جديد " تقدمي ! " أو أن هذا " الإنسان " مخلوق قديم " رجعي " يحسن أن يستبدل به كائن آخر " تقدمي " لعمارة هذه الأرض ! ! !

إذا كان من المضحك أن يقال هذا أو ذاك ، فأولى أن يكون هذا هو الشأن في القرآن . خطاب الله الأخير للإنسان .

وهذه السورة تمثل قطاعا حيا من حياة الجماعة المسلمة في المدينة من بعد " غزوة بدر " - في السنة الثانيةمن الهجرة - إلى ما بعد " غزوة أحد " في السنة الثالثة . وما أحاط بهذه الحياة من ملابسات شتى في خلال هذه الفترة الزمنية . وفعل القرآن - إلى جانب الأحداث - في هذه الحياة ، وتفاعله معها في شتى الجوانب .

والنصوص من القوة والحيوية بحيث تستحضر صورة هذه الفترة ؛ وصورة الحياة التي عاشتها الجماعة المسلمة ؛ وصورة الاشتباكات والملابسات التي أحاطت بهذه الحياة . مع استبطان السرائر والضمائر ، وما يدب فيها من الخواطر ، وما يشتجر فيها من المشاعر ، حتي لكأن قارئها يعيش هذه الأحداث ، ويعايش الأمة التي كانت تخوضها وتتفاعل وإياها . ولو أغمض الإنسان عينيه فلربما تراءت له - كما تراءت لي - شخوص الجماعة المسلمة رائحة غادية ، بسماتها الظاهرة على الوجوه ، ومشاعرها المستكنة في الضمائر . ومن حولها أعداؤها يتربصون بها ، ويبيتون لها ، ويلقون بينها بالفرية والشبهة ، ويتحاقدون عليها ، ويجمعون لها ، ويلقونها في الميدان ، وينهزمون أمامها - في أحد - ثم يكرون عليها فيوقعون بها . . وكل ما يجري في المعركة من حركة وكل ما يصاحب حركاتها من انفعال باطن وسمة ظاهرة . . والقرآن يتنزل ليواجه الكيد والدس ، ويبطل الفرية والشبهة ، ويثبت القلوب والأقدام ، ويوجه الأرواح والأفكار ، ويعقب على الحادث ويبرز منه العبرة ، ويبني التصور ويزيل عنه الغبش ، ويحذر الجماعة المسلمة من العدو الغادر والكيد الماكر ، ويقود خطاها بين الأشواك والمصايد والأحابيل ، قيادة الخبير بالفطرة العليم بما تكن الصدور . .

ومن وراء هذا كله تبقى التوجيهات والتلقينات التي احتوتها السورة خالصة طليقة من قيد الزمان والمكان ، وقيد الظروف والملابسات ، تواجه النفس البشرية ، وتواجه الجماعة المسلمة - اليوم وغدا - وتواجه الإنسانية كلها ، وكأنها تتنزل اللحظة لها ، وتخاطبها في شأنها الحاضر ، وتواجهها في واقعها الراهن . ذلك أنها تتناول أمورا وأحداثا ومشاعر وجدانية وحالات نفسية كأنما كانت ملحوظة في سياق السورة . . بل هي ملحوظة قطعا في تقدير العليم الخبير بالنفوس والأشياء والأمور .

ومن ثم يتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة في أي مكان وفي أي زمان . وهو دستور هذه الأمة في أي جيل ومن أي قبيل . وهو حادي الطريق وهادي السبيل على توالي القرون . . ذلك أنه خطاب الله الأخير لهذا الإنسان في جميع العصور . .

في هذه الفترة كانت الجماعة المسلمة في المدينة قد استقرت بعض الاستقرار في موطنها الجديد في مدينة الرسول [ ص ] ومضت خطوة وراء الموقف الذي صورناه من قبل في هذه الظلال في مطلع استعراض " سورة البقرة " .

كانت غزوة بدر الكبرى قد وقعت ؛ وكتب الله فيها النصر للمسلمين على قريش . وكان هذا النصر بظروفه التي تم فيها والملابسات التي أحاطت به تبدو فيه رائحة المعجزة الخارقة . . ومن ثم اضطر رجل كعبد الله بن أبي بن سلول من عظماء الخزرج أن ينزل عن كبريائه وكراهته لهذا الدين ونبيه [ ص ] وأن يكبت حقده وحسده للرسول الكريم ؛ وأن ينضم - منافقا - للجماعة المسلمة ، وهو يقول : " هذا أمر قد توجه " . . أي ظهرت له وجهة هو ماض فيها لا يرده عنها راد !

بذلك وجدت بذرة النفاق في المدينة - أو تمت وأفرخت ، فقد كان هناك قبل بدر من اضطروا لمنافقة أهلهم الذين دخلوا في الإسلام - وأصبحت مجموعة من الرجال ، ومن ذوي المكانة فيهم ، مضطرة إلى التظاهر بالإسلام ، والانضمام إلى المجتمع المسلم ، بينما هي تضمر في أنفسها الحقد والعداء للإسلام والمسلمين ؛ وتتربص بهم الدوائر ؛ وتتلمس الثغرات في الصف ؛ وتترقب الأحداث التي تضعضع قوى المسلمين أو تزعزع الصف المسلم ، ليظهروا كوامن صدورهم ، أو ليضربوا ضربة الإجهاز إذا كان ذلك في مكنتهم !

وقد وجد هؤلاء المنافقون حلفاء طبيعيين لهم في اليهود ، الذين كانوا يجدون في أنفسهم من الحقد على الإسلام والمسلمين ، وعلى نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام مثل ما يجد المنافقون بل أشد . وقد هددهم الإسلام تهديدا قويا في مكانتهم بين " الأميين " من العرب في المدينة ؛ وسد عليهم الثغرة التي كانوا ينفذون منها للعب بين الأوس والخزرج ، بعدما أصبحوا بنعمة الله إخوانا ، وفي ظل الإسلام صفا واحدا مرصوصا .

وقد غص اليهود وشرقوا بانتصار المسلمين في بدر ، وارتفع غليان حقدهم على الجماعة المسلمة ، وانطلقوا بكل ما يمكلون من دس وكيد وتآمر يحاولون تفتيت الصف الإسلامي ، وإلقاء الحيرة في قلوب المسلمين ، ونشر الشبهات والشكوك ، في عقيدتهم وفي أنفسهم على السواء !

وفي هذه الفترة وقع حادث بني قينقاع فوضح العداء وسفر . . على الرغم مما كان بين اليهود والنبي [ ص ] من مواثيق أبرمها معهم عقب مقدمه إلى المدينة .

كذلك كان المشركون موتورين من هزيمتهم في بدر ، يحسبون ألف حساب لانتصار محمد [ ص ] ومعسكر المدينة ، وللخطر الذي يتمثل إذن على تجارتهم وعلى مكانتهم وعلى وجودهم كذلك ! ومن ثم يتهيأون لدفع هذا الخطر الماحق قبل أن يصبح القضاء عليه مستحيلا .

وبينما كان أعداء المعسكر الإسلامي في عنفوان قوتهم وفي عنفوان حقدهم كذلك ! كان الصف المسلم ما يزال في أوائل نشأته بالمدينة . غير متناسق تماما . فيه الصفوة المختارة من السابقين من المهاجرين والأنصار ؛ ولكن فيه كذلك نفوس وشخصيات لم تنضج بعد . والجماعة كلها على العموم لم تنل من التجارب الواقعية ما يسوي النتوءات ، ويوضح حقيقة الدعوة وحقيقة الظروف الملابسة لها ، وحقيقة منهجها العملي وتكاليفه .

كان للمنافقين - وعلى رأسهم عبد الله بن أبي - مكانتهم في المجتمع ، وروابطهم العائلية والقبلية لم تنفصم بعد ؛ ولم ينضج في نفوس المسلمين الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي أسرتهم وهي قبيلتهم وهي وشيجتهم التي لا وشيجة معها . ومن ثم كانت هناك خلخلة في الصف الإسلامي بسبب وجود مثل هذه العناصر مندمجة في الصف ، مؤثرة في مقاديره . [ كما يتجلى ذلك في أحداث غزوة أحد عند استعراض النصوص الخاصة بها في السورة ] .

وكان لليهود مكانتهم كذلك في المدينة ، وارتباطاتهم الاقتصادية والتعهدية مع أهلها . ولم يتبين عداؤهم سافرا . ولم ينضج في نفوس المسلمين كذلك الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي العهد وهي الوطن وهي أصل التعامل والتعاقد ، وأنه لا بقاء لصلة ولا وشيجة إذا هي تعارضت مع العقيدة ! ومن ثم كانت لليهود فرصة للتوجيه والتشكيك والبلبلة . وكان هناك من يسمع لقولهم في الجماعة المسلمة ويتأثر به . وكان هناك من يدفع عنهم ما يريد النبي [ ص ] أن ينزل بهم من إجراءات لدفع كيدهم عن الصف المسلم [ كما حدث في شفاعة عبد الله بن أبي في بني قينقاع ، وإغلاظه في هذا للرسول [ ص ] ] .

ومن ناحية أخرى كان المسلمون قد انتصروا في بدر ذلك النصر الكامل الباهر بأيسر الجهد والبذل . فقدخرج ذلك العدد القليل من المسلمين ، غير مزودين بعدة ولا عتاد - إلا اليسير - فلاقوا ذلك الجحفل الضخم من قريش في عدتهم وعتادهم . ثم لم تلبث المعركة أن انجلت عن ذلك النصر المؤزر الباهر .

وكان هذا النصر في الوقعة الأولى التي يلتقي فيها جند الله بجند الشرك قدرا من قدر الله . ندرك اليوم طرفا من حكمته . ولعله كان لتثبيت الدعوة الناشئة وتمكينها . بل لإثبات وجودها الفعلي على محك المعركة ، لتأخذ بعد ذلك طريقها .

فأما المسلمون فلعلهم قد وقع في نفوسهم - من هذا النصر - أنه الشأن الطبيعي الذي لا شأن غيره . وأنه لا بد ملازمهم على أي حال في كل مراحل الطريق ! أليسوا بالمسلمين ؟ أليس أعداؤهم بالكافرين ؟ وإذن فهو النصر لا محالة حيثما التقى المسلمون بالكافرين !

غير أن سنة الله في النصر والهزيمة ليست بهذه الدرجة من البساطة والسذاجة ، فلهذه السنة مقتضياتها في تكوين النفوس ، وتكوين الصفوف ، وإعداد العدة ، واتباع المنهج ، والتزام الطاعة والنظام ، واليقظة لخوالج النفس ولحركات الميدان . . وهذا ما أراد الله أن يعلمهم إياه بالهزيمة في " غزوة أحد " على النحو الذي تعرضه السورة عرضا حيا مؤثرا عميقا ، وتعرض أسبابه من تصرفات بعض المسلمين ؛ وتوجه في ظله العظات البناءة للنفس وللصف على السواء .

وحين نراجع غزوة أحد نجد أن تعليم المسلمين هذا الدرس قد كلفهم أهوالا وجراحات وشهداء من أعز الشهداء - على رأسهم حمزة رضي الله عنه وأرضاه - وكلفهم ما هو أشق من ذلك كله على نفوسهم . . كلفهم أن يروا رسولهم الحبيب تشج جبهته وتكسر سنة ، ويسقط في الحفرة ، ويغوص حلق المغفر في وجنته [ ص ] الأمر الذي لا يقوم بوزنه شيء في نفوس المسلمين !

