في هذه السورة ثلاثة فصول طويلة : الأول في صدد مناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب . والثاني في صدد مواقف اليهود ومكائدهم . والثالث في صدد وقعة حربية بين النبي والمسلمين والمشركين . وقد تخلل كل فصل ما يناسب موضوعه من محاجات وتنديدات وتنويهات ومواعظ ومعالجات وتلقينات ومبادئ جليلة .
وجمهور المفسرين وكتاب السيرة{[1]} متفقون على أن المناظرة التي جاء الفصل الأول في صددها كانت مع وفد نصارى نجران . ولكنهم لا يذكرون متى قدم هذا الوفد إلى المدينة . وفي سياق لابن سعد في الجزء الثاني من طبقاته{[2]} وللإمام أبي يوسف في كتابه الخراج{[3]} نصّ عهد نبوي لهم من شهوده أبو سفيان بن حرب . وهذا قد يعني إن صح أن العهد كتب بعد فتح مكة بما لا يقل عن سنة . ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب العهد الذي كتبه لهم أمنهم على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وبيعهم وأن لا يغير أسقف عن أسقفيته وفرض عليهم جزية سنوية مقدارها ألفا حلة وآذنهم فيه أن ذمته بريئة ممن أكل الربا منهم . . إلخ . لأن هذا لا يمكن أن يكون وقع إلا بعد أن صار للنبي سلطان على اليمن . وهذا إنما ثمّ بعد فتح مكة . وقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد من نصارى نجران على النبي في سلسلة أخبار وقعت أحداثها قبل فتح مكة بمدة طويلة بل وقبل خبر وقعة أحد التي كانت في السنة الهجرية الثالثة . ولم يذكر تاريخا ولا كتاب عهد مع ذكره أن الشطر الأول من السورة قد نزل في مناسبة قدومه ، وأنهم تناظروا معه في أمر المسيح وأنه اقترح عليهم المباهلة وجعل لعنة الله على الكاذبين امتنعوا وقالوا له : نوادعك ونبقى على ديننا{[4]} .
وإجماع الروايات على أن الفصل الأول هو في صدد هذا الوفد ومجيء السورة في الترتيبات المروية بعد سورة الأنفال يسوغان القول : إن وفد نجران قد قدم في وقت مبكر جدا من العهد المدني وقبل فتح مكة . ويكون خبر نزول سورة آل عمران بعد سورة الأنفال بسبب الفصل الذي فيه خبر المناظرة مع الوفد واردا صحيحا . وحينئذ يكون الخبر الذي رواه ابن سعد وأبو يوسف عن قدوم الوفد بعد فتح مكة وكتابة النبي صلى الله عليه وسلم عهدا له حادثا ثانيا .
وجمهور المفسرين متفقون كذلك على أن الوقعة الحربية التي جاء الفصل الثالث من فصول السور في صددها هي وقعة أحد التي جرت بين المسلمين وبين جيش كفار قريش عند جبل أحد قرب المدينة بعد خمسة عشر شهرا من وقعة بدر حيث زحف صناديد قريش على رأس جيش كبير من مكة على يثرب لأخذ ثأرهم من يوم بدر . وورود هذا الفصل في السورة يؤيد وجاهة كون السورة نزلت بعد سورة الأنفال التي دار معظمها على وقعة بدر . ولقد أورد ابن هشام خبر قدوم وفد نجران قبل خبر وقعة أحد . وقد يؤيد كون وفد نجران جاء قبل وقعة أحد ورود فصل المناظرة في السورة قبل فصل أحد . ولعل انتصار النبي والمسلمين في بدر على أهل مكة كان ذا دويّ عظيم في أنحاء الجزيرة وهذا مما لا يتحمل ريبا حفز نصارى نجران على إرسال وفدهم لاستطلاع النبأ النبوي العظيم وسهل قدومه . والله تعالى أعلم .
