97- جعل الله الكعبة ، وهي البيت الذي عظَّمه وحرَّم الاعتداء فيه على الإنسان والحيوان غير المستأنس وفيما حوله ، جعله قائماً معظماً يأمن الناس فيه ، ويتجهون إليه في صلاتهم ، ويحجون إليه ليكونوا في ضيافة الله ، وليعملوا على جمع شملهم ، وكذلك جعل شهر الحج وما يهدى إلى الكعبة من الأنعام ، وخاصة ما يوضع في عنقه القلائد لإشعار الناظرين بأنه مهدى إلى البيت . ونتيجة القيام بذلك أن تستيقنوا أن علمه محيط بما في السماوات التي ينزل منها الوحي بالتشريع ، ومحيط بما في الأرض ، فيشرع لمن فيها بما يقوم بمصالحهم . وإن علمه بكل شيء محيط .
قوله تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام } ، قال مجاهد : سميت كعبة لتربيعها ، والعرب تسمي كل بيت مربع كعبةً ، قال مقاتل : سميت كعبة لانفرادها من البناء ، وقيل : سميت كعبة لارتفاعها من الأرض ، وأصلها من الخروج والارتفاع ، وسمي الكعب كعباً لنتوه ، وخروجه من جانبي القدم ، ومنه قيل للجارية إذا قاربت البلوغ ، وخرج ثديها تكعبت . وسمي البيت الحرام : لأن الله تعالى حرمه ، وعظم حرمته ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ) . قوله تعالى : { قياماً للناس } ، قرأ ابن عامر { قيماً } بلا ألف ، والآخرون : ( قياما ) بالألف ، أي قواماً لهم في أمر دينهم ودنياهم . أما الدين لأن به يقوم الحج والمناسك ، وأما الدنيا فيما يجبى إليه من الثمرات ، وكانوا يأمنون فيه من النهب والغارة ، فلا يتعرض لهم أحد في الحرم .
قال الله تعالى : { أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم } [ العنكبوت :67 ]
قوله تعالى : { والشهر الحرام } . أراد به الأشهر الحرم وهي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب ، أراد أنه جعل الأشهر الحرم قياماً للناس ، يأمنون فيها القتال .
قوله تعالى : { والهدي والقلائد } . أراد أنهم كانوا يأمنون بتقليد الهدي ، فذلك القوام فيه .
قوله تعالى : { ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم } ، فإن قيل : أي اتصال لهذا الكلام بما قبله ؟ قيل : أراد الله عز وجل جعل الكعبة قياماً للناس لأن الله تعالى يعلم صلاح العباد ، كما يعلم ما في السماوات وما في الأرض . وقال الزجاج : قد سبق في هذه السورة الإخبار عن الغيوب ، والكشف عن الأسرار ، مثل قوله { سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين } ، ومثل إخباره بتحريفهم الكتب ، ونحو ذلك فقوله : { ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } راجع إليه .
إنها منطقة الأمان يقيمها الله للبشر في زحمة الصراع . . إنها الكعبة الحرام ، والأشهر الحرام ، تقدم في وسط المعركة المستعرة بين المتخاصمين والمتحاربين والمتصارعين والمتزاحمين على الحياة بين الأحياء من جميع الأنواع والأجناس . . بين الرغائب والمطامع والشهوات والضرورات . . فتحل الطمأنينة محل الخوف ، ويحل السلام محل الخصام ، وترف أجنحة من الحب والإخاء والأمن والسلام . وتدرب النفس البشرية في واقعها العملي - لا في عالم المثل والنظريات - على هذه المشاعر وهذه المعاني ؛ فلا تبقى مجرد كلمات مجنحة ورؤى حالمة ، تعز على التحقيق في واقع الحياة :
( جعل الله الكعبة البيت الحرام ، قياما للناس ، والشهر الحرام ، والهدي والقلائد . ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم . اعلموا أن الله شديد العقاب ، وأن الله غفور رحيم ، ما على الرسول إلا البلاغ ؛ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) . .