ويسبق استعراض " غزوة أحد " وأحداثها في السورة قطاع كبير تستغرقه كله توجيهات متشعبة لتصفية التصور الإسلامي من كل شائبة ؛ ولتقرير حقيقة التوحيد جلية ناصعة ، والرد على الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب ، سواء منها ما هو ناشىء من انحرافاتهم هم في معتقداتهم ، وما يتعمدون إلقاءه في الصف المسلم من شبهات ماكرة لخلخلة العقيدة وخلخلة الصف من وراء خلخلة العقيدة .

وتذكر عدة روايات أن الآيات من 1 - 83 نزلت في الحوار مع وفد نصارى نجران اليمن الذي قدم المدينة في السنة التاسعة للهجرة . ونحن نستبعد أن تكون السنة التاسعة هي زمن نزول هذه الآيات . فواضح من طبيعتها وجوها أنها نزلت في الفترة الأولى من الهجرة ، حيث كانت الجماعة المسلمة بعد ناشئة . وكان لدسائس اليهود وغيرهم أثر شديد في كيانها وفي سلوكها .

وسواء صحت رواية أن الآيات نزلت في وفد نجران أم لم تصح ؛ فإنه واضح من الموضوع الذي تعالجه أنها تواجه شبهات النصارى وبخاصة ما يتعلق منها بعيسى عليه السلام ، وتدور حول عقيدة التوحيد الخالص كما جاء به الإسلام . وتصحح لهم ما أصاب عقائدهم من انحراف وخلط وتشويه . وتدعوهم إلى الحق الواحد الذي تضمنته كتبهم الصحيحة التي جاء القرآن بصدقها .

ولكن هذا الفصل يتضمن كذلك إشارات وتقريعات لليهود وتحذيرات للمسلمين من دسائس أهل الكتاب . وما كان يجاورهم في المدينة من أهل الكتاب ممن يمثل مثل هذا الخطر إلا اليهود .

وعلى أية حال فإن هذا الفصل الذي يستغرق حوالي نصف السورة يصور جانبا من جوانب الصراع بينالعقيدة الإسلامية والعقائد المنحرفة في الجزيرة كلها . . وهو ليس صراعا نظريا إنما هو الجانب النظري من المعركة الكبيرة الشاملة بين الجماعة المسلمة الناشئة وكل أعدائها الذين كانوا يتربصون بها ، ويتحفزون من حولها ، ويستخدمون في حربها كل الأسلحة وكل الوسائل . وفي أولها زعزعة العقيدة ! وهي في صميمها المعركة التي ما تزال ناشبة إلى هذه اللحظة بين الأمة المسلمة وأعدائها . . إنهم هم هم : الملحدون المنكرون ، والصهيونية العالمية ، والصليبية العالمية ! ! !

ومن مراجعة نصوص السورة يتبين أن الوسائل هي الوسائل كذلك ؛ والأهداف هي الأهداف . ويتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة ، ومرجع هذه الأمة - اليوم وغدا - كما كان قرآنها ومرجعها بالأمس في نشأتها الأولى . وأنه لا يعرض عن استنصاح هذا الناصح واستشارة هذا المرجع في المعركة الناشبة اليوم إلا مدخول يعرض عن سلاح النصر في المعركة ؛ ويخدع نفسه أو يخدع الأمة ، لخدمة أعدائها القدامى المحدثين في غفلة بلهاء أو في خبث لئيم !

ومن خلال المناقشات والجدل والاستعراض والتوجيه في هذا المقطع الأول يتبين موقف أهل الكتاب المنحرفين عن كتابهم ، من الجماعة المسلمة والعقيدة الجديدة ، ممثلا في أمثال هذه النصوص :

( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله . . . ) . .

( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ؟ ) . .

( يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ) . .

( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم . . ) . .

( يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ؟ ) . .

( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ؟ ) . .

( وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ) ، ( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ! . . ) . .

( ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما . ذلك بأنهم قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل ! ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) . .

( وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب - وما هو من الكتاب – ( ويقولون : هو من عند الله وما هو من عند الله . ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) . .

( قل : يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون ) . .

( قل : يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء ؟ ) .

( ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله . وإذا لقوكم قالوا : آمنا . وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ) . .

( إن تمسسكم حسنة تسؤهم ، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ) . .

وهكذا نرى أن أعداء الجماعة المسلمة لم يكونوا يحاربونها في الميدان بالسيف والرمح فحسب ؛ ولم يكونوا يؤلبون عليها الأعداء ليحاربوها بالسيف والرمح فحسب . . إنما كانوا يحاربونها أولا في عقيدتها . كانوا يحاربونها بالدس والتشكيك ، ونثر الشبهات وتدبير المناورات ! كانوا يعمدون أولا إلى عقيدتها الإيمانية التي منها انبثق كيانها ، ومنها قام وجودها ، فيعملون فيها معاول الهدم والتوهين . ذلك أنهم كانوا يدركون كما يدركون اليوم تماما - أن هذه الأمة لا تؤتى إلا من هذا المدخل ؛ ولا تهن إلا إذا وهنت عقيدتها ؛ ولا تهزم إلا إذا هزمت روحها ؛ ولا يبلغ أعداؤها منها شيئا وهي ممسكة بعروة الإيمان ، مرتكنة إلى ركنه ، سائرة على نهجه ، حاملة لرايته ، ممثلة لحزبه ، منتسبة إليه ، معتزة بهذا النسب وحده .

ومن هنا يبدو أن أعدى أعداء هذه الأمة هو الذي يلهيها عن عقيدتها الإيمانية ، ويحيد بها عن منهج الله وطريقه ، ويخدعها عن حقيقة أعدائها وحقيقة أهدافهم البعيدة .

إن المعركة بين الأمة المسلمة وبين أعدائها هي قبل كل شيء معركة هذه العقيدة . وحتى حين يريد أعداؤها أن يغلبوها على الأرض والمحصولات والاقتصاد والخامات ، فإنهم يحاولون أولا أن يغلبوها على العقيدة ، لأنهم يعلمون بالتجارب الطويلة أنهم لا يبلغون مما يريدون شيئا والأمة المسلمة مستمسكة بعقيدتها ، ملتزمة بمنهجها ، مدركة لكيد أعدائها . . ومن ثم يبذل هؤلاء الأعداء وعملاؤهم جهد الجبارين في خداع هذه الأمة عن حقيقة المعركة ، ليفوزوا منها بعد ذلك بكل ما يريدون من استعمار واستغلال ، وهم آمنون من عزمة العقيدة في الصدور !

وكلما ارتقت وسائل الكيد لهذه العقيدة ، والتشكيك فيها ، والتوهين من عراها ، استخدم أعداؤها هذه الوسائل المترقية الجديدة . ولكن لنفس الغاية القديمة : ( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ! ! ! ) . . فهذه هي الغاية الثابتة الدفينة !

لهذا كان القرآن يدفع هذا السلاح المسموم أولا . . كان يأخذ الجماعة المسلمة بالتثبيت على الحق الذي هي عليه ؛ وينفي الشبهات والشكوك التي يلقيها أهل الكتاب ؛ ويجلو الحقيقة الكبيرة التي يتضمنها هذا الدين ؛ ويقنع الجماعة المسلمة بحقيقتها وقيمتها في هذه الأرض ، ودورها ودور العقيدة التي تحملها في تاريخ البشرية .

وكان يأخذها بالتحذير من كيد الكائدين ، ويكشف لها نواياهم المستترة ووسائلهم القذرة ، وأهدافهم الخطرة ، وأحقادهم على الإسلام والمسلمين ، لاختصاصهم بهذا الفضل العظيم . .

وكان يأخذها بتقرير حقيقة القوى وموازينها في هذا الوجود . فيبين لها هزال أعدائها ، وهوانهم على الله ، وضلالهم وكفرهم بما أنزل الله إليهم من قبل وقتلهم الأنبياء . كما يبين لها أن الله معها ، وهو مالك الملك المعز المذل وحده بلا شريك . وأنه سيأخذ الكفار [ وهو تعبير هنا عن اليهود ] بالعذاب والنكال ؛ كما أخذ المشركين في بدر منذ عهد قريب .

وكانت هذه التوجيهات تتمثل في أمثال هذه النصوص :

( الله لا إله إلا هو الحي القيوم . نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه ، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس ، وأنزل الفرقان . إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد ، والله عزيز ذو انتقام . إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ) . .

( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار . كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب . قل للذين كفروا : ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين . والله يؤيد بنصره من يشاء . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . .

( إن الدين عند الله الإسلام ، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ، ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ) . .

( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) . .

( قل اللهم مالك الملك ، تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء وتذل من تشاء ، بيدك الخير ، إنك على كل شيء قدير ) . .

( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه ، وإلى الله المصير ) . .

( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) . .

( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ) .

( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين . وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ؟ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ) . .

( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا . واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا . وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون . . . ) . .

( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم ، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون . لن يضروكم إلا أذى ، وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون . ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا - إلا بحبل من الله وحبل من الناس - وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) . .

( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا . ودوا ما عنتم . قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر . قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون . ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ، وتؤمنون بالكتاب كله . وإذا لقوكم قالوا : آمنا ، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ . قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور . إن تمسسكم حسنة تسؤهم ، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها . وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا . إن الله بما يعملون محيط ) .

ومن هذه الحملة الطويلة التي اقتطفنا منها هذه الآيات ، وتنوع توجيهاتها وتلقيناتها تتبين عدة أمور :

أولها : ضخامة الجهد الذي كان يبذله أهل الكتاب في المدينة وغيرها ، وعمق الكيد وتنوع أساليبه ، واستخدام جميع الوسائل لزعزعة العقيدة وخلخلة الصف المسلم من ورائها .

وثانيها : ضخامة الآثار التي كان هذا الجهد يتركها في النفوس وفي حياة الجماعة المسلمة ، مما اقتضى هذا البيان الطويل المفصل المنوع المقاطع والأساليب .

وثالثها : هو ما نلمحه اليوم من وراء القرون الطويلة . من أن هؤلاء الأعداء هم الذين يلاحقون هذه الدعوةوأصحابها في الأرض كلها ؛ وهم الذين تواجههم هذه العقيدة وأهلها . ومن ثم اقتضت إرادة الحكيم الخبير أن يقيم هذا المشعل الهادي الضخم البعيد المطارح لتراه الأجيال المسلمة قويا واضحا عميق التركيز على كشف الأعداء التقليديين لهذه الأمة ولهذا الدين !

أما القطاع الثاني في السورة فهو خاص بغزوة أحد . وهو يشتمل كذلك على تقريرات في حقائق التصور الإسلامي والعقيدة الإيمانية . وعلى توجيهات في بناء الجماعة المسلمة على أساس تلك الحقائق . إلى جانب استعراض الأحداث والوقائع ، والخواطر والمشاعر ، استعراضا يتبين منه بجلاء حالة الجماعة المسلمة يومها وقطاعاتها المختلفة التي أشرنا إليها في أول هذا التمهيد .

وعلاقة هذا المقطع بالمقطع الأول في السورة ظاهرة . فهو يتولى عملية بناء التصور الإسلامي وتجليته - في مجال المعركة والحديد ساخن ! - كما يتولى عملية تثبيت هذه الجماعة على التكاليف المفروضة على أصحاب دعوة الحق في الأرض . مع تعليمهم سنة الله في النصر والهزيمة . ويربيهم بالتوجيهات القرآنية كما يربيهم بالأحداث الواقعية .

وإنه ليصعب استيفاء الحديث هنا عن طبيعة هذا المقطع ومحتوياته وقيمته في بناء العقيدة وبناء الجماعة . . ولما كان هذا المقطع يقع بجملته في الجزء الرابع [ من الظلال ] فلنرجىء الحديث عنه إلى هذا الجزء [ إن شاء الله ] . .

