18- ولا تحمل نفس مذنبة إثم نفس أخرى ، وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب شخصاً ليحمل عنها لا يحمل هذا الشخص من ذنوبها شيئاً ، ولو كان ذا قرابة بها ، لاشتغال كل بنفسه ، ولا يحزنك - أيها النبي - عناد قومك ، إنما ينفع تحذيرك الذين يخافون ربهم في خلواتهم ، وأقاموا الصلاة على وجهها ، ومن تطهر من دنس الذنوب فإنما يتطهر لنفسه ، وإلى الله المرجع في النهاية ، فيعامل كلا بما يستحق{[186]} .
قوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة } أي : نفس مثقلة بذنوبها غيرها ، { إلى حملها } أي : حمل ما عليها من الذنوب ، { لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى } أي : ولو كان المدعو ذا قرابة له ابنه أو أباه أو أمه أو أخاه . قال ابن عباس : يلقى الأب والأم ابنه فيقول : يا بني احمل عني بعض ذنوبي ، فيقول : لا أستطيع حسبي ما علي . { إنما تنذر الذين يخشون } يخافون ، { ربهم بالغيب } ولم يروه . وقال الأخفش : تأويله أي : إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم بالغيب ، { وأقاموا الصلاة ومن تزكى } أصلح وعمل خيراً ، { فإنما يتزكى لنفسه } لها ثوابه . { وإلى الله المصير* }
ويدل على المعنى الأخير ، ما ذكره بعده في قوله : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي : في يوم القيامة كل أحد يجازى بعمله ، ولا يحمل أحد ذنب أحد . { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } أي : نفس مثقلة بالخطايا والذنوب ، تستغيث بمن يحمل عنها بعض أوزارها { لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } فإنه لا يحمل عن قريب ، فليست حال الآخرة بمنزلة حال الدنيا ، يساعد الحميم حميمه ، والصديق صديقه ، بل يوم القيامة ، يتمنى العبد أن يكون له حق على أحد ، ولو على والديه وأقاربه .
{ إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } أي : هؤلاء الذين يقبلون النذارة وينتفعون بها ، أهل الخشية للّه بالغيب ، أي : الذين يخشونه في حال السر والعلانية ، والمشهد والمغيب ، وأهل إقامة الصلاة ، بحدودها وشروطها وأركانها وواجباتها وخشوعها ، لأن الخشية للّه تستدعي من العبد العمل بما يخشى من تضييعه العقاب ، والهرب مما يخشى من ارتكابه العذاب ، والصلاة تدعو إلى الخير ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر .
{ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } أي : ومن زكى نفسه بالتنقِّي من العيوب ، كالرياء والكبر ، والكذب والغش ، والمكر والخداع والنفاق ، ونحو ذلك من الأخلاق الرذيلة ، وتحلَّى بالأخلاق الجميلة ، من الصدق ، والإخلاص ، والتواضع ، ولين الجانب ، والنصح للعباد ، وسلامة الصدر من الحقد والحسد وغيرهما من مساوئ الأخلاق ، فإن تزكيته يعود نفعها إليه ، ويصل مقصودها إليه ، ليس يضيع من عمله شيء .
{ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } فيجازي الخلائق على ما أسلفوه ، ويحاسبهم على ما قدموه وعملوه ، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى } .
لما كان ما قبل هذه الآية مسوقاً في غرض التهديد وكان الخطاب للناس أريدت طمْأنة المسلمين من عواقب التهديد ، فعقب بأن من لم يأت وزراً لا يناله جزاء الوَازر في الآخرة قال تعالى : { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً } [ مريم : 72 ] . وقد يكون وعداً بالإِنجاء من عذاب الدنيا إذا نزل بالمهدَّدين الإِذهابُ والإِهلاكُ مثلما أهلك فريقَ الكفار يوم بدر وأنجى فريق المؤمنين ، فيكون هذا وعداً خاصاً لا يعارضه قوله تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } [ الأنفال : 25 ] وما ورد في حديث أمّ سلمة قالت : « يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخُبْث » .
