قوله تعالى : { ثم بدا لهم } ، أي : للعزيز وأصحابه في الرأي ، وذلك أنهم أرادوا أن يقتصروا من أمر يوسف على الأمر بالإعراض . ثم بدا لهم أن يحبسوه . { من بعد ما رأوا الآيات } ، الدالة على براءة يوسف من قد القميص ، وكلام الطفل ، وقطع النساء أيديهن وذهاب عقولهن ، { ليسجننه حتى حين } ، إلى مدة يرون فيه رأيهم . وقال عطاء : إلى أن تنقطع مقالة الناس . وقال عكرمة : سبع سنين . وقال الكلبي : خمس سنين . قال السدي : وذلك أن المرأة قالت لزوجها : إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس ، يخبرهم أني راودته عن نفسه ، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر إلى الناس ، وإما أن تحبسه ، فحبسه ، وذكر أن الله تعالى جعل ذلك الحبس تطهيرا ليوسف عليه السلام من همه بالمرأة . قال ابن عباس : عثر يوسف ثلاث عثرات حين هم بها فسجن ، وحين قال { اذكرني عند ربك } فلبث في السجن بضع سنين ، وحين قال للإخوة { إنكم لسارقون } ، فقالوا : { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } .
( ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ) . .
وهكذا جو القصور ، وجو الحكم المطلق ، وجو الأوساط الأرستقراطية ، وجو الجاهلية ! فبعد أن رأوا الآيات الناطقة ببراءة يوسف . وبعد أن بلغ التبجح بامرأة العزيز أن تقيم للنسوة حفل استقبال تعرض عليهن فتاها الذي شغفها حبا ، ثم تعلن لهم أنها به مفتونة حقا . ويفتتن هن به ويغرينه بما يلجأ إلى ربه ليغيثه منه وينقذه ، والمرأة تعلن في مجتمع النساء - دون حياء - أنه إما أن يفعل ما يؤمر به ، وإما أن يلقى السجن والصغار ، فيختار السجن على ما يؤمر به !
بعد هذا كله ، بدا لهم أن يسجنوه إلى حين !
ولعل المرأة كانت قد يئست من محاولاتها بعد التهديد ؛ ولعل الأمر كذلك قد زاد انتشارا في طبقات الشعب الأخرى . . وهنا لابد أن تحفظ سمعة " البيوتات " ! وإذا عجز رجال البيوتات عن صيانة بيوتهن ونسائهن ، فإنهم ليسوا بعاجزين عن سجن فتى بريء كل جريمته أنه لم يستجب ، وأن امرأة من " الوسط الراقي ! " قد فتنت به ، وشهرت بحبه ، ولاكت الألسن حديثها في الأوساط الشعبية !
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الاَيَاتِ لَيَسْجُنُنّهُ حَتّىَ حِينٍ } .
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ثم بدا للعزيز ، زوج المرأة التي راودت يوسف عن نفسه .
وقيل : { بدا لهم } ، وهو واحد ، لأنه لم يذكر باسمه ويقصد بعينه ، وذلك نظير قوله : { الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ } ، وقيل : إنّ قائل ذلك كان واحدا . وقيل : معنى قوله : { ثُمّ بَدَا لَهُمْ } : في الرأي الذي كانوا رأوه من ترك يوسف مطلقا ، ورأوا أن يسجُنوه مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الآياتِ ببراءته مما قدفته به امرأة العزيز . وتلك الآيات كانت : قَدّ القميص من دُبر ، وخمشا في الوجه ، وقطع أيديهن ، كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن نصر بن عوف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ } ، قال : كان من الاَيات : قدّ في القميص ، وخمش في الوجه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي وابن نمير ، عن نصر ، عن عكرمة ، مثله .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، { ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ } ، قال : قدّ القميص من دُبر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ } ، قال : قدّ القميص من دُبر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : وثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ } ، قال : الآيات : حزّهن أيديهن ، وقدّ القميص .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : قدّ القميص من دبر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ لَيَسْجُنُنّهُ } ، ببراءته مما اتهم به من شقّ قميصه من دُبر ، { لَيَسْجُنُنّهُ حتى حِينٍ } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : { مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الآياتِ } ، قال : الآيات : القميص ، وقطع الأيدي .
وقوله : { لَيَسْجُنُنّهُ حتى حِينٍ } ، يقول : ليسجننه إلى الوقت الذي يرون فيه رأيهم . وجعل الله ذلك الحبس ليوسف فيما ذكر عقوبة له من همه بالمرأة ، وكفّارة لخطيئته .
حُدثت عن يحيى بن أبي زائدة ، عن إسرائيل ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { لَيَسْجُنُنّهُ حتى حِينٍ } ، عثر يوسف عليه السلام ثلاث عثرات : حين همّ بها ، فسجن ، وحين قال : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبكّ فَلَبِثَ فِي السّجْن بضْعَ سنينَ } ، وأنساه الشيطان ذكر ربه ، وقال لهم : { إنّكُمْ لَسارِقُونَ } ، ف { قالُوا إن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } .
وذُكر أن سبب حبسه في السجن : كان شكوى امرأة العزيز إلى زوجها أمره وأمرها . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السديّ : { ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الآياتِ لَيَسْجُنُنّهُ حتى حِينٍ } ، قال : قالت المرأة لزوجها : إن هذا العبد العبرانيّ قد فضحني في الناس يعتذر إليهم ويخبرهم أني راودته عن نفسه ، ولست أطيق أن أعتذر بعذري ، فإما أن تأذن لي ، فأخرج ، فأعتذر ، وإما أن تحبِسه كما حبستني ، فذلك قول الله تعالى : { ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ لَيَسْجُنُنّهُ حتى حِينٍ } .
وقد اختلف أهل العربية في وجه دخول هذه اللام في : { لَيَسْجُنُنّه } ؛ فقال بعض البصريين : دخلت هاهنا ، لأنه موضع يقع فيه «أيّ » ، فلما كان حرف الاستفهام يدخل فيه دخلته النون ، لأن النون تكون في الاستفهام ، تقول : بدا لهم أيّهم يَأْخُذُنّ ، أي : استبان لهم . وأنكر ذلك بعض أهل العربية ، فقال : هذا يمين ، وليس قوله : هل تقومنّ بيمين ، ولَتقومنّ ، لا يكون إلا يمينا .
وقال بعض نحويي الكوفة : بدا لهم ، بمعنى : القول ، والقول يأتي بكل الكلام ، بالقسم وبالاستفهام ، فلذلك جاز : بدا لهم قام زيد ، وبدا لهم ليقومنّ .
وقيل : إن الحين في هذا الموضع معنيّ به : سبع سنين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن داود ، عن عكرمة : { لَيَسْجُنُنّهُ حتى حِينٍ } ، قال : سبع سنين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.