ونمضي إلى ختام السورة - بعد فصل غزوة أحد - فإذا هو تلخيص لموضوعاتها الأساسية ، يبدأ بإشارة موحية إلى دلالة هذا الكون [ كتاب الله المنظور ] وإيحاءاته للقلوب المؤمنة . . ويأخذ في دعاء رخي ندي من هذه القلوب ، على مشهد الآيات في كتاب الكون المفتوح : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض . ربنا ما خلقت هذا باطلا ، سبحانك ! فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته . وما للظالمين من أنصار . ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار . ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة . إنك لا تخلف الميعاد . . . ) . . وهو يمثل نصاعة التصور ووضوحه . وخشوع القلب وتقواه .

ثم تجيء الاستجابة من الله - سبحانه - فيذكر فيها الهجرة والجهاد والإيذاء في سبيل الله :

( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض . فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم ، وأوذوا في سبيلي ، وقاتلوا وقتلوا ، لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله . والله عنده حسن الثواب . . ) . . وفيه إشارة وعلاقة بغزوة أحد وأحداثها وآثارها .

ثم يذكر أهل الكتاب - الذين استغرق الحديث عنهم مقطع السورة الأول - ليقول للمسلمين إن الحق الذي بأيديهم لا يجحده أهل الكتاب كلهم . فإن منهم من يؤمن به ويشهد بأحقيته : ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم ، وما أنزل إليهم ، خاشعين لله ، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا . . . ) .

وتختم السورة بدعوة المسلمين - بإيمانهم - إلى الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) . . وهو ختام يناسب جو السورة وموضوعاتها جميعا . .

ولا يتم التعريف المجمل بهذه السورة حتى نلم بثلاثة خطوط عريضة فيها ، تتناثر نقطها في السورة كلها ، وتتجمع وتتركز في مجموعها ، حتى ترسم هذه الخطوط العريضة بوضوح وتوكيد . .

أول هذه الخطوط بيان معنى " الدين " ومعنى " الإسلام " . . فليس الدين - كما يحدده الله - سبحانه - ويريده ويرضاه - هو كل اعتقاد في الله . . إنما هي صورة واحدة من صور الاعتقاد فيه - سبحانه - صورة التوحيد المطلق الناصع القاطع : توحيد الألوهية التي يتوجه إليها البشر كما تتوجه إليها سائر الخلائق في الكون بالعبودية . وتوحيد القوامة على البشر وعلى الكون كله . فلا يقوم شيء إلا بالله تعالى ، ولا يقوم على الخلائق إلا الله تعالى . ومن ثم يكون الدين الذي يقبله الله من عباده هو " الإسلام " وهو في هذه الحالة : الاستسلام المطلق للقوامة الإلهية ، والتلقي من هذا المصدر وحده في كل شأن من شؤون الحياة ، والتحاكم إلى كتاب الله المنزل من هذا المصدر ، واتباع الرسل الذين نزل عليهم الكتاب . وهو في صميمه كتاب واحد ، وهو في صميمه دين واحد . . الإسلام . . بهذا المعنى الواقعي في ضمائر الناس وواقعهم العملي على السواء . والذي يلتقي عليه كل المؤمنين أتباع الرسل . . كل في زمانه . . متى كان معنى إسلامه هو الاعتقاد بوحدة الألوهية والقوامة ؛ والطاعة والاتباع في منهج الحياة كله بلا استثناء .

ويتكىء سياق السورة على هذا الخط ويوضحه في أكثر من ثلاثين موضعا من السورة بشكل ظاهر ملحوظ . . نضرب له بعض الأمثلة في هذا التعريف المجمل :

( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) . . ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) . . ( إن الدين عند الله الإسلام ) . . ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن . وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين : أأسلمتم ؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا . . ) . . ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ) . . ( قل : إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله . . . ) . . ( قل : أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ) . . ( قال الحواريون : نحن أنصار الله ، آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون . ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ) . . ( قل : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله . فإن تولوا فقولوا : اشهدوا بأنا مسلمون ) . . ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ) . . ( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ؟ ) . . ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) . . وغيرها كثير . .

فأما الخط الثاني الذي يركز عليه سياق السورة فهو تصوير حال المسلمين مع ربهم واستسلامهم له ، وتلقيهم لكل ما يأتيهم منه بالقبول والطاعة والاتباع الدقيق . . ونضرب له كذلك بعض الأمثلة في هذا التعريف بالسورة حتى نواجهه مفصلا عند استعراض النصوص بالتفصيل :

( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا - وما يذكر إلا أولوا الألباب - ) ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب . ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد ) . . ( الذين يقولون : ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار . الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ) . . ( قال الحواريون : نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون . ربناآمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ) . . ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) . . ( من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ) . ( وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير ، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) . . ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيمانا ، وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ) . . ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض . ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ، وما للظالمين من أنصار . ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار . ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، ولا تخزنا يوم القيامة . إنك لا تخلف الميعاد ) . . ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم ، وما أنزل إليهم خاشعين لله ، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ) . . وغيرها كثير . .

والخط الثالث العريض في سياق السورة هو التحذير من ولاية غير المؤمنين ، والتهوين من شأن الكافرين مع هذا التحذير ، وتقرير أنه لا إيمان ولا صلة بالله مع تولي الكفار الذين لا يحتكمون لكتاب الله ، ولا يتبعون منهجه في الحياة . . وقد أشرنا إلى هذا الخط من قبل ولكنه يحتاج إلى إبراز هنا بقدر ما هو بارز وأساسي في سياق السورة ، وهذه نماذج من هذا الخط العريض :

( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء - إلا أن تتقوا منهم تقاة - ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير . قل . إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض . والله على كل شيء قدير ) . . ( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون ) . .

( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين . وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله . ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا . . . )إلخ . . ( لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون . ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا . . . )إلخ . . ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا . ودوا ما عنتم ، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر . . . )إلخ . . ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين . بل الله مولاكم وهو خير الناصرين . سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ، ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ) . . ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ) . . وغيرها كثير . .

وهذه الخطوط الثلاثة العريضة متناسقة فيما بينها متكاملة ، في تقرير التصور الإسلامي ، وتوضيح حقيقة التوحيد ومقتضاه في حياة البشر وفي شعورهم بالله ، وأثر ذلك في موقفهم من أعداء الله الذي لا موقف لهم سواه .

والنصوص في مواضعها من السياق أكثر حيوية وأعمق إيحاء . . لقد نزلت في معمعان المعركة . معركة العقيدة ، ومعركة الميدان . المعركة في داخل النفوس ، والمعركة في واقع الحياة . . ومن ثم تضمنت ذلك الرصيد الحي العجيب ، من الحركة والتأثير والإيحاء . .

فلنمض إذن لنواجه نصوص السورة في سياقها الحي القوي الأخاذ الجميل . .

سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

1

فلنأخذ الآن في الاستعراض التفصيلي لنصوص هذا الدرس من السورة :

( ألم ) . .

هذه الأحرف المقطعة : ألف . لأم . ميم . نختار في تفسيرها - على سبيل الترجيح لا الجزم - ما اخترنا في مثلها في أول سورة البقرة : " إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف ؛ وهي في متناول المخاطبين به من العرب . ولكنه - مع هذا - هو ذلك الكتاب المعجز ، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله . . . إلخ " . .

وهذا الوجه الذي اخترناه في تفسير هذه الأحرف في أوائل السور - على سبيل الترجيح لا الجزم - يتمشى معنا بيسر في إدراك مناسبات هذه " الإشارة " في شتى السور . ففي سورة البقرة كانت الإشارة تتضمن التحدي الذي ورد في السورة بعد ذلك : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ) إلخ . .

فأما هنا في سورة " آل عمران " فتبدو مناسبة أخرى لهذه " الإشارة " . . هي أن هذا الكتاب منزل من الله الذي لا إله إلا هو . وهو مؤلف من أحرف وكلمات شأنه في هذا شأن ما سبقه من الكتب السماوية التي يعترف بها أهل الكتاب - المخاطبون في السورة - فليس هناك غرابة في أن ينزل الله هذا الكتاب على رسوله بهذه الصورة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة آل عمران مدنية كلها...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

... قيل إن من أولها إلى رأس نيف وستين آية نزلت في قصة وفد نجران لما جاؤوا يحاجون النبي (صلى الله عليه وآله)...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

هذه السورة، سورة آل عمران، وتسمى: الزهراء، والأمان، والكنز، والمعينة، والمجادلة، وسورة الاستغفار، وطيبة...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذا القرآن هو كتاب هذه الدعوة، هو روحها وباعثها، وهو قوامها وكيانها، وهو حارسها وراعيها، وهو بيانها وترجمانها، وهو دستورها ومنهجها، وهو في النهاية المرجع الذي تستمد منه الدعوة -كما يستمد منه الدعاة- وسائل العمل، ومناهج الحركة، وزاد الطريق..

ولكن ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسنا، ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية، ذات وجود حقيقي، ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة، ووجهت به حياة إنسانية حقيقية في هذه الأرض، وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية، وفي رقعة من الأرض كذلك، معركة تموج بالتطورات والانفعالات والاستجابات.

وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن، طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة، لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجه هذا الخلق المسمى بالإنسان، والتي تواجه هذه الأمة المسماة بالمسلمين! بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا حية، ذات كينونة واقعية حية، ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيها واقعيا حيا، نشأ عنه وجود، ذو خصائص في حياة الإنسان بصفة عامة، وفي حياة الأمة المسلمة بوجه خاص.

ومعجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقع معين في حياة أمة معينة، في فترة من فترات التاريخ محددة، وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها، ولكنه -مع هذا- يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة، وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة في شؤونها الجارية، وفي صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها، وفي معركتها كذلك في داخل النفس، وفي عالم الضمير، بنفس الحيوية، ونفس الواقعية التي كانت له هناك يومذاك.

ولكي نحصل نحن من القرآن على قوته الفاعلة، وندرك حقيقة ما فيه من الحيوية الكامنة، ونتلقى منه التوجيه المدخر للجماعة المسلمة في كل جيل.. ينبغي أن نستحضر في تصورنا كينونة الجماعة المسلمة الأولى التي خوطبت بهذا القرآن أول مرة.. كينونتها وهي تتحرك في واقع الحياة، وتواجه الأحداث في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها، وتتعامل مع أعدائها وأصدقائها، وتتصارع مع شهواتها وأهوائها، ويتنزل القرآن حينئذ ليواجه هذا كله، ويوجه خطاها في أرض المعركة الكبيرة؛ مع نفسها التي بين جنبيها، ومع أعدائها المتربصين بها في المدينة وفي مكة وفيما حولهما.. وفيما وراءهما كذلك..

أجل.. يجب أن نعيش مع تلك الجماعة الأولى، ونتمثلها في بشريتها الحقيقية، وفي حياتها الواقعية، وفي مشكلاتها الإنسانية، ونتأمل قيادة القرآن لها قيادة مباشرة في شؤونها اليومية وفي أهدافها الكلية على السواء، ونرى كيف يأخذ القرآن بيدها خطوة خطوة، وهي تعثر وتنهض، وتحيد وتستقيم، وتضعف وتقاوم، وتتألم وتحتمل، وترقى الدرج الصاعد في بطء ومشقة، وفي صبر ومجاهدة، تتجلى فيها كل خصائص الإنسان، وكل ضعف الإنسان، وكل طاقات الإنسان.

ومن ثم نشعر أننا نحن أيضا مخاطبون بالقرآن في مثل ما خوطبت به الجماعة الأولى، وأن بشريتنا التي نراها ونعرفها ونحسها بكل خصائصها، تملك الاستجابة للقرآن، والانتفاع بقيادته في ذات الطريق.