ومن المحتمل أن تكون مواقف اليهود التي جاء الفصل الثاني في صددها قد كانت في ظروف قدوم وفد نجران فوضعت فصلا ثانيا . وفي كتب التفسير{[5]} روايات تذكر أن اليهود كانوا طرفا ثالثا في ما كان يجري من مناظرة بين النبي ووفد نجران . وفي هذا الفصل خطاب موجه إلى أهل الكتاب عامة حينا وإلى النصارى واليهود حينا مما فيه تأييد لذلك . ولقد ذكرت روايات المفسرين{[6]} اسم بني النضير في سياق تفصيل المواقف اليهودية التي حكاها الفصل . وبنو النضير إنما أجلوا عن المدينة بعد وقعة أحد . وفي هذا تأييد آخر . وقد يدل هذا أن وقعة أحد قد كانت بعد ذلك فوضع فصلها بعد الفصلين . ومع كل ما تقدم فنحن نرجح أن فصول السورة وآياتها قد رتبت بعد استكمال نزولها كما هو شأن سورة البقرة . والله أعلم .
1{ الم ( 1 ) اللّهُ لا إلاه إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ( 2 ) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ( 3 ) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ( 4 ) إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ( 5 ) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 6 ) } [ 1 6 ] .
بدأت السورة بالحروف المتقطعة الثلاثة للتنبيه واسترعاء الذهن إلى ما يأتي بعدها على ما رجحناه في أمثالها . ثم أخذت الآيات بعدها تقرر صفات الله وتنوه بكتبه : فهو الذي لا إله إلا هو الحي القيوم يأمر الكون وما فيه . وهو الذي نزّل الكتاب على النبي والخطاب موجه إليه صدقا وحقا ومصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية ومتطابقا معها كما أنه هو الذي أنزل التوراة والإنجيل من قبله هدى للناس . وقد أنزل الفرقان كذلك هدى للناس . وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو الذي يصور الناس والخطاب موجه إلى السامعين في أرحام أمهاتهم كيف تشاء حكمته . وهو العزيز القوي الذي لا تطاوله قوة والحكيم الذي يفعل ما فيه الحكمة والصواب . ومن أجل ذلك لا يصح أن تكون الألوهية لأحد غيره ولا يصح أن يكون إله إلا هو . والذين يكفرون بآياته ويجحدونها يذوقون عذابه الشديد . وهو القادر المنتقم ممن يقف منه ومن آياته موقف الكفر والجحود .
والآيات صريحة بأن الله أنزل التوراة والإنجيل . ولقد شرحنا في سياق تفسير الآيات [ 157 158 ] من سورة الأعراف معنى الكلمتين ومدى ما تدل عليهما وما هو المتداول في أيدي الكتابين مما يطلق عليه الكلمتان ، وما يعرف بالعهد القديم والعهد الجديد فلا نرى حاجة إلى الإعادة والزيادة . إلا أن نقول إن في العبارة القرآنية هنا توكيدا لما قررناه من أن القرآن عنى بالتوراة والإنجيل كتابين أوحى الله بهما وأنزلهما وإنهما غير ما في أيدي اليهود والنصارى من أسفار كتبت بأقلام بشرية . وفي ظروف مختلفة وبعد موسى وعيسى وفيهما من التناقض والشوائب ما تتنزه عنه كتب الله التي أنزلها على أنبيائه .
وجمهور المفسرين على أن المقصد من كلمة الفرقان وصف القرآن بأنه نزل ليكون الفارق بين الحق والباطل والفاصل في ما وقع من اختلاف بين أهل الكتب السماوية السابقة وفيما طرأ عليها من تحريف . وهو وجيه ؛ لأن القرآن قد ذكر بلفظ الكتاب في الآية الثانية .
لقد روى الطبري وتابعه آخرون أن هذه الآيات إلى بضع وثمانين آية بعدها نزلت في مناسبة قدوم وفد من نصارى نجران ومناظرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في صفات الله والمسيح . وقد روى هذا ابن هشام عن ابن إسحق وهما أقدم بمائة سنة من الطبري . غير أن المستفاد من سياق ابن هشام أن الذي نزل في هذه المناسبة هو [ 64 ] آية فقط . وروح الآيات قد تدعم صحة رواية نزولها في مناظرة بين النبي وفريق من النصارى سواء أكان عدد آياتها ما ذكره الطبري أو ما ذكره ابن هشام لأنها تنطوي على تقريرات حقائق عن الله تعالى وعيسى عليه السلام ينكر بعضها طرف آخر أو يأخذها على غير وجهها الحق وعلى التنديد بهذا الطرف بسبب ذلك .