لقد جعل الله هذه الحرمات تشمل الإنسان والطير والحيوان والحشرات بالأمن في البيت الحرام ، وفي فترة الإحرام بالنسبة للمحرم حتى وهو لم يبلغ الحرم . كما جعل الأشهر الحرم الأربعة التي لا يجوز فيها القتل ولا القتال وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثم رجب . . ولقد ألقى الله في قلوب العرب - حتى في جاهليتهم - حرمة هذه الأشهر . فكانوا لا يروعون فيها نفسا ، ولا يطلبون فيها دما ، ولا يتوقعون فيها ثأرا ، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه ، فكانت مجالا آمنا للسياحة والضرب في الأرض وابتغاء الرزق . . جعلها الله كذلك لأنه أراد للكعبة - بيت الله الحرام - أن تكون مثابة أمن وسلام . تقيم الناس وتقيهم الخوف والفزع . كذلك جعل الأشهر الحرم لتكون منظقة أمن في الزمان كالكعبة منطقة أمن في المكان . ثم مد رواق الأمن خارج منطقة الزمان والمكان ، فجعله حقا للهدي - وهو النعم - الذي يطلق ليبلغ الكعبة في الحج والعمرة ؛ فلا يمسه أحد في الطريق بسوء . كما جعله لمن يتقلد من شجر الحرم ، معلنا احتماءه بالبيت العتيق .
لقد جعل الله هذه الحرمات منذ بناء هذا البيت على أيدي إبراهيم وإسماعيل ؛ وجعله مثابة للناس وأمنا ، حتى لقد امتن الله به على المشركين أنفسهم ؛ إذ كان بيت الله بينهم مثابة لهم وأمنا ، والناس من حولهم يتخطفون ، وهم فيه وبه آمنون ، ثم هم - بعد ذلك - لا يشكرون الله ؛ ولا يفردونه بالعبادة في بيت التوحيد ؛ ويقولون للرسول [ ص ] إذ يدعوهم إلى التوحيد : إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا . فحكى الله قولهم هذا وجبههم بحقيقة الأمن والمخافة : ( وقالوا : إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا . أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون )
وفي الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله [ ص ] يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرام ، لا يعضد شجرة ، ولا يختلى خلاه ، ولا ينفر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف " .
ولم يستثن من الأحياء مما يجوز قتله في الحرم وللمحرم إلا الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور لحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين : " أمر رسول الله [ ص ] بقتل خمس فواسق في الحل والحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " . .
" وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - زيادة الحية . "
كذلك حرمت المدينة لحديث علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] " المدينة حرم ما بين عير إلى ثور " . . وفي الصحيحين من حديث عباد بن تميم أن رسول الله [ ص ] قال :
إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها ، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة .
وبعد ، فإنها ليست منطقة الأمان في الزمان والمكان وحدهما . وليس رواق الأمن الذي يشمل الحيوان والإنسان وحدهما . . إنما هي كذلك منطقة الأمان في الضمير البشري . . ذلك المصطرع المترامي الأطراف في أغوار النفس البشرية . . هذا المصطرع الذي يثور ويفور فيطغى بشواظه وبدخانه على المكان والزمان ، وعلى الإنسان والحيوان ! . . إنها منطقة السلام والسماحة في ذلك المصطرع ، حتى ليتحرج المحرم أن يمد يده إلى الطير والحيوان . وهما - في غير هذه المنطقة - حل للإنسان . ولكنهما هنا في المثابة الآمنة . في الفترة الآمنة . في النفس الآمنة . . إنها منطقة المرانة والتدريب للنفس البشرية لتصفو وترق وترف فتتصل بالملأ الأعلى ؛ وتتهيأ للتعامل مع الملأ الأعلى . .
ألا ما أحوج البشرية المفزعة الوجلة ، المتطاحنة المتصارعة . . إلى منطقة الأمان ، التي جعلها الله للناس في هذا الدين ، وبينها للناس في هذا القرآن ! ( ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، وأن الله بكل شيء عليم ) . .