إننا بهذه النظرة سنرى القرآن حيا يعمل في حياة الجماعة المسلمة الأولى، ويملك أن يعمل في حياتنا نحن أيضا، وسنحس أنه معنا اليوم وغدا، وأنه ليس مجرد تراتيل تعبدية مهومة بعيدة عن واقعنا المحدد، كما أنه ليس تاريخا مضى وانقضى وبطلت فاعليته وتفاعله مع الحياة البشرية.

إن القرآن حقيقة ذات كينونة مستمرة كهذا الكون ذاته، الكون كتاب الله المنظور، والقرآن كتاب الله المقروء، وكلاهما شهادة ودليل على صاحبه المبدع، كما أن كليهما كائن ليعمل.. والكون بنواميسه ما زال يتحرك ويؤدي دوره الذي قدره له بارئه؛ الشمس ما زالت تجري في فلكها وتؤدي دورها، والقمر والأرض، وسائر النجوم والكواكب لا يمنعها تطاول الزمان من أداء دورها، وجدة هذا الدور في المحيط الكوني.. والقرآن كذلك أدى دوره للبشرية، وما يزال هو هو؛ فالإنسان ما يزال هو هو كذلك، ما يزال هو هو في حقيقته وفي أصل فطرته. وهذا القرآن هو خطاب الله لهذا الإنسان -فيمن خاطبهم الله به؛ خطاب لا يتغير، لأن الإنسان ذاته لم يتبدل خلقا آخر، مهما تكن الظروف والملابسات قد تبدلت من حوله، ومهما يكن هو قد تأثر وأثر في هذه الظروف والملابسات.. والقرآن يخاطبه في أصل فطرته وفي أصل حقيقته التي لا تبديل فيها ولا تغيير، ويملك أن يوجه حياته اليوم وغدا لأنه معد لهذا، بما أنه خطاب الله الأخير؛ وبما أن طبيعته كطبيعة هذا الكون ثابتة متحركة بدون تبديل.

وإذا كان من المضحك أن يقول قائل عن الشمس مثلا: هذا نجم قديم "رجعي "يحسن أن يستبدل به نجم جديد "تقدمي"، أو أن هذا الإنسان مخلوق قديم "رجعي"، يحسن أن يستبدل به كائن آخر "تقدمي" لعمارة هذه الأرض!!!

إذا كان من المضحك أن يقال هذا أو ذاك، فأولى أن يكون هذا هو الشأن في القرآن، خطاب الله الأخير للإنسان.

وهذه السورة تمثل قطاعا حيا من حياة الجماعة المسلمة في المدينة من بعد غزوة بدر- في السنة الثانية من الهجرة -إلى ما بعد غزوة أحد في السنة الثالثة، وما أحاط بهذه الحياة من ملابسات شتى في خلال هذه الفترة الزمنية، وفعل القرآن- إلى جانب الأحداث -في هذه الحياة، وتفاعله معها في شتى الجوانب.

والنصوص من القوة والحيوية بحيث تستحضر صورة هذه الفترة، وصورة الحياة التي عاشتها الجماعة المسلمة، وصورة الاشتباكات والملابسات التي أحاطت بهذه الحياة، مع استبطان السرائر والضمائر، وما يدب فيها من الخواطر، وما يشتجر فيها من المشاعر، حتي لكأن قارئها يعيش هذه الأحداث، ويعايش الأمة التي كانت تخوضها وتتفاعل وإياها. ولو أغمض الإنسان عينيه، فلربما تراءت له- كما تراءت لي -شخوص الجماعة المسلمة رائحة غادية، بسماتها الظاهرة على الوجوه، ومشاعرها المستكنة في الضمائر، ومن حولها أعداؤها يتربصون بها، ويبيتون لها، ويلقون بينها بالفرية والشبهة، ويتحاقدون عليها، ويجمعون لها، ويلقونها في الميدان، وينهزمون أمامها- في أُحُد -ثم يكرون عليها فيوقعون بها.. وكل ما يجري في المعركة من حركة، وكل ما يصاحب حركاتها من انفعال باطن وسمة ظاهرة.. والقرآن يتنزل ليواجه الكيد والدس، ويبطل الفرية والشبهة، ويثبت القلوب والأقدام، ويوجه الأرواح والأفكار، ويعقب على الحادث ويبرز منه العبرة، ويبني التصور ويزيل عنه الغبش، ويحذر الجماعة المسلمة من العدو الغادر والكيد الماكر، ويقود خطاها بين الأشواك والمصايد والأحابيل، قيادة الخبير بالفطرة العليم بما تكن الصدور..

ومن وراء هذا كله تبقى التوجيهات والتلقينات التي احتوتها السورة خالصة طليقة من قيد الزمان والمكان، وقيد الظروف والملابسات، تواجه النفس البشرية، وتواجه الجماعة المسلمة- اليوم وغدا -وتواجه الإنسانية كلها، وكأنها تتنزل اللحظة لها، وتخاطبها في شأنها الحاضر، وتواجهها في واقعها الراهن. ذلك أنها تتناول أمورا وأحداثا ومشاعر وجدانية وحالات نفسية كأنما كانت ملحوظة في سياق السورة.. بل هي ملحوظة قطعا في تقدير العليم الخبير بالنفوس والأشياء والأمور.

ومن ثم يتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة في أي مكان وفي أي زمان، وهو دستور هذه الأمة في أي جيل ومن أي قبيل، وهو حادي الطريق وهادي السبيل على توالي القرون.. ذلك أنه خطاب الله الأخير لهذا الإنسان في جميع العصور..

في هذه الفترة كانت الجماعة المسلمة في المدينة قد استقرت بعض الاستقرار في موطنها الجديد في مدينة الرسول [ص]، ومضت خطوة وراء الموقف الذي صورناه من قبل في هذه الظلال في مطلع استعراض سورة البقرة.

كانت غزوة بدر الكبرى قد وقعت، وكتب الله فيها النصر للمسلمين على قريش، وكان هذا النصر بظروفه التي تم فيها والملابسات التي أحاطت به، تبدو فيه رائحة المعجزة الخارقة.. ومن ثم اضطر رجل كعبد الله بن أُبَي بن سلول من عظماء الخزرج أن ينزل عن كبريائه وكراهته لهذا الدين ونبيه [ص] وأن يكبت حقده وحسده للرسول الكريم، وأن ينضم- منافقا -للجماعة المسلمة، وهو يقول:"هذا أمر قد توجه".. أي ظهرت له وجهة هو ماض فيها لا يرده عنها راد.

بذلك وجدت بذرة النفاق في المدينة- أو تمت وأفرخت، فقد كان هناك قبل بدر من اضطروا لمنافقة أهلهم الذين دخلوا في الإسلام -وأصبحت مجموعة من الرجال، ومن ذوي المكانة فيهم مضطرة إلى التظاهر بالإسلام، والانضمام إلى المجتمع المسلم، بينما هي تضمر في أنفسها الحقد والعداء للإسلام والمسلمين، وتتربص بهم الدوائر، وتتلمس الثغرات في الصف، وتترقب الأحداث التي تضعضع قوى المسلمين أو تزعزع الصف المسلم، ليظهروا كوامن صدورهم، أو ليضربوا ضربة الإجهاز إذا كان ذلك في مكنتهم.

وقد وجد هؤلاء المنافقون حلفاء طبيعيين لهم في اليهود، الذين كانوا يجدون في أنفسهم من الحقد على الإسلام والمسلمين، وعلى نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام مثل ما يجد المنافقون بل أشد، وقد هددهم الإسلام تهديدا قويا في مكانتهم بين "الأميين" من العرب في المدينة، وسد عليهم الثغرة التي كانوا ينفذون منها للعب بين الأوس والخزرج، بعدما أصبحوا بنعمة الله إخوانا، وفي ظل الإسلام صفا واحدا مرصوصا.

وقد غص اليهود وشرقوا بانتصار المسلمين في بدر، وارتفع غليان حقدهم على الجماعة المسلمة، وانطلقوا بكل ما يملكون من دس وكيد وتآمر يحاولون تفتيت الصف الإسلامي، وإلقاء الحيرة في قلوب المسلمين، ونشر الشبهات والشكوك، في عقيدتهم وفي أنفسهم على السواء.

وفي هذه الفترة، وقع حادث بني قينقاع، فوضح العداء وسفر، على الرغم مما كان بين اليهود والنبي [ص] من مواثيق أبرمها معهم عقب مقدمه إلى المدينة.

كذلك كان المشركون موتورين من هزيمتهم في بدر، يحسبون ألف حساب لانتصار محمد [ص] ومعسكر المدينة، وللخطر الذي يتمثل -إذن -على تجارتهم وعلى مكانتهم وعلى وجودهم كذلك، ومن ثم يتهيؤون لدفع هذا الخطر الماحق قبل أن يصبح القضاء عليه مستحيلا.

وبينما كان أعداء المعسكر الإسلامي في عنفوان قوتهم وفي عنفوان حقدهم كذلك، كان الصف المسلم ما يزال في أوائل نشأته بالمدينة، غير متناسق تماما، فيه الصفوة المختارة من السابقين من المهاجرين والأنصار، ولكن فيه كذلك نفوس وشخصيات لم تنضج بعد. والجماعة كلها على العموم لم تنل من التجارب الواقعية ما يسوي النتوءات، ويوضح حقيقة الدعوة وحقيقة الظروف الملابسة لها، وحقيقة منهجها العملي وتكاليفه.

كان للمنافقين- وعلى رأسهم عبد الله بن أُبَي -مكانتهم في المجتمع، وروابطهم العائلية والقبلية لم تنفصم بعد، ولم ينضج في نفوس المسلمين الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي أسرتهم وهي قبيلتهم وهي وشيجتهم التي لا وشيجة معها. ومن ثم كانت هناك خلخلة في الصف الإسلامي بسبب وجود مثل هذه العناصر مندمجة في الصف، مؤثرة في مقاديره، [كما يتجلى ذلك في أحداث غزوة أحد عند استعراض النصوص الخاصة بها في السورة].

وكان لليهود مكانتهم كذلك في المدينة، وارتباطاتهم الاقتصادية والتعهدية مع أهلها، ولم يتبين عداؤهم سافرا، ولم ينضج في نفوس المسلمين كذلك الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي العهد وهي الوطن وهي أصل التعامل والتعاقد، وأنه لا بقاء لصلة ولا وشيجة إذا هي تعارضت مع العقيدة. ومن ثم، كانت لليهود فرصة للتوجيه والتشكيك والبلبلة، وكان هناك من يسمع لقولهم في الجماعة المسلمة ويتأثر به، وكان هناك من يدفع عنهم ما يريد النبي [ص] أن ينزل بهم من إجراءات لدفع كيدهم عن الصف المسلم [كما حدث في شفاعة عبد الله بن أبي في بني قينقاع، وإغلاظه في هذا للرسول [ص]].

ومن ناحية أخرى، كان المسلمون قد انتصروا في بدر ذلك النصر الكامل الباهر بأيسر الجهد والبذل؛ فقد خرج ذلك العدد القليل من المسلمين، غير مزودين بعدة ولا عتاد- إلا اليسير -فلاقوا ذلك الجحفل الضخم من قريش في عدتهم وعتادهم، ثم لم تلبث المعركة أن انجلت عن ذلك النصر المؤزر الباهر.

وكان هذا النصر في الوقعة الأولى التي يلتقي فيها جند الله بجند الشرك قدرا من قدر الله، ندرك اليوم طرفا من حكمته، ولعله كان لتثبيت الدعوة الناشئة وتمكينها، بل لإثبات وجودها الفعلي على محك المعركة، لتأخذ بعد ذلك طريقها.