وليس في الآيات ما يساعد على القول ما إذا كانت هذه السلسلة نزلت دفعة واحدة كما يستفاد من الطبري وابن هشام ، أم متفرقة ، غير أن ما فيها من مواضيع ومشاهد متنوعة واستطرادا يجعلنا نرجح أنها لم تنزل دفعة واحدة . والله تعالى أعلم .
وعلى كل حال فالمتبادر أن هذه الآيات الست هي بمثابة مقدمة أو مدخل بين يدي ذكر ما كان من المناظرة أو تعقيب عليها . وهذا استلهم من فحوى الآيات التي أشير فيها إلى التوراة والإنجيل ثم إلى القرآن الذي جاء فرقانا بين الحق والباطل بأسلوب ينطوي على تقرير كونه جاء ليبين ما وقع من تحريف في التوراة والإنجيل وانحراف عنهما ، ثم إلى تصوير الله تعالى الناس في الأرحام كيف يشاء مما قد ينطوي فيه إشارة إلى حادث ولادة عيسى عليه السلام بأمر الله وتصويره ومعجزته{[407]} .
وخلاصة ما رواه المفسرون وكتاب السيرة وبخاصة ابن هشام عن وفد نصارى نجران أنه قدم المدينة في ستين راكبا فيهم أربعة عشر من أشرافهم . وفيهم ثلاثة هم الرؤساء فيهم وهم عبد المسيح أمير القوم وعاقبهم وصاحب مشورتهم والأيهم ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم ، وأبو حارثة أسقفهم وحبرهم وإمامهم . وقد أنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم في مسجدهم وسمح لهم بالصلاة فيه نحو المشرق . وقد ناظروه وجادلوه في أمر عيسى وألوهيته وبنوته وتلا عليهم ما ورد في القرآن عنه ودعاهم إلى الرجوع عما في عقيدتهم فيه من انحراف ، فماروا وكابروا فعرض عليهم المباهلة والملاعنة ؛ حيث يدعو كل فريق من الفريقين أن يلعن الله الكاذب فيهم . فاستمهلوه إلى الغد وتشاوروا فيما بينهم فقال لهم عبد المسيح : لقد عرفتم والله أن محمدا لنبي مرسل . ولقد علمتم أنه لم يلاعن قوم نبيا قط إلا استأصلهم الله فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم ، فوادعوا الرجل ولا تلاعنوه . فغدوا على رسول الله وقالوا له : قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا . وسألوه ألست تقول : إن عيسى كلمة الله وروح منه قال : بلى . قالوا : حسبنا هذا منك . وطلبوا منه حسب رواية ابن هشام أن يرسل معهم شخصا من أصحابه يقضي في خلاف ناشب بين بعضهم على حقوق وأرضين فأرسل معهم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه . وطلبوا منه حسب رواية ابن سعد وأبي يوسف أن يكتب لهم كتاب أمان وعهد فكتب لهم كتابا أعطاهم فيه عهده وذمته وأمنهم على أنفسهم وحالتهم وعباداتهم ما لم يظلموا ويتعاملوا بالربا وفرض عليهم جزية سنوية . ومما رواه ابن هشام أن أبا حارثة اعترف لأخ له اسمه كرز بصدق نبوة محمد فقال له وما يمنعك منه وأنت تعلم هذا فقال : ما صنع قومنا لنا شرفونا وأكرمونا ومولونا وأبوا إلا مخالفته . وهناك رواية طويلة جدا أوردها ابن كثير عن البيهقي تفيد أن قدوم وفد نجران على النبي كان قبل نزول سورة النمل . وبناء على رسالة أرسلها النبي إلى نصارى نجران . وأن الوفد كان مؤلفا من ثلاثة فناظروه ، ثم أبوا التلاعن معه وطلبوا موادعته وأخذوا منه عهدا وفرض عليهم جزية إلخ مما ذكرته الروايات الأخرى .