فموقع قوله : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } كموقع قوله تعالى : { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فننجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين } [ يوسف : 110 ] . ولهذا فالظاهر أن هذا تأمين للمسلمين من الاستئصال كقوله تعالى : { وما كان اللَّه معذبهم وهم يستغفرون } [ الأنفال : 33 ] بقرينة قوله عقبه { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } وهو تأمين من تعميم العقاب في الآخرة بطريق الأوْلى ويجوز أن يكون المراد : ولا تزر وازرة وزر أخرى يوم القيامة ، أي إن يشأ يذهبكم جميعاً ولا يعذب المؤمنين في الآخرة ، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم « ثم يحشرون على نياتهم » .
والوجه الأول أعم وأحسن . وأيَّامًّا كان فإن قضية { ولا تزر وازرة وزر أخرى } كلية عامة فكيف وقد قال الله تعالى : { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } في سورة العنكبوت ( 13 ) ، فالجمع بين الآيتين أن هذه الآية نفَت أن يحمل أحد وزر آخر لا مشاركةَ له للحامل على اقتراف الوزر ، وأما آية سورة العنكبوت فموردها في زعماء المشركين الذين موّهوا الضلالة وثبتوا عليها ، فإن أول تلك الآية { وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتَّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم } [ العنكبوت : 12 ] ، وكانوا يقولون ذلك لكل من يستروحون منه الإِقبال على الإِيمان بالأحرى .
وأصل الوِزر بكسر الواو : هو الوِقْر بوزنه ومعناه . وهو الحِمل بكسر الحاء ، أي ما يحمل ، ويقال : وَزَر إذا حمل . فالمعنى : ولا تحمل حاملة حِمل أخرى ، أي لا يحمل الله نفساً حملاً جعله لنفس أخرى عدلاً منه تعالى لأن الله يحب العدل وقد نفى عن شأنه الظلم وإن كان تصرفه إنما هو في مخلوقاته .
وجرى وصف الوازرة على التأنيث لأنه أريد به النفس .
ووجه اختيار الإِسناد إلى المؤنث بتأويل النفس دون أن يجري الإِضمار على التذكير بتأويل الشخص ، لأن معنى النفس هو المتبادر للأذهان عند ذكر الاكتساب كما في قوله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها }
في سورة الأنعام ( 164 ) ، وقوله : { كل نفس بما كسبت رهينة } في سورة المدثر ( 38 ) ، وغير ذلك من الآيات .
ثم نبّه على أن هذا الحكم العادل مطرد مستمر حتى لو استغاثت نفس مثقلة بالأوزار مَن ينتدب لحمل أوزارها أو بعضها لم تجد من يحمل عنها شيئاً ، لئلا يقيس الناس الذين في الدنيا أحوال الآخرة على ما تعارفوه ، فإن العرب تعارفوا النجدة إذا استنجدوا ولو كان لأمر يُضر بالمنجد . ومن أمثالهم لو دُعي الكريم إلى حتفه لأجاب ، وقال ودّاك بن ثُمَيْل المازني :
إذا استُنْجدوا لم يَسألوا من دَعاهُم *** لأَيَّة حرب أم بأي مكان
ولذلك سمي طلب الحمل هنا دعاء لأن في الدعاء معنى الاستغاثة .
وحذف مفعول تدع } لقصْد العموم . والتقدير : وإن تدع مثقلة أيَّ مدعوّ .
وقوله : { إلى حملها } متعلق ب { تدع } ، وجعل الدعاء إلى الحمل لأن الحمل سبب الدعاء وعلته . فالتقدير : وإن تدع مثقلة أحداً إليها لأجل أن يَحمل عنها حملها ، فحذف أحدُ متعلقي الفعل المجرور باللام لدلالة الفعل ومتعلقه المذكور على المحذوف .
وهذا إشارة إلى ما سيكون في الآخرة ، أي لو استصرخت نفس مَن يحمل عنها شيئاً من أوزارها ، كما كانوا يزعمون أن أصنامهم تشفع لهم أو غيرهم ، لا تجد من يجيبها لذلك .