فأما المسلمون، فلعلهم قد وقع في نفوسهم- من هذا النصر -أنه الشأن الطبيعي الذي لا شأن غيره، وأنه لا بد ملازمهم على أي حال في كل مراحل الطريق، أليسوا بالمسلمين؟ أليس أعداؤهم بالكافرين؟ وإذن فهو النصر لا محالة حيثما التقى المسلمون بالكافرين!

غير أن سنة الله في النصر والهزيمة ليست بهذه الدرجة من البساطة والسذاجة، فلهذه السنة مقتضياتها في تكوين النفوس، وتكوين الصفوف، وإعداد العدة، واتباع المنهج، والتزام الطاعة والنظام، واليقظة لخوالج النفس ولحركات الميدان.. وهذا ما أراد الله أن يعلمهم إياه بالهزيمة في غزوة أُحُد على النحو الذي تعرضه السورة عرضا حيا مؤثرا عميقا، وتعرض أسبابه من تصرفات بعض المسلمين، وتوجه في ظله العظات البناءة للنفس وللصف على السواء.

وحين نراجع غزوة أحد، نجد أن تعليم المسلمين هذا الدرس قد كلفهم أهوالا وجراحات وشهداء من أعز الشهداء- على رأسهم حمزة رضي الله عنه وأرضاه -وكلفهم ما هو أشق من ذلك كله على نفوسهم.. كلفهم أن يروا رسولهم الحبيب تشج جبهته وتكسر سنه، ويسقط في الحفرة، ويغوص حلق المغفر في وجنته [ص] الأمر الذي لا يقوم بوزنه شيء في نفوس المسلمين.

ويسبق استعراض غزوة أحد وأحداثها في السورة قطاع كبير تستغرقه كله توجيهات متشعبة لتصفية التصور الإسلامي من كل شائبة، ولتقرير حقيقة التوحيد جلية ناصعة، والرد على الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب، سواء منها ما هو ناشئ من انحرافاتهم هم في معتقداتهم، وما يتعمدون إلقاءه في الصف المسلم من شبهات ماكرة لخلخلة العقيدة وخلخلة الصف من وراء خلخلة العقيدة.

وتذكر عدة روايات أن الآيات من 1- 83 نزلت في الحوار مع وفد نصارى نجران اليمَن الذي قدم المدينة في السنة التاسعة للهجرة. ونحن نستبعد أن تكون السنة التاسعة هي زمن نزول هذه الآيات، فواضح من طبيعتها وجوها أنها نزلت في الفترة الأولى من الهجرة، حيث كانت الجماعة المسلمة بعد ناشئة، وكان لدسائس اليهود وغيرهم أثر شديد في كيانها وفي سلوكها.

وسواء صحت رواية أن الآيات نزلت في وفد نجران أم لم تصح، فإنه واضح من الموضوع الذي تعالجه أنها تواجه شبهات النصارى، وبخاصة ما يتعلق منها بعيسى عليه السلام، وتدور حول عقيدة التوحيد الخالص كما جاء به الإسلام. وتصحح لهم ما أصاب عقائدهم من انحراف وخلط وتشويه، وتدعوهم إلى الحق الواحد الذي تضمنته كتبهم الصحيحة التي جاء القرآن بصدقها.

ولكن هذا الفصل يتضمن كذلك إشارات وتقريعات لليهود، وتحذيرات للمسلمين من دسائس أهل الكتاب، وما كان يجاورهم في المدينة من أهل الكتاب ممن يمثل مثل هذا الخطر إلا اليهود.

وعلى أية حال، فإن هذا الفصل الذي يستغرق حوالي نصف السورة، يصور جانبا من جوانب الصراع بين العقيدة الإسلامية والعقائد المنحرفة في الجزيرة كلها.. وهو ليس صراعا نظريا، إنما هو الجانب النظري من المعركة الكبيرة الشاملة بين الجماعة المسلمة الناشئة وكل أعدائها الذين كانوا يتربصون بها، ويتحفزون من حولها، ويستخدمون في حربها كل الأسلحة وكل الوسائل، وفي أولها زعزعة العقيدة! وهي في صميمها المعركة التي ما تزال ناشبة إلى هذه اللحظة بين الأمة المسلمة وأعدائها.. إنهم هم هم: الملحدون المنكرون، والصهيونية العالمية، والصليبية العالمية!!!

ومن مراجعة نصوص السورة، يتبين أن الوسائل هي الوسائل كذلك، والأهداف هي الأهداف. ويتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة، ومرجع هذه الأمة -اليوم وغدا- كما كان قرآنها ومرجعها بالأمس في نشأتها الأولى، وأنه لا يعرض عن استنصاح هذا الناصح واستشارة هذا المرجع في المعركة الناشبة اليوم إلا مدخول يعرض عن سلاح النصر في المعركة، ويخدع نفسه أو يخدع الأمة، لخدمة أعدائها القدامى المحدثين في غفلة بلهاء أو في خبث لئيم.

ومن خلال المناقشات والجدل والاستعراض والتوجيه في هذا المقطع الأول، يتبين موقف أهل الكتاب المنحرفين عن كتابهم، من الجماعة المسلمة والعقيدة الجديدة، ممثلا في أمثال هذه النصوص:

(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله...)..

(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون؟)..

(يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده).

(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم..)..

(يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون؟)..

(يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟)..

(وقالت طائفة من أهل الكتاب: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون)، (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم!..)..

(ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما. ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل! ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون)..

(وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب -وما هو من الكتاب – (ويقولون: هو من عند الله وما هو من عند الله. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون)..

(قل: يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون)..

(قل: يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء؟).

(ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله. وإذا لقوكم قالوا: آمنا. وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ)..

(إن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها)..

وهكذا نرى أن أعداء الجماعة المسلمة لم يكونوا يحاربونها في الميدان بالسيف والرمح فحسب، ولم يكونوا يؤلبون عليها الأعداء ليحاربوها بالسيف والرمح فحسب.. إنما كانوا يحاربونها أولا في عقيدتها، كانوا يحاربونها بالدس والتشكيك، ونثر الشبهات وتدبير المناورات، كانوا يعمدون أولا إلى عقيدتها الإيمانية التي منها انبثق كيانها، ومنها قام وجودها، فيعملون فيها معاول الهدم والتوهين. ذلك أنهم كانوا يدركون كما يدركون اليوم تماما- أن هذه الأمة لا تؤتى إلا من هذا المدخل، ولا تهن إلا إذا وهنت عقيدتها، ولا تهزم إلا إذا هزمت روحها، ولا يبلغ أعداؤها منها شيئا وهي ممسكة بعروة الإيمان، مرتكنة إلى ركنه، سائرة على نهجه، حاملة لرايته، ممثلة لحزبه، منتسبة إليه، معتزة بهذا النسب وحده.

ومن هنا، يبدو أن أعدى أعداء هذه الأمة هو الذي يلهيها عن عقيدتها الإيمانية، ويحيد بها عن منهج الله وطريقه، ويخدعها عن حقيقة أعدائها وحقيقة أهدافهم البعيدة.

إن المعركة بين الأمة المسلمة وبين أعدائها هي قبل كل شيء معركة هذه العقيدة. وحتى حين يريد أعداؤها أن يغلبوها على الأرض والمحصولات والاقتصاد والخامات، فإنهم يحاولون أولا أن يغلبوها على العقيدة، لأنهم يعلمون بالتجارب الطويلة أنهم لا يبلغون مما يريدون شيئا والأمة المسلمة مستمسكة بعقيدتها، ملتزمة بمنهجها، مدركة لكيد أعدائها.. ومن ثم يبذل هؤلاء الأعداء وعملاؤهم جهد الجبارين في خداع هذه الأمة عن حقيقة المعركة، ليفوزوا منها بعد ذلك بكل ما يريدون من استعمار واستغلال، وهم آمنون من عزمة العقيدة في الصدور!

وكلما ارتقت وسائل الكيد لهذه العقيدة، والتشكيك فيها، والتوهين من عراها، استخدم أعداؤها هذه الوسائل المترقية الجديدة. ولكن لنفس الغاية القديمة: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم!!!).. فهذه هي الغاية الثابتة الدفينة!

لهذا كان القرآن يدفع هذا السلاح المسموم أولا.. كان يأخذ الجماعة المسلمة بالتثبيت على الحق الذي هي عليه؛ وينفي الشبهات والشكوك التي يلقيها أهل الكتاب؛ ويجلو الحقيقة الكبيرة التي يتضمنها هذا الدين؛ ويقنع الجماعة المسلمة بحقيقتها وقيمتها في هذه الأرض، ودورها ودور العقيدة التي تحملها في تاريخ البشرية.

وكان يأخذها بالتحذير من كيد الكائدين، ويكشف لها نواياهم المستترة ووسائلهم القذرة، وأهدافهم الخطرة، وأحقادهم على الإسلام والمسلمين، لاختصاصهم بهذا الفضل العظيم..

وكان يأخذها بتقرير حقيقة القوى وموازينها في هذا الوجود. فيبين لها هزال أعدائها، وهوانهم على الله، وضلالهم وكفرهم بما أنزل الله إليهم من قبل وقتلهم الأنبياء. كما يبين لها أن الله معها، وهو مالك الملك المعز المذل وحده بلا شريك. وأنه سيأخذ الكفار [وهو تعبير هنا عن اليهود] بالعذاب والنكال؛ كما أخذ المشركين في بدر منذ عهد قريب.

وكانت هذه التوجيهات تتمثل في أمثال هذه النصوص:

(الله لا إله إلا هو الحي القيوم. نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، وأنزل الفرقان. إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد، والله عزيز ذو انتقام. إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء)..

(إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار. كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب. قل للذين كفروا: ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد. قد كان لكم آية في فئتين التقتا: فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين. والله يؤيد بنصره من يشاء. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار)..

(إن الدين عند الله الإسلام، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب)..

(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)..

(قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير)..

(لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه، وإلى الله المصير)..

(إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين)..

(أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون).

(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين. وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم)..

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا. واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوانا. وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون...)..

(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله. ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون. لن يضروكم إلا أذى، وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون. ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا -إلا بحبل من الله وحبل من الناس- وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة. ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)..

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا. ودوا ما عنتم. قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر. قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون. ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم، وتؤمنون بالكتاب كله. وإذا لقوكم قالوا: آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ. قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور. إن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها. وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا. إن الله بما يعملون محيط).

ومن هذه الحملة الطويلة التي اقتطفنا منها هذه الآيات، وتنوع توجيهاتها وتلقيناتها تتبين عدة أمور:

أولها: ضخامة الجهد الذي كان يبذله أهل الكتاب في المدينة وغيرها، وعمق الكيد وتنوع أساليبه، واستخدام جميع الوسائل لزعزعة العقيدة وخلخلة الصف المسلم من ورائها.

وثانيها: ضخامة الآثار التي كان هذا الجهد يتركها في النفوس وفي حياة الجماعة المسلمة، مما اقتضى هذا البيان الطويل المفصل المنوع المقاطع والأساليب.

وثالثها: هو ما نلمحه اليوم من وراء القرون الطويلة. من أن هؤلاء الأعداء هم الذين يلاحقون هذه الدعوة وأصحابها في الأرض كلها؛ وهم الذين تواجههم هذه العقيدة وأهلها. ومن ثم اقتضت إرادة الحكيم الخبير أن يقيم هذا المشعل الهادي الضخم البعيد المطارح لتراه الأجيال المسلمة قويا واضحا عميق التركيز على كشف الأعداء التقليديين لهذه الأمة ولهذا الدين!