تعقيب عجيب في هذا الموضع ؛ ولكنه مفهوم ! إن الله يشرع هذه الشريعة ، ويقيم هذه المثابة ، ليعلم الناس أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم . . ليعلموا أنه يعلم طبائع البشر وحاجاتهم ومكنونات نفوسهم وهتاف أرواحهم . وأنه يقرر شرائعه لتلبية الطبائع والحاجات ، والاستجابة للأشواق والمكنونات . . فإذا أحست قلوب الناس رحمة الله في شريعته ؛ وتذوقت جمال هذا التطابق بينها وبين فطرتهم العميقة علموا أن الله يعلم ما في السماوات والأرض وأن الله بكل شيء عليم .
إن هذا الدين عجيب في توافيه الكامل مع ضرورات الفطرة البشرية وأشواقها جميعا ؛ وفي تلبيته لحاجات الحياة البشرية جميعا . . إن تصميمه يطابق تصميمها ؛ وتكوينه يطابق تكوينها . وحين ينشرح صدر لهذا الدين فإنه يجد فيه من الجمال والتجاوب والأنس والراحة ما لا يعرفه إلا من ذاق !
القول في تأويل قوله تعالى : { جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لّلنّاسِ وَالشّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . .
يقول تعالى ذكره : صير الله الكعبة البيت الحرام قواما للناس الذين لا قوام لهم ، من رئيس يحجز قويهم عن ضعيفهم ومسيئهم عن محسنهم وظالمهم عن مظلومهم والشّهْرَ الحَرَامَ والهَدْيَ والقلائِدَ فحجز بكلّ واحد من ذلك بعضهم عن بعض ، إذ لم يكن لهم قيام غيره ، وجعلها معالم لدينهم ومصالح أمورهم .
والكعبة فيما قيل كعبة لتربيعها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : إنما سميت الكعبة لأنها مربعة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا هاشم بن القاسم ، عن أبي سعيد المؤدّب ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة ، قال : إنما سميت الكعبة لتربيعها .
وقيل قِياما للنّاسِ بالياء ، وهو من ذوات الواو ، لكسرة القاف وهي فاء الفعل ، فجعلت العين منه بالكسرة ياء ، كما قيل في مصدر : «قمت » قياما ، و «صمت » صياما ، فحوّلت العين من الفعل وهي واو ياء لكسرة فائه ، وإنما هو في الأصل : قمت قواما ، وصمت صواما . وكذلك قوله : " جَعَلَ اللّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِياما للنّاسِ " فحوّلت واوها ياء ، إذ هي «قوام » . وقد جاء ذلك من كلامهم مقولاً على أصله الذي هو أصله ، قال الراجز :
***قِوَامُ دُنْيا وَقِوَامُ دِين ***
فجاء به بالواو على أصله . وجعل تعالى ذكره الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قواما لمن كان يحترم ذلك من العرب ويعظمه ، بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر تباعه .
وأما الكعبة فالحرم كله ، وسماها الله تعالى حراما لتحريمه إياها أن يصاد صيدها أو يختلى خلاها أو يعضد شجرها . وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل .
وقوله : " وَالشّهْرَ الحَرَامَ والهَدْيَ وَالقَلائِدَ " يقول تعالى ذكره : وجعل الشهر الحرام والهدي والقلائد أيضا قياما للناس ، كما جعل الكعبة البيت الحرام لهم قياما . والناس الذين جعل ذلك لهم قياما مختلف فيهم ، فقال بعضهم : جعل الله ذلك في الجاهلية قياما للناس كلهم . وقال بعضهم : بل عَنَى به العربَ خاصة . وبمثل الذي قلنا في تأويل القوام قال أهل التأويل .
ذكر من قال : عنى الله تعالى بقوله : " جَعَلَ اللّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِياما للنّاسِ " القوام على نحو ما قلنا :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا من سمع خَصيفا يحدّث عن مجاهد في : " جعلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الحَرَامَ قِيَاما لِلنّاسِ " قال : قواما للناس .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير : " قِياما للنّاسِ " قال : صلاحا لدينهم .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا داود ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في : " جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الحَرامَ قيَاما للنّاسِ " قال : حين لا يرجون جنة ولا يخافون نارا ، فشدّد الله ذلك بالإسلام .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن إسرائيل ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير ، قوله : " جَعَلَ اللّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِياما للنّاسِ " قال : شدّة لدينهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " جَعَلَ اللّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِياما للنّاسِ " قال : قيامها أن يأمن من توجه إليها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " جَعَلَ اللّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِياما للنّاسِ والشّهْرَ الحَرَامَ وَالهَدْيَ وَالقَلائِدَ " يعني قياما لدينهم ، ومعالم لحجهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " جَعَلَ اللّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِياما للنّاسِ والشّهْرَ الحَرَامَ والهَدْيَ وَالقَلائِدَ " جعل الله هذه الأربعة قياما للناس ، هو قوام أمرهم .