وقوله : { ولو كان ذا قربى } في موضع الحال من { مثقلة } . و { لو } وصلية كالتي في قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } في سورة آل عمران ( 91 ) .
والضمير المستتر في كان } عائد إلى مفعول { تدع } المحذوف ، إذ تقديره : وإن تدع مثقلة أحداً إلى حِملها كما ذكرنا . فيصير التقدير : ولو كان المدعوّ ذَا قربى ، فإن العموم الشمولي الذي اقتضته النكرة في سياق الشرط يصير في سياق الإِثبات عموماً بَدَليًّا .
ووجه ما اقتضته المبالغة من { لو } الوصلية أن ذا القربى أرق وَأشفق على قريبه ، فقد يُظن أنه يغني عنه في الآخرة بأن يقاسمه الثقل الذي يؤدي به إلى العذاب فيخف عنه العذاب بالاقتسام .
والإِطلاق في القربى يشمل قريب القرابة كالأبوين والزوجين كما قال تعالى : { يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه } [ عبس : 34 ، 35 ] .
وهذا إبطال لاعتقاد الغَناء الذاتي بالتضامن والتحامل فقد كان المشركون يقيسون أمور الآخرة على أمور الدنيا فيعلّلون أنفسهم إذا هُدّدوا بالبعث بأنه إن صح فإن لهم يومئذٍ شفعاء وأنصاراً ، فهذا سياق توجيه هذا إلى المشركين ثم هو بعمومه ينسحب حكمهُ على جميع أهل المحشر ، فلا يحمل أحد عن أحد إثمه . وهذا لا ينافي الشفاعة الواردة في الحديث ، كما تقدم في سورة سبأ ، فإنها إنما تكون بإذن الله تعالى إظهاراً لكرامة نبيئه محمد صلى الله عليه وسلم ولا ينافي ما جعله الله للمؤمنين من مكفّرات للذنوب كما ورد أن أفراط المؤمنين يشفعون لأمهاتهم ، فتلك شفاعة جعلية جعلها الله كرامة للأمهات المصابة من المؤمنات .
{ إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَأَقَامُواْ الصلاة وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله المصير } .
استئناف بياني لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخطر في نفسه التعجب من عدم تأثر أكثر المشركين بإنذاره فأجيب بإن إنذاره ينتفع به المؤمنون ومن تهيّأوا للإِيمان .
وإيراد هذه الآية عقب التي قبلها يؤكد أن المقصد الأول من التي قبلها موعظة المشركين وتخويفهم ، وإبلاغ الحقيقة إليهم لاقتلاع مزاعمهم وأوهامهم في أمر البعث والحساب والجزاء . فأقبل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بالخطاب ليشعر بأن تلك المواعظ لم تُجْدِ فيهم وأنها إنما ينتفع بها المسلمون ، وهو أيضاً يؤكد ما في الآية الأولى من التعريض بتأمين المسلمين بما اقتضاه عموم الإِنذار والوعيد .
وأطلق الإِنذار هنا على حصول أثره ، وهو الانكفاف أو التصديق به ، وليس المراد حقيقة الإِنذار ، وهو الإِخبار عن توقع مكروه لأن القرينة صادقة عن المعنى الحقيقي وهي قرينةُ تكرر الإِنذار للمشركين الفيْنَة بعد الفيْنة وما هو ببعيد عن هذه الآية ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنذر المشركين طول مدة دعوته ، فتعين أن تعلق الفعل المقصور عليه ب { الذين يخشون ربهم بالغيب } تعلّقٌ على معنى حصول أثر الفعل .
فالمقصود من القصر أنه قصر قلب لأن المقصود التنبيه على أن لا يظُنّ النبي صلى الله عليه وسلم انتفاع الذين لا يؤمنون بنذارته ، وإن كانت صيغة القصر صالحة لِمعنى القصر الحقيقي لكن اعتبار المقام يعين اعتبار القصر الإِضافي . ونظير هذه الآية قوله في سورة يس ( 11 ) { إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب } وقوله : { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } في سورة ق ( 45 ) ، مع أن التذكير بالقرآن يعم الناس كلهم .