أما القطاع الثاني في السورة فهو خاص بغزوة أحد. وهو يشتمل كذلك على تقريرات في حقائق التصور الإسلامي والعقيدة الإيمانية. وعلى توجيهات في بناء الجماعة المسلمة على أساس تلك الحقائق. إلى جانب استعراض الأحداث والوقائع، والخواطر والمشاعر، استعراضا يتبين منه بجلاء حالة الجماعة المسلمة يومها وقطاعاتها المختلفة التي أشرنا إليها في أول هذا التمهيد.

وعلاقة هذا المقطع بالمقطع الأول في السورة ظاهرة. فهو يتولى عملية بناء التصور الإسلامي وتجليته -في مجال المعركة والحديد ساخن!- كما يتولى عملية تثبيت هذه الجماعة على التكاليف المفروضة على أصحاب دعوة الحق في الأرض. مع تعليمهم سنة الله في النصر والهزيمة. ويربيهم بالتوجيهات القرآنية كما يربيهم بالأحداث الواقعية.

وإنه ليصعب استيفاء الحديث هنا عن طبيعة هذا المقطع ومحتوياته وقيمته في بناء العقيدة وبناء الجماعة.. ولما كان هذا المقطع يقع بجملته في الجزء الرابع [من الظلال] فلنرجئ الحديث عنه إلى هذا الجزء [إن شاء الله]..

ونمضي إلى ختام السورة -بعد فصل غزوة أحد- فإذا هو تلخيص لموضوعاتها الأساسية، يبدأ بإشارة موحية إلى دلالة هذا الكون [كتاب الله المنظور] وإيحاءاته للقلوب المؤمنة.. ويأخذ في دعاء رخي ندي من هذه القلوب، على مشهد الآيات في كتاب الكون المفتوح: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض. ربنا ما خلقت هذا باطلا، سبحانك! فقنا عذاب النار. ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته. وما للظالمين من أنصار. ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا. ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة. إنك لا تخلف الميعاد...).. وهو يمثل نصاعة التصور ووضوحه. وخشوع القلب وتقواه.

ثم تجيء الاستجابة من الله -سبحانه- فيذكر فيها الهجرة والجهاد والإيذاء في سبيل الله:

(فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض. فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم، وأوذوا في سبيلي، وقاتلوا وقتلوا، لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله. والله عنده حسن الثواب..).. وفيه إشارة وعلاقة بغزوة أحد وأحداثها وآثارها.

ثم يذكر أهل الكتاب -الذين استغرق الحديث عنهم مقطع السورة الأول- ليقول للمسلمين إن الحق الذي بأيديهم لا يجحده أهل الكتاب كلهم. فإن منهم من يؤمن به ويشهد بأحقيته: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم، وما أنزل إليهم، خاشعين لله، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا...).

وتختم السورة بدعوة المسلمين -بإيمانهم- إلى الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون).. وهو ختام يناسب جو السورة وموضوعاتها جميعا..

ولا يتم التعريف المجمل بهذه السورة حتى نلم بثلاثة خطوط عريضة فيها، تتناثر نقطها في السورة كلها، وتتجمع وتتركز في مجموعها، حتى ترسم هذه الخطوط العريضة بوضوح وتوكيد..

أول هذه الخطوط بيان معنى "الدين" ومعنى "الإسلام".. فليس الدين -كما يحدده الله- سبحانه -ويريده ويرضاه- هو كل اعتقاد في الله.. إنما هي صورة واحدة من صور الاعتقاد فيه -سبحانه- صورة التوحيد المطلق الناصع القاطع: توحيد الألوهية التي يتوجه إليها البشر كما تتوجه إليها سائر الخلائق في الكون بالعبودية. وتوحيد القوامة على البشر وعلى الكون كله. فلا يقوم شيء إلا بالله تعالى، ولا يقوم على الخلائق إلا الله تعالى. ومن ثم يكون الدين الذي يقبله الله من عباده هو" الإسلام "وهو في هذه الحالة: الاستسلام المطلق للقوامة الإلهية، والتلقي من هذا المصدر وحده في كل شأن من شؤون الحياة، والتحاكم إلى كتاب الله المنزل من هذا المصدر، واتباع الرسل الذين نزل عليهم الكتاب. وهو في صميمه كتاب واحد، وهو في صميمه دين واحد.. الإسلام.. بهذا المعنى الواقعي في ضمائر الناس وواقعهم العملي على السواء. والذي يلتقي عليه كل المؤمنين أتباع الرسل.. كل في زمانه.. متى كان معنى إسلامه هو الاعتقاد بوحدة الألوهية والقوامة؛ والطاعة والاتباع في منهج الحياة كله بلا استثناء.

ويتكئ سياق السورة على هذا الخط ويوضحه في أكثر من ثلاثين موضعا من السورة بشكل ظاهر ملحوظ.. نضرب له بعض الأمثلة في هذا التعريف المجمل:

(الله لا إله إلا هو الحي القيوم).. (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم).. (إن الدين عند الله الإسلام).. (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن. وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين: أأسلمتم؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا..).. (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون).. (قل: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله...).. (قل: أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين).. (قال الحواريون: نحن أنصار الله، آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون. ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين).. (قل: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله. فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون).. (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين).. (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون؟).. (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه).. وغيرها كثير..

فأما الخط الثاني الذي يركز عليه سياق السورة فهو تصوير حال المسلمين مع ربهم واستسلامهم له، وتلقيهم لكل ما يأتيهم منه بالقبول والطاعة والاتباع الدقيق.. ونضرب له كذلك بعض الأمثلة في هذا التعريف بالسورة حتى نواجهه مفصلا عند استعراض النصوص بالتفصيل:

(والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا -وما يذكر إلا أولوا الألباب -) (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد).. (الذين يقولون: ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار. الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار).. (قال الحواريون: نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون. ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين).. (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).. (من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين). (وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين، وما كان قولهم إلا أن قالوا: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين).. (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم. الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل).. (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض. ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك! فقنا عذاب النار. ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته، وما للظالمين من أنصار. ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا. ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، ولا تخزنا يوم القيامة. إنك لا تخلف الميعاد).. (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم، وما أنزل إليهم خاشعين لله، لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا).. وغيرها كثير..

والخط الثالث العريض في سياق السورة هو التحذير من ولاية غير المؤمنين، والتهوين من شأن الكافرين مع هذا التحذير، وتقرير أنه لا إيمان ولا صلة بالله مع تولي الكفار الذين لا يحتكمون لكتاب الله، ولا يتبعون منهجه في الحياة.. وقد أشرنا إلى هذا الخط من قبل ولكنه يحتاج إلى إبراز هنا بقدر ما هو بارز وأساسي في سياق السورة، وهذه نماذج من هذا الخط العريض:

(لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء- إلا أن تتقوا منهم تقاة -ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير. قل. إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض. والله على كل شيء قدير).. (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون)..

(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين. وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله. ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا...) إلخ.. (لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون. ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا...) إلخ.. (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا. ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر...) إلخ.. (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين. بل الله مولاكم وهو خير الناصرين. سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين).. (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد).. وغيرها كثير..

وهذه الخطوط الثلاثة العريضة متناسقة فيما بينها متكاملة، في تقرير التصور الإسلامي، وتوضيح حقيقة التوحيد ومقتضاه في حياة البشر وفي شعورهم بالله، وأثر ذلك في موقفهم من أعداء الله الذي لا موقف لهم سواه.

والنصوص في مواضعها من السياق أكثر حيوية وأعمق إيحاء.. لقد نزلت في معمعان المعركة. معركة العقيدة، ومعركة الميدان. المعركة في داخل النفوس، والمعركة في واقع الحياة.. ومن ثم تضمنت ذلك الرصيد الحي العجيب، من الحركة والتأثير والإيحاء..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

سميت هذه السورة، في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة: سورة آل عمران، ففي صحيح مسلم، عن أبي أمامة: قال سمعت رسول الله يقول اقرأوا الزهراوين؛ البقرة وآل عمران. وفيه عن النواس بن سمعان: قال سمعت النبي يقول يؤتى بالقرآن يوم القيامة تقدمه سورة البقرة وآل عمران. وروى الدارمي في مسنده، أن عثمان بن عفان قال: من قرأ سورة آل عمران في ليلة، كتب له قيام ليلة. وسماها ابن عباس في حديثه في الصحيح، قال: بت في بيت رسول الله، فنام رسول الله حتى إذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، استيقظ رسول الله فقرأ الآيات من آخر سورة آل عمران.

ووجه تسميتها بسورة آل عمران أنها ذكرت فيها فضائل آل عمران، وهو عمران بن ماتان أبو مريم، وآله هم زوجه حنة وأختها زوجة زكريا النبي، وزكريا كافل مريم، إذ كان أبوها عمران توفي وتركها حملا فكفلها زوج خالتها.

ووصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزهراء في حديث أبي أمامة المتقدم.

وذكر الآلوسي أنها تسمى: الأمان، والكنز، والمجادلة، وسورة الاستغفار. ولم أره لغيره، ولعله اقتبس ذلك من أوصاف وصفت بها هذه السورة مما ساقه القرطبي، في المسألة الثالثة والرابعة من تفسير أول السورة...

واشتملت هذه السورة، من الأغراض على: الابتداء بالتنويه بالقرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وتقسيم آيات القرآن، ومراتب الأفهام في تلقيها، والتنويه بفضيلة الإسلام وأنه لا يعدله دين، وأنه لا يقبل دين عند الله، بعد ظهور الإسلام، غير الإسلام، والتنويه بالتوراة والإنجيل، والإيماء إلى أنهما أنزلا قبل القرآن، تمهيدا لهذا الدين فلا يحق للناس أن يكفروا به، وعلى التعريف بدلائل إلهية الله تعالى، وانفراده، وإبطال ضلالة الذين اتخذوا آلهة من دون الله؛ من جعلوا له شركاء، أو اتخذوا له أبناء، وتهديد المشركين بأن أمرهم إلى زوال، وألا يغرهم ما هم فيه من البذخ، وأن ما أعد للمؤمنين خير من ذلك، وتهديدهم بزوال سلطانهم، ثم الثناء على عيسى عليه السلام وآل بيته، وذكر معجزة ظهوره، وأنه مخلوق لله. وذكر الذين آمنوا به حقا، وإبطال إلهية عيسى، ومن ثم أفضى إلى قضية وفد نجران ولجاجتهم، ثم محاجة أهل الكتابين في حقيقة الحنفية وأنهم بعداء عنها، وما أخذ الله من العهد على الرسل كلهم؛ أن يؤمنوا بالرسول الخاتم، وأن الله جعل الكعبة أول بيت وضع للناس، وقد أعاد إليه الدين الحنيف كما ابتدأه فيه، وأوجب حجه على المؤمنين، وأظهر ضلالات اليهود، وسوء مقالتهم، وافترائهم في دينهم وكتمانهم ما أنزل إليهم. وذكر المسلمين بنعمته عليهم بدين الإسلام، وأمرهم بالاتحاد والوفاق، وذكرهم بسابق سوء حالهم في الجاهلية، وهون عليهم تظاهر معانديهم من أهل الكتاب والمشركين، وذكرهم بالحذر من كيدهم وكيد الذين أظهروا الإسلام ثم عادوا إلى الكفر فكانوا مثلا لتمييز الخبيث من الطيب، وأمرهم بالاعتزاز بأنفسهم، والصبر على تلقي الشدائد، والبلاء، وأذى العدو، ووعدهم على ذلك بالنصر والتأييد وإلقاء الرعب منهم في نفوس عدوهم، ثم ذكرهم بيوم أحد، ويوم بدر، وضرب لهم الأمثال بما حصل فيهما، ونوه، بشأن الشهداء من المسلمين، وأمر المسلمين بفضائل الأعمال: من بذل المال في مواساة الأمة، والإحسان، وفضائل الأعمال، وترك البخل، ومذمة الربا وختمت السورة بآيات التفكير في ملكوت الله...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

موضوعات السورة:

إن هذه السورة الكريمة: (1) فيها تنويه بذكر القرآن و أقسامه، و إشارة إلى محكمه و المتشابه منه، و أقسام الناس في تلقي ذلك الهدى الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.

