اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنۢ بَعۡدِ مَا رَأَوُاْ ٱلۡأٓيَٰتِ لَيَسۡجُنُنَّهُۥ حَتَّىٰ حِينٖ} (35)

قوله : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ } ، في [ فاعل " بدا " ] أربعةُ أوجه :

أحسنها : أنَّه ضميرٌ يعود على " السَّجْن " فتح السِّين ، أي : ظهر لهم حبسُه ؛ ويدلُّ على ذلك اللَّفظ ب : السِّجْن " في قراءةِ العامَّة ، وهو بطريقِ اللازمِ ، ولفظ " السَّجْن " في قراءةِ العامَّة ، وهو بطريقِ اللازمِ ، ولفظ " السَّجْن " في قراءة من فتح السين .

والثاني : أنَّ الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل ؛ وهو " بَدَا " ، أي : بدا لهُم بداءٌ ، وقد صرَّح الشاعرُ به قول قوله : [ الطويل ]

3105 . . . . . . . . . . . . . . . . . *** بَدَا لَكَ فِي تِلْكَ القَلُوصِ بَدَاءُ

والثالث : أنَّ الفاعل مضمرٌ يدلُّ عليه السِّياقُ ، أي : لهم رأيٌ .

والرابع : أنَّ نفس الجملة من " لَيَسْجننَّهُ " هي الفاعل ، وهذا من أصولِ الكوفيين ، وهذا يَقْتضِي إسنادَ الفعلِ إلى فعلٍ آخر ؛ واتفق النحاة على أنَّ ذلك لا يجوزٌ .

فإذا قلت : " خَرَجَ ضَرَبَ " ، لم يفذْ ألبتة ، فقدَّروا : ثمُّ بدا لهم سجنهُ ، إلاَّ أنه أقيمَ هذا الفعل مقام ذلك الاسم .

قال ابنُ الخطيب : الاسمُ قد يكون خبراً ؛ كقولك : زيدٌ قائمٌ ، ف " قائم " اسمٌ وخبرٌ ، فعلمنا أنَّ كون الشيءِ خبراً ، لا ينافي كونه مخبراً عنه ، وفي هذا الباب شكوكٌ :

أحدها : أنَّا إذا قلنا : " ضَرَبَ فَعَلَ " ، والمخبر عنه بأنَّه فعل هو ضرب ، فالفعل صار مُخْبراً عنه .

فإن قالوا : المخبر عنه هو هذه الصيغةُ ، وهذه الصيغة اسم ، فنقول : فعلى هذا التقدير ؛ يلزم أن يكون المخبر عنه بأنه فعل هو هذه الصيغة وهذه الصيغة اسم ، لا فعلٌ ، وذلك كذبٌ باطلٌ ، بل نقول : المخبر عنه بأنه فعلٌ : إن كان فعلاً ، فقد ثبت أنَّ الفعل يصحُّ الإخبار عنه ، وإن كان اسماً ، كان معناه : أنَّا أخبرنا عن الاسم بأنه فعلٌ ، وذلك باطلٌ .

و " حتَّى " : غاية لما قبله ، وقوله : " ليَسْجُنُنَّهُ " ؛ على قول الجمهور : جوابٌ لقسم محذوفٍ ، وذلك القسم وجوابه معمولٌ لقولٍ مضمرٍ ، وذلك القول المضمر في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، أي : ظهر لهم كذا قائلين : والله ، لنَسْجُننَّهُ حتَّى حينٍ .

وقرأ الحسن : " لتَسْجُنُنَّهُ " ، بتاء الخطاب ، وفيه تأويلان :

أحدهما : أن يكون خاطب بعضهم بعضاً بذلك .

والثاني : أن يكون خُوطبَ به العزيزُ ؛ تعظيماً له .

وقرأ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه : " عَتَّى " بإبدال حاءِ " حتَّى " عيناً ، وأقرأ بها غيره ، فبلغ ذلك عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه فكتب إليه : " إنَّ هَذَا القُرآنَ نَزلَ بلُغةِ قُريشٍ فأقْرىءِ النَّاس بُغتِهِمْ " وإبدالُ الحاءِ عيناً لغةٌ هُذيلٍ .

فصل في معنى الآية

المعنى : ثُمَّ بَدَا للعزيزِ ، وأصحابه في الرأي ؛ وذلك أنَّهم أرادوا أن يقتصروا من أمر " يُوسفَ " على الإعراض عنه ، ثم بدا لهم أن يحبسُوه من بعد ما رأوا الآياتِ الدَّالة على براءةِ " يُوسفَ " من : قدِّ القميصِ ، وكلام الشَّاهِد ، وقطع النساءِ أيديهنَّ ، وذهابِ عقولهنَّ " ليَسْجُنُنَّهُ حتَّى حِينٍ " : إلى مُدَّةٍ يرون فيهَا رأيهم .

وقال عطاء عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم : إلى أن تنقطع قالة النَّاس ، قال عكرمةٌ : تِسْع سِنينَ ، وقال الكلبيُّ : خمس سنين .

قال السديُّك وذلك أنَّ المرأة قالت لزوجها : إنَّ هذا العبرانيَّ قد فَضحَنِي في الناس ؛ يُخْبرهم بأنِّي رَاودْتُه عن نفسه ، فإمَّا أن تأذن لي أن أخرج ، فأعتذرَ إلى الناسِ ، وإما أن تحبسه ، فحبسه .

قال ابنُ عبَّاس عَثرَ يُوسفُ ثلاثَ عثراتٍ : حِينَ هَمَّ بها ؛ فسُجِنَ ، وحين قال : { اذكرني عِندَ رَبِّكَ } [ يوسف : 42 ] ؛ { فَلَبِثَ فِي السجن بِضْعَ سِنِينَ } [ يوسف : 42 ] ، وحين قال لإخوته : { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } [ يوسف : 70 ] ؛ { قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 77 ] .