والغيب : ما غاب عنك ، أي الذين يخشون ربهم في خلواتهم وعند غيبتهم عن العيان ، أي الذين آمنوا حقاً غير مرائين أحداً .
و{ أقاموا الصلاة } أي لم يفرطوا في صلاة كما يؤذن به فعل الإِقامة كما تقدم في أول سورة البقرة .
ولما كانت هاتان الصفتان من خصائص المسلمين صار المعنى : إنما تنذر المؤمنين ، فعُدل عن استحضارهم بأشهر ألقابهم مع ما فيه من الإِيجاز إلى استحضارهم بصلتين مع ما فيهما من الإِطناب ، تذرعاً بذكر هاتين الصّلتين إلى الثناء عليهم بإخلاص الإِيمان في الاعتقاد والعمل .
وجملة { ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه } تذييل جار مجرى المثل . وذكر التذييل عقب المذيل يؤذن بأن ما تضمنه المذيَّل داخل في التذييل بادىء ذي بدء مثل دخول سبب العام في عمومه من أول وهلة دون أن يُخص العام به ، فالمعنى : أن الذين خَشُوا ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة هم ممّن تزكى فانتفعوا بتزكيتهم ، فالمعنى : إنما ينتفع بالنذارة الذين يخشون ربهم بالغيب فأولئك تزكوا بها ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه .
والمقصود من القصر في قوله : { فإنما يتزكى لنفسه } أن قبولهم النذارة كان لفائدة أنفسهم ، ففيه تعريض بأن الذين لم يعبأوا بنذارته تركوا تزكية أنفسهم بها فكان تركهم ضراً على أنفسهم .
وجملة { وإلى الله المصير } تكميل للتذييل ، والتعريف في { المصير } للجنس ، أي المصير كله إلى الله سواء فيه مصير المتزكّي ومصير غير المتزكي ، أي وكل يُجازَى بما يناسبه .
وتقديم المجرور في قوله : { وإلى الله المصير } للاهتمام للتنبيه على أنه مصير إلى من اقتضى اسمه الجليل الصفات المناسبة لإِقامة العدل وإفاضة الفضل مع الرعاية على الفاصلة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا تزر وازرة وزر أخرى} لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى.
{وإن تدع مثقلة} من الوزر {إلى حملها} من الخطايا أن يحمل عنها {لا يحمل منه} من وزرها {شيء ولو كان ذا قربى} ولو كان بينهما قرابة ما حملت عنها شيئا من وزرها.
{إنما تنذر} المؤمنين {الذين يخشون ربهم بالغيب} آمنوا به ولم يروه.
{وأقاموا الصلاة} أتموا الصلاة المكتوبة.
{ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه} ومن صلح فصلاحه لنفسه {وإلى الله المصير} فيجزى بالأعمال في الآخرة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى: وإن تسألْ ذاتُ ثِقْل من الذنوب مَنْ يحمل عنها ذنوبها، وتطلب ذلك، لم تجد من يحمل عنها شيئا منها، ولو كان الذي سألته ذا قرابة من أب أو أخ... معنى الكلام: ولو كان الذي تسأله أن يحمل عنها ذنوبها ذا قربى لها وأنثت «مثقلة»، لأنه ذهب بالكلام إلى النفس، كأنه قيل: وإن تدع نفس مثقلة من الذنوب إلى حمل ذنوبها...
وقوله:"إنّمَا تُنْذِرُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ بالغَيْبِ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إنما تنذر يا محمد الذين يخافون عقاب الله يوم القيامة من غير معاينة منهم لذلك، ولكن لإيمانهم بما أتيتهم به، وتصديقهم لك فيما أنبأتهم عن الله فهؤلاء الذين ينفعهم إنذارك، ويتعظون بمواعظك، لا الذين طَبَع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون...
وقوله: "وأقامُوا الصّلاةَ "يقول: وأَدّوْا الصلاة المفروضة بحدودها على ما فرضها الله عليهم.