(2) و فيها قصة آل عمران، و ولادة مريم البتول، و يحيى النبي، و عيسى الرسول، و ما اكتنف ولادتهم من آيات تدل على كمال إرادة الله تعالى في خلقه.

(3) و فيها إشارات إلى معجزات عيسى عليه السلام، و كفر من دعاهم بعد هذه المعجزات الظاهرة القاطعة، و إن ذلك يدل على أن العناد يضع غشاء على العين فلا تبصر، و على البصيرة فلا تدرك.

(4) و فيها مجادلة النبي صلى الله عليه و سلم مع النصارى و اليهود، و بيان طائفة من أخلاق اليهود و اعتقادهم أن الإيمان احتكار المذهب، و تغليق القلوب عن غيره، إذ قالوا: {و لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم 73} إلى آخر كلامه العزيز في تلك العبرة.

(5) و فيها بيان أن الإسلام في لبه ومعناه هو دين كل الأنبياء السابقين، لأنه دين الله السرمدي، سبق بالدعوة إلى حقيقته النبيون، و ختم الله الدعوة بخاتم النبيين محمد الأمين.

(6) و فيها بيان فريضة الحج المحكمة و بيان الوحدة الإسلامية، و في جمعها مع الحج في موضع واحد إشارة إلى أن الحج من وسائلها، و أعقب ذلك ببيان فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و أنها ركن الوحدة الإسلامية و دعامتها، و الذريعة لجعل هذه الوحدة على أسس فضيلة مشتقة من هدى الدين الحكيم.

(7) و فيها بيان واجب قادة المؤمنين من ألا يتخذوا بطانة من غير المؤمنين، إذ هم في حقيقة أمرهم لا يألون المؤمنون خبالا و يودون عنتهم، ثم فيها تفصيل محكم لغزوة أحد، و بيان سبب الهزيمة و أعقابها، و العبرة في هذه الغزوة التي كانت فيها هزيمة و لكن لم يكن في ها خذلان، بل كانت العبرة فيها و الاعتبار بها باب الفتح المبين. و في أثناء القصة و ختامها بيان حال قتلى المؤمنين و أنهم أحياء عند ربهم يرزقون.

(8) و فيها إشارة إلى أعمال المنافقين في النصر و الهزيمة، و اتباع ضعاف الإيمان لسوستهم، و صيانة الله لأقوياء الإيمان من أعمالهم.

(9) ثم فيها عزاء للنبي صلى الله عليه و سلم بذكر ما كذب به الأنبياء السابقون مع أنهم أتوا بالبينات و الأدلة الحسية القاطعة إذ قال سبحانه: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات و الزبر و الكتاب المنير 184}.

(10) و فيها بيان أن الله سبحانه سيبتلي المؤمنين و يختبرهم، و في الابتلاء صقل إيمانهم.

(11) و فيها بيان أخلاق المؤمنين و تفكرهم في خلق السماوات و الأرض و ما بينهما، و ضراعتهم إلى ربهم، و استجابة الله تعالى لهم، و جزاؤهم يوم القيامة، و المقابلة بينه و بين جزاء الكافرين الذين اغتروا بالحياة الدنيا مع أن متاعها قليل، و فيها إنصاف كريم لبعض أهل الكتاب الذين آمنوا و صدقوا و لم يسرفوا على أنفسهم بالإنكار و التكذيب مع قيام الدلائل الواضحة القاطعة.

(12) ثم ختم سبحانه بدعوة المؤمنين إلى مجاهدة المشركين بالتقوى و بالصبر و بإعداد العدة، فقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا اصبروا و صابروا و اربطوا و اتقوا الله لعلكم تفلحون}...

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

في هذه السورة ثلاثة فصول طويلة:

الأول: في صدد مناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب.

والثاني: في صدد مواقف اليهود ومكائدهم.

والثالث: في صدد وقعة حربية بين النبي والمسلمين والمشركين.

وقد تخلل كل فصل ما يناسب موضوعه من محاجات وتنديدات وتنويهات ومواعظ ومعالجات وتلقينات ومبادئ جليلة...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

هذه السورة التي هي أطول سورة في القرآن بعد سورة البقرة، يدور محور الحديث في آياتها حول ثلاثة موضوعات رئيسية:

- الموضوع الأول: تحديد معنى الدين ومعنى الإسلام، كقوله تعالى في هذه السورة {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}.

- الموضوع الثاني: وصف حال المسلمين مع ربهم وموقفهم من تعاليم الدين وتكاليفه، كقوله تعالى في هذه السورة أيضا {كُنتُم خَيرَ اُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ، تأمرون بالمَعرُوفِ وتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ، وَتُؤمِنُونَ باللهِ}.

- الموضوع الثالث: التحذير المستمر من الثقة بغير المسلمين، وتوضيح ما ينجر للمسلمين من الأخطار والمتاعب إذا والوهم ووثقوا بهم في شؤونهم، كقوله تعالى في نفس السورة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

مدخل عام:

لعل قيمة هذه السورة في الجوّ القرآني أنها تنطلق في اتجاه صنع الشخصية الإنسانية الإسلامية، وهي تواجه هذا الواقع من موقع التنوّع الذي يجمع جانب التطلع الإيماني نحو الله في صفاته وأسمائه الحسنى التي تحيط بالإنسان والكون بالقيوميّة والرعاية، وجانب حركة هذا الإيمان في أعماق النفس في ما يواجه الإنسان من تحديات الرغبة والرهبة، وبذلك لا يعود الإيمان مجرّد خلجات في المشاعر وخطرات في الأفكار، بل ينطلق ليكون موقفاً متحركاً في اتجاهين؛ اتجاهٍ يبني النفس على الأسس الروحية الأخلاقية الصحيحة، لتكون مثالاً للشخصية الإسلامية الصابرة على تحديات نوازعها الذاتية الغريزية في أوضاعها المنحرفة، واتجاهٍ يطلق الشخصية في مواجهة الشخصيات غير الإسلامية في أجواء الصراع الفكري الذي يثير الشبهات ويخلق الانحرافات، وفي مجالات التحديات العملية في حالة الحرب والسلم، لتكون قوية في حلبة الصراع، صابرة على مواطن الإثارة والتحدي التي تختلف أشكالها وأساليبها ونوازعها العامة والخاصة... وهذا ما يريده الإسلام في ما ينطلق فيه من تقرير الصبر كقيمة أخلاقية كبيرة، فهو يريد أن يؤكد دوره الفاعل المتحرك الذي يبني للشخصية روحيتها وللذات حركة مسيرتها، لتكون مصدر إغناء للتجربة الواقعية للحياة والإنسان... وقد أثارت السورة في هذا الجو الكثير من الحديث عن أهل الكتاب في ما أثاروه أمام الإسلام والمسلمين من قضايا ومشاكل وتحديات، كما انطلقت في أجواء التاريخ الديني في نطاق الأديان السابقة في قصص آل عمران، لتواجه به النوازع السوداء لأهل الكتاب من اليهود، وتصور لهم كيف كان التاريخ الناصع المتمثل في هذه النماذج البشرية التي استطاعت أن تعيش الإخلاص لله كأعمق ما يكون الإخلاص، ليتمثلوا ذلك في واقعهم إذا كانوا صادقين في ارتباطهم بذلك التاريخ.

وانطلقت السورة بعد ذلك، لتطرح على أهل الكتاب دعوة اللقاء والمباهلة ليتبين لهم الحقّ من الباطل. وقد أوردت صوراً عن أجواء معارك الإسلام وفي طليعتها معركة أحد التي عاش المسلمون فيها زهو الانتصار في بدايتها كما عاشوا مرارة الهزيمة في نهايتها... وكان القرآن الكريم في هذه السورة يضع النقاط على الحروف ليأخذ من الهزيمة درساً عملياً من أجل المستقبل الذي لا يريد للمسلمين أن يعيشوا فيه ثقل الهزيمة، ليتحرروا من سلبيات الماضي بهذا الخصوص. وأعتقد أن دراسة معركة أحد في هذا الجو القرآني يفوق أية دراسة أخرى تعتمد على تفاصيل القصة في السيرة، لأن قيمة القرآن في نقل القصة، أنه يحشد أمامنا الأجواء الروحية التي كان يعيشها المسلمون كما لو كنا نعيشها في ذلك العصر. إنه ينقل لنا التجربة حيّة وينقدها وهي تتحرك في مراحلها المتقدمة. وهكذا نجد في هذه السورة الكثير من الإيحاءات الروحية والعملية وطريقة التعامل مع الآخرين من أهل الكتاب، وذلك في ما ترصده من حركاتهم وأوضاعهم، من أجل أن تخلق في نفوس المؤمنين المزيد من الوعي العملي عندما يتحركون في ساحة العمل معهم ومع غيرهم، ثم توحي للمؤمنين بأن سبيل الانتصار والنجاح في الحياة، لا يحصل بالاسترخاء والتواكل والكسل والاستغراق في غيبوبة صوفية بعيدة عن الواقع، بل بالعمل الجاد المتحرك الذي يلاحق الحياة من خلال أسبابها الطبيعية التي أودعها الله فيها في ما أودعه من قوانين الحركة في هذه الحياة...

وتبقى للآية أجواؤها الروحية القرآنية التي تجعل الإنسان في حركة مع الروح وهو يفكر، كما تدفعه إلى مرافقتها وهو يعمل ويخطط ويتعاون ويؤيّد ويرفض، ليعرف أن الله يحيط به من جميع الجهات، وأن قيمة أيَّ عمل يعمله تتمثل بمقدار ما يكون قريباً من الله، فهو مع كل شيء وغاية كل شيء في الدنيا والآخرة وهو ولي الأمور...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

محتوى السورة:

ذهب بعض المفسّرين المعروفين أنّ هذه السورة نزلت بين السنة الثانية والثالثة للهجرة، أي بين غزوة بدر وأحد، فهي تعكس في طيّاتها فترة من أشد الفترات حساسيّة في صدر الإسلام. وعلى كلّ حال، فإنّ المحاور الأصلية في أبحاث هذه السورة عبارة عن:

إنّ قسماً مهمّاً من هذه السورة يرتبط بمسألة التوحيد وصفات الله والمعاد والمعارف الإسلامية الأخرى.

وقسم آخر منها يتعلّق بمسألة الجهاد وأحكامه المهمّة والدقيقة، وكذلك الدروس المستفادة من غزوتي بدر واُحد، وبيان الإمداد الإلهي للمؤمنين، والحياة الخالدة الأخروية للشهداء في سبيل الله.

وفي قسم من هذه السورة يدور الحديث حول سلسلة من الأحكام الإسلامية في ضرورة وحدة صفوف المسلمين وفريضة الحجّ وبيت الله الحرام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتولّي والتبرّي ومسألة الأمانة والإنفاق في سبيل الله وترك الكذب وضرورة الاستقامة والصبر في مقابل الأعداء والمشكلات والامتحانات الإلهيّة المختلفة وذكر الله على كلّ حال.