وهذه الأقوال وإن اختلفت من قائلها ألفاظها ، فإن معانيها آيلة إلى ما قلنا في ذلك من أن القوام للشيء هو الذي به صلاحه ، كالملك الأعظم قوام رعيته ومن في سلطانه ، لأنه مدبر أمرهم وحاجز ظالمهم عن مظلومهم والدافع عنهم مكروه من بغاهم وعاداهم .
وكذلك كانت الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قوام أمر العرب الذي كان به صلاحهم في الجاهلية ، وهي في الإسلام لأهله معالم حجهم ومناسكهم ومتوجههم لصلاتهم وقبلتهم التي باستقبالها يتمّ فرضهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قالت جماعة أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا جامع بن حماد ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " جَعَلَ اللّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِياما للنّاسِ والشّهْرَ الحَرَامَ والهَدْيَ والقَلائدَ " حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية فكان الرجل لو جرّ كلّ جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يُتناول ولم يُقرب . وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه . وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر فأحمته ومنعته من الناس ، وكان إذا نفر تقلد قلادة من الإذخر أو من لحاء السّمُر ، فمنعته من الناس حتى يأتي أهله حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " جَعَلَ اللّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِياما للنّاسِ والشّهْرَ الحَرَامَ والهَدْيَ والقَلائِدَ " قال : كان الناس كلهم فيهم ملوك تدفع بعضهم عن بعض . قال : ولم يكن في العرب ملوك تدفع بعضهم عن بعض ، فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قياما يدفع بعضهم عن بعض به ، والشهر الحرام كذلك يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرم والقلائد . قال : ويلقى الرجل قاتل أخيه أو ابن عمه فلا يعرض له . وهذا كله قد نسخ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَالقَلائِدَ كان ناس يتقلدون لحاء الشجر في الجاهلية إذا أرادوا الحجّ ، فيعرفون بذلك .
وقد أتينا على البيان عن ذكر الشهر الحرام والهدي والقلائد فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : " ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أنّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ وأنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " .
يعني تعالى ذكره بقوله : ذَلكَ تصييره الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد . يقول تعالى ذكره : صَيّرت لكم أيها الناس ذلك قياما كي تعلموا أن من أُحدِث لكم لمصالح دنياكم ما أحدث مما به قوامكم ، علما منه بمنافعكم ومضارّكم أنه كذلك يعلم جميع ما في السموات وما في الأرض مما فيه صلاح عاجلكم وآجلكم ، ولتعلموا أنه بكلّ شيء عليم ، لا يخفى عليه شيء من أموركم وأعمالكم ، وهو محصيها عليكم حتى يجازي المحسن منكم بإحسانه والمسيء منكم بإساءته .
ثم ذَّكر تعالى بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير ، ولما بان في هذه الآيات تعظيم الحرم والحرمة بالإحرام من أجل الكعبة وأنها بيت الله وعنصر هذه الفضائل ، ذكر تعالى في قوله تعالى : { جعل الله } الآية ما سنه في الناس وهداهم إليه وحمل عليه الجاهلية الجهلاء من التزامهم أن الكعبة قوام و «الهدي » قوام و «القلائد » قوام أي أمر يقوم للناس بالتأمين وحل الحرب كما يفعل الملوك الذين هم قوام العالم ، فلما كانت تلك الأمة لا ملك لها جعل الله هذه الأشياء كالملك لها ، وأعلم تعالى أن التزام الناس لذلك هو مما شرعه وارتضاه ، ويدل على مقدار هذه الأمور في نفوسهم أن النبي عليه السلام لما بعثت إليه قريش زمن الحديبية الحليس ، فرآه النبي ، قال : هذا رجل يعظم الحرمة فالقوه بالبدن مشعرة ، فلما رآها الحليس عظم ذلك عليه ، وقال : ما ينبغي أن يصد هؤلاء ورجع عن رسالتهم{[4733]} .