وليس شيء من أخبار وفد نجران واردا في كتب الصحاح . غير أن هذا لا يمنع أن فيما جاء في الروايات حقائق صحيحة . وقد اتفق على روايتها كتاب السيرة والمفسرون القدماء ، ولا سيما الإمامان أبو يوسف وأبو عبيد باستثناء رواية البيهقي التي تبدو شاذة عن الروايات الأخرى ومتناقضة وغير متسقة مع الوقائع والحقائق ، من حيث إن سورة النمل مكية ونزلت في عهد مبكر من العهد المكي وأن ما ورد فيها لا يمكن أن يكون إلا في المدينة وفي حالة كان النبي صلى الله عليه وسلم في قوة وسلطان .
وفي بعض آيات السلسلة ما يؤيد بعض ما جاء في الروايات كما أن في سور أخرى آيات تؤيد ما كان من مماراة الكتابيين ومكابرتهم في أمر النبي والقرآن وهم يعرفون أنه الحق والصدق مما مرّ بعضه في سورة البقرة وما سوف يأتي شيء منه في هذه السورة وغيرها بعدها . وفي سورة التوبة آية صريحة تذكر ما كان من صد كثير من الأحبار والرهبان عن سبيل الله وأكلهم أموال الناس بالباطل وبمعنى آخر حرصهم على مناصبهم وما تدره عليهم من منافع وهي الآية [ 34 ] .
وإذا كان من شيء يحسن استدراكه فهو ما نبهنا عليه ورجحناه في مقدمة السورة من أن نصارى نجران أرسلوا وفدا مرتين مرة قبل فتح مكة بعد وقعة بدر حيث ناظروا النبي وامتنعوا عن الاستجابة إلى التلاعن معه ووادعوه على ما جاء في رواية ابن هشام ، ومرة بعد فتح مكة حيث أخذوا منه عهدا بذمته وفرض عليهم فيه الجزية . والله تعالى أعلم .
وإتماما للفائدة وكنموذج لكتب عهد النبي صلى الله عليه وسلم للوافدين عليه وما فيها من مظاهر الحق والعدل والتسامح والتشريع السياسي نورد في ما يلي نص العهد نقلا عن كتاب الخراج للإمام أبي يوسف : " بسم الله الرحمن الرحيم : هذا ما كتب محمد النبي رسول الله لأهل نجران إذ كان عليهم حكمه في كل ثمرة وفي كل صفراء وبيضاء ورقيق فأفضل ذلك عليهم وترك ذلك كله لهم . على ألفي حلة من حلل الأواقي في كل رجب ألف حلة ، وفي كل صفر ألف حلة مع كل حلة أوقية من الفضة فما زادت على الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب ، وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاز أو عرض أخذ منهم بالحساب . وعلى نجران مؤونة رسلي ومنعتهم ما بين عشرين يوما فما دون ذلك . ولا تحبس رسلي فوق شهر . وعليهم عارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا إذا كان كيد باليمن ومعرة ، وما هلك مما أعاروه رسلي من دروع أو خيل أو ركاب أو عرض فهو ضمن على رسلي حتى يؤدوه لهم . ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم . وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته وليس عليهم دية ولا دم جاهلية . ولا يسخرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش . ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين . ومن أكل ربا منهم فذمتي منه بريئة . ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر . وعلى ما في هذا الكتاب جواز الله وذمة محمد النبي رسول الله حتى يأتي الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم غير منفلتين بظلم . شهد أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو ومالك بن عوف من بني نصر والأقرع بن حابس الحنظلي والمغيرة بن شعبة . وكتب هذا الكتاب عبد الرحمن بن أبي بكر " .
وقد يثير هذا الانسجام والسبك شبهة في صحة الكتاب . ولكنا نرجح أن هذا مما كان متداولا منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم . ولا ينفيه ما يمكن أن يكون طرأ عليه من تنميق وسبك أو بعض زيادة ونقص . والله تعالى أعلم .