وتطرّقت هذه السورة إلى تكملة للأبحاث التي تتحدّث عن تاريخ الأنبياء (عليهم السلام) ومنهم آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء وقصّة مريم وكرامتها ومنزلتها عند الله، وكذلك المؤامرات التي كان يحوكها أتباع الديانة اليهوديّة والمسيحيّة ضدّ الإسلام والمسلمين. إنّ مواضيع هذه السورة منسجمة ومتناغمة بشكل كأنّها نزلت في وقت واحد...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

قوله تعالى: {الم} هو اسم السورة على المختار، كما تقدم في أول سورة البقرة ويقال: قرأت الم البقرة، والم آل عمران، والم السجدة. ويقرأ بأسماء الحروف لا بمسمياتها...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(ألم).. هذه الأحرف المقطعة: ألف. لام. ميم. نختار في تفسيرها -على سبيل الترجيح لا الجزم- ما اخترنا في مثلها في أول سورة البقرة: إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف، وهي في متناول المخاطبين به من العرب. ولكنه -مع هذا- هو ذلك الكتاب المعجز، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله... إلخ"... وهذا الوجه الذي اخترناه في تفسير هذه الأحرف في أوائل السور -على سبيل الترجيح لا الجزم- يتمشى معنا بيسر في إدراك مناسبات هذه الإشارة في شتى السور. ففي سورة البقرة كانت الإشارة تتضمن التحدي الذي ورد في السورة بعد ذلك: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) إلخ.. فأما هنا في سورة "آل عمران "فتبدو مناسبة أخرى لهذه الإشارة.. هي أن هذا الكتاب منزل من الله الذي لا إله إلا هو، وهو مؤلف من أحرف وكلمات شأنه في هذا شأن ما سبقه من الكتب السماوية التي يعترف بها أهل الكتاب -المخاطبون في السورة- فليس هناك غرابة في أن ينزل الله هذا الكتاب على رسوله بهذه الصورة...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{الم} هذا الاسم القرآني الذي سمى به القرآن هذه السورة، و هذه حروف تقرأ في القرآن الكريم بأسمائها، و هي ألف. لام. ميم. و المعنى الذي تدل عليه هذه الحروف غير معلوم على وجه اليقين، كما أسلفنا في سورة البقرة، و الله أعلم بمراده منها، ولا يستطيع عالم يعتمد على الحقائق العلمية أن يقرر المراد من هذه الحروف، والمعنى المحرر لها، و أقصى ما ذكره العلماء لها حكم يدل عليها ذكرها... و من أحسن ما يقال:... أن النبي الأمي كان ينطق بهذه الحروف التي كان لا يعرفها إلا من يقرأ و يكتب، فاشتمال القرآن عليها مع أميته – عليه السلام – دليل على أنه من عند الله. و من ذلك أيضا ما قيل من هذه الحروف الصوتية التي اشتملت عليها بعض أوائل السور إذا أنطق بها الناطق مع ما فيها من مد طويل أو قصير، استرعى ذلك الأسماع فاتجهت إليه، و إن لم يرد السامعون. و يروى في ذلك أن المشركين من فرط تأثير القرآن قد تفاهموا على ألا يسمعوا لهذا القرآن: {و قال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه لعلكم تغلبون 26} (فصلت)...

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

بدأت السورة بالحروف المتقطعة الثلاثة للتنبيه واسترعاء الذهن إلى ما يأتي بعدها على ما رجحناه في أمثالها. ثم أخذت الآيات بعدها تقرر صفات الله وتنوه بكتبه: فهو الذي لا إله إلا هو الحي القيوم يأمر الكون وما فيه. وهو الذي نزّل الكتاب على النبي والخطاب موجه إليه صدقا وحقا ومصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية ومتطابقا معها كما أنه هو الذي أنزل التوراة والإنجيل من قبله هدى للناس. وقد أنزل الفرقان كذلك هدى للناس. وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو الذي يصور الناس والخطاب موجه إلى السامعين في أرحام أمهاتهم كيف تشاء حكمته. وهو العزيز القوي الذي لا تطاوله قوة والحكيم الذي يفعل ما فيه الحكمة والصواب. ومن أجل ذلك لا يصح أن تكون الألوهية لأحد غيره ولا يصح أن يكون إله إلا هو. والذين يكفرون بآياته ويجحدونها يذوقون عذابه الشديد. وهو القادر المنتقم ممن يقف منه ومن آياته موقف الكفر والجحود...

وجمهور المفسرين على أن المقصد من كلمة الفرقان وصف القرآن بأنه نزل ليكون الفارق بين الحق والباطل والفاصل في ما وقع من اختلاف بين أهل الكتب السماوية السابقة وفيما طرأ عليها من تحريف. وهو وجيه؛ لأن القرآن قد ذكر بلفظ الكتاب في الآية الثانية. تعليق على الآيات الست الأولى... من السورة... وعلى كل حال فالمتبادر أن هذه الآيات الست هي بمثابة مقدمة أو مدخل بين يدي ذكر ما كان من المناظرة أو تعقيب عليها. وهذا استلهم من فحوى الآيات التي أشير فيها إلى التوراة والإنجيل ثم إلى القرآن الذي جاء فرقانا بين الحق والباطل بأسلوب ينطوي على تقرير كونه جاء ليبين ما وقع من تحريف في التوراة والإنجيل وانحراف عنهما، ثم إلى تصوير الله تعالى الناس في الأرحام كيف يشاء مما قد ينطوي فيه إشارة إلى حادث ولادة عيسى عليه السلام بأمر الله وتصويره ومعجزته...

وفي بعض آيات السلسلة ما يؤيد بعض ما جاء في الروايات كما أن في سور أخرى آيات تؤيد ما كان من مماراة الكتابيين ومكابرتهم في أمر النبي والقرآن وهم يعرفون أنه الحق والصدق مما مرّ بعضه في سورة البقرة وما سوف يأتي شيء منه في هذه السورة وغيرها بعدها. وفي سورة التوبة آية صريحة تذكر ما كان من صد كثير من الأحبار والرهبان عن سبيل الله وأكلهم أموال الناس بالباطل وبمعنى آخر حرصهم على مناصبهم وما تدره عليهم من منافع وهي الآية [34]. وإذا كان من شيء يحسن استدراكه فهو ما نبهنا عليه ورجحناه في مقدمة السورة من أن نصارى نجران أرسلوا وفدا مرتين مرة قبل فتح مكة بعد وقعة بدر حيث ناظروا النبي وامتنعوا عن الاستجابة إلى التلاعن معه ووادعوه على ما جاء في رواية ابن هشام، ومرة بعد فتح مكة حيث أخذوا منه عهدا بذمته وفرض عليهم فيه الجزية. والله تعالى أعلم...

وإتماما للفائدة وكنموذج لكتب عهد النبي صلى الله عليه وسلم للوافدين عليه وما فيها من مظاهر الحق والعدل والتسامح والتشريع السياسي نورد في ما يلي نص العهد نقلا عن كتاب الخراج للإمام أبي يوسف:"بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما كتب محمد النبي رسول الله لأهل نجران إذ كان عليهم حكمه في كل ثمرة وفي كل صفراء وبيضاء ورقيق فأفضل ذلك عليهم وترك ذلك كله لهم. على ألفي حلة من حلل الأواقي في كل رجب ألف حلة، وفي كل صفر ألف حلة مع كل حلة أوقية من الفضة فما زادت على الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب، وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاز أو عرض أخذ منهم بالحساب. وعلى نجران مؤونة رسلي ومنعتهم ما بين عشرين يوما فما دون ذلك. ولا تحبس رسلي فوق شهر. وعليهم عارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا إذا كان كيد باليمن ومعرة، وما هلك مما أعاروه رسلي من دروع أو خيل أو ركاب أو عرض فهو ضمن على رسلي حتى يؤدوه لهم. ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم. وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته وليس عليهم دية ولا دم جاهلية. ولا يسخرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش. ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين. ومن أكل ربا منهم فذمتي منه بريئة. ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر. وعلى ما في هذا الكتاب جواز الله وذمة محمد النبي رسول الله حتى يأتي الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم غير منفلتين بظلم. شهد أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو ومالك بن عوف من بني نصر والأقرع بن حابس الحنظلي والمغيرة بن شعبة. وكتب هذا الكتاب عبد الرحمن بن أبي بكر". وقد يثير هذا الانسجام والسبك شبهة في صحة الكتاب. ولكنا نرجح أن هذا مما كان متداولا منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولا ينفيه ما يمكن أن يكون طرأ عليه من تنميق وسبك أو بعض زيادة ونقص. والله تعالى أعلم...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{الم} وجاءت أيضاً في سور أخرى، في سورة العنكبوت، وفي سورة الروم، ولقمان، والسجدة، وزاد عليها راءً في بعض السور، وزاد عليها صاداً في بعض السور "المص "و "المر" كل ذلك جاء تأكيداً للمعاني أو تأكيداً للسر الذي وضعه الله في هذه الحروف، وإن لم نكن ندرك ذلك السر...

والإنسان ينتفع بأسرار الأشياء التي وضعها من أوجد الأشياء وإن لم يعلم هذه الأشياء فهو منتفع بها، وضربنا المثل وقلنا: إن الريفي الذي ليس عنده ثقافة في الكهرباء، أيستفيد بالكهرباء أم لا؟ إنه يستفيد بها ويحرك زر المصباح لينيره أو ليطفئه، أهو يعلم سر ذلك؟ لا، لكنه إنما انتفع به، فكذلك المؤمن حين يقول: "ألف لام ميم"، يأخذ سرها من قائلها، فهمها أم لم يفهمها، إذن فالمسألة لا تحتاج إلى أن نفلسفها، صحيح أن العقل البشري يحول حول شيء ليستأنس به، ولكن عطاء الله وحكمة العطاء فوق ما يستأنس به وفوق ما نستوحش منه. وقول الحق سبحانه في ختام سورة البقرة: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} يناسب أيضاً سورة آل عمران، لماذا؟ لأن الإسلام سيأتي ليواجه معسكر كفر ومعسكر أهل الكتاب، فحتى لا تتشقق دعوة الله التي صدرت عن الله بمواكب الرسل جميعاً الذين سبقوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأن هذا جاء ليناقض شيئاً منه، إنه قد جاء ليعزز دعوة الله، ولتكون هذه الأمم التي تبعت هذه الديانات في صف الإسلام. ولذلك حينما أنكر العرب رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله لهم: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أي أن من عنده علم الكتاب يشهد أنك رسول الله. {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43]. فكان المفروض في أهل الكتاب أنهم حينما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكونوا هم أول المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه جاء ليؤكد موكب الإيمان ويأتي لهم بسورة يسميها آل عمران حتى يعلم الجميع أنك يا محمد لم تأتي لتهدم ديانة عيسى، ولكن لتبقى ديانة عيسى ولتؤيد ديانة عيسى، فإن كنتم يا من آمنتم بعيسى مؤمنين بعيسى فاهرعوا حالاً إلى الإيمان بمحمد؛ فقد سماها الله آل عمران، وجعل لهم سورة في القرآن. إن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم تأت للعصبية، أو لتمحو ما قبلها كما تأتي عصبيات البشر؟؟ين يأتي قوم على أنقاض قوم، ويهدمون كل ما يتصل بهؤلاء القوم حتى التاريخ يمحونه، والأشياء يمسخونها؛ لأنهم يريدون أن ينشئوا تاريخاً جديداً. لا إن هذا القرآن يريد أن يصوب التاريخ، فيأتي بسورة اسمها" آل عمران "وذلك تكريم عال لهذه الديانة ولتابعيها. وبعد ذلك يأتي الحق فيستهلها: بقوله جل شأنه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}...