و[ جعل ] في هذه الآية بمعنى صير ، والكعبة بيت مكة ، وسمي كعبة لتربيعه ، قال أهل اللغة كل بيت مربع فهو مكعب وكعبة ، ومنه قول الأسود بن يعفر :
أهل الخورنق والسدير وبارق *** والبيت ذي الكعبات من سنداد{[4734]}
قالوا : كانت فيه بيوت مربعة وفي كتاب سير ابن إسحاق أنه كان في خثعم بيت يسمونه كعبة اليمانية ، وقال قوم : سميت كعبة لنتوئها ونشوزها على الأرض ، ومنه كعب ثدي الجارية ، ومنه كعب القدم ومنه كعوب القناة ، و { قياماً } معناه أمر يقوم للناس بالأمنة والمنافع كما الملك قوام الرعية وقيامهم ، يقال ذلك بالياء كالصيام ونحوه وذلك لخفة الياء فتستعمل أشياء من ذوات الواو بها ، وقد يستعمل القوام على الأصل ، قال الراجز :
قوام دنيا وقوام دين . . . وذهب بعض المتأولين إلى أن معنى قوله تعالى { قياماً للناس } أي موضع وجوب قيام بالمناسك والتعبدات وضبط النفوس في الشهر الحرام ، ومع الهدي والقلائد ، وقرأ ابن عامر وحده «قيماً » دون ألف ، وهذا إما على أنه مصدر كالشبع ونحوه ، وأعلّ فلم يجر مجرى عوض وحول من حيث أعلّ فعله ، وقد تعل الجموع لاعتلال الآحاد ، فأحرى أن تعلّ المصادر لاعتلال أفعالها ، ويحتمل «قيماً » أن تحذف الألف وهي مرادة ، وحكم هذا أن يجيء في شعر وغير َسَعة ، وقرأ الجحدري «قيِّماً » بفتح القاف وشد الياء المكسورة .
{ والشهر } هنا اسم جنس والمراد الأشهر الثلاثة بإجماع من العرب ، وشهر مضر{[4735]} وهو رجب الأصم ، سمي بذلك لأنه كان لا يسمع فيه صوت الحديد ، وسموه منصل الأسنة لأنهم كانوا ينزعون فيه أسنة الرماح ، وهو شهر قريش ، وله يقول عوف بن الأحوص :
وشهر بني أمية والهدايا *** إذا سيقت مدرجها الدماء{[4736]}
وسماه النبي عليه السلام شهر الله أي شهر آل الله ، وكان يقال لأهل الحرم آل الله ، ويحتمل أن يسمى شهر الله لأن الله سنه{[4737]} وشدده إذ كان كثير من العرب لا يراه ، وأما { الهدي } فكان أماناً لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادة لم يأت لحرب وأما { القلائد } فكذلك كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد من لحاء السمر أو غيره شيئاً فكان ذلك أماناً له ، وكان الأمر في نفوسهم عظيماً مكنه الله حتى كانوا لا يقدم من ليس بمحرم أن يتقلد شيئاً خوفاً من الله ، وكذلك إذا انصرفوا تقلدوا من شجر الحرم ، وقوله تعالى : { للناس } لفظ عام ، وقال بعض المفسرين أراد العرب .
قال القاضي أبو محمد : ولا وجه لهذا التخصيص ، وقال سعيد بن جبير جعل الله هذه الأمور للناس وهم لا يرجون جنة ولا يخافون ناراً ، ثم شدد ذلك بالإسلام ، وقوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى أن جعل هذه الأمور قياماً ، والمعنى َفَعل ذلك لتعلموا أن الله تعالى يعلم تفاصيل أمور السماوات والأرض ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد ، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم ، وقوله تعالى : { بكل شيء عليم } عام عموماً تاماً في الجزئيات ودقائق الموجودات ، كما قال عز وجل { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها }{[4738]} والقول بغير هذا إلحاد في الدين وكفر .