وقوله: "وَمَنْ تَزَكّى فإنّمَا يتَزَكّى لِنَفْسِهِ" يقول تعالى ذكره: ومن يتطهّر من دنس الكفر والذنوب بالتوبة إلى الله، والإيمان به، والعمل بطاعته، فإنما يتطهّر لنفسه، وذلك أنه يثيبها به رضا الله، والفوز بجنانه، والنجاة من عقابه، الذي أعدّه لأهل الكفر به...
وقوله: "وَإلى اللّهِ المَصِيرُ" يقول: وإلى الله مصير كلّ عامل منكم أيها الناس، مؤمنكم وكافركم، وبرّكم وفاجركم، وهو مجاز جميعكم بما قدّم من خير أو شرّ على ما أهل منه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولا تزرُ وازرة وِزر أخرى وإن تدع مُثقلة إلى حِملها لا يُحمل منه شيء} كأن هذا صلة قوله: {اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} الآية [العنكبوت: 12] يُؤيِسهم ليقطعوا أطماعهم يومئذ عن تناصر بعضهم بعضا، وتحمّل بعضهم مُؤَن بعض وشفاعة بعضهم لبعض على ما كانوا يفعلون في الدنيا، كان ينصر بعضهم بعضا في الدنيا إذا أصابهم شيء، ويفدي بعضهم بعضا، ويشفع بعضهم لبعض، كقوله: {ولا يُقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم يُنصرون} [البقرة: 123].
{إنما تُنذر الذين يخشون ربهم بالغيب} هذا يخرّج على وجهين؛
أحدهما: إنما ينتفع بالإنذار الذين يخشون ربهم بالغيب. فأما من لا يخشى ربه فإنه لا ينتفع به. ولا كان منذر من اتبع الذكر ومن لم يتّبع ومن خشي ربه ومن لم يخش؟
والثاني: إنك تُنذر غير الذي اتبع الذِّكر وغير الذي خشي ربه، فإنما يتّبع إنذارك، ويقبله الذي خشي ربه، واتبع ذِكره.
{ومن تزكّى فإنما يتزكّى لنفسه} أي من عمل خيرا فإنما يعمل لنفسه، أو من جاء بالتوحيد والأعمال الصالحة فإنما يصلح أمره، وعمله يثاب عليه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كُلٌّ مُطَالَبٌ بعمله، وكلٌّ محاسَبٌ عن ديوانه، ولكلِّ معه شأن، وله مع كلِّ أحدٍ شأن. ومن العبادات ما تجري فيه النيابة ولكن في المعارف لا تجري النيابة؛ فلو أن عبداً عاصياً منهمكاً في غوايته فاتته صلاةٌ مفروضةٌ، فلو قضى عنه ألفُ وليٍّ وألفُ صَفِيِّ تلك الصلاةَ الواحدةَ عن كل ركعةً ألفَ ركعةٍ لم تُقْبلْ منه إِلاَّ أنْ يجيءَ هو: معاذ الله أن نأخذ إلا مِمَّن وجدنا متاعنا عنده! فعتابُك لا يجري مع غيرِك والخطابُ الذي معك لا يسمعه غيرُك:... والخشيةُ هي المخافة؛ فمعنى الآية، لا ينفع التخويف إلاَّ لمن صَاحَبَ الخوفَ -وطيرُ السماءِ على أشكالها تَقَعُ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: هلا قيل: ولا تزر نفس وزر أخرى؟ ولم قيل وازرة؟ قلت: لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى منهن واحدة إلاّ حاملة وزرها، لا وزر غيرها.
فإن قلت: كيف توفق بين هذا وبين قوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]؟ قلت: تلك الآية في الضالين المضلين، وأنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم، وذلك كله أوزارهم ما فيها شيء من وزر غيرهم. ألا ترى كيف كذبهم الله تعالى في قولهم: {اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خطاياكم} [العنكبوت: 12] بقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بحاملين مِنْ خطاياهم مّن شيء} [العنكبوت: 12].
فإن قلت: ما الفرق بين معنى قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} وبين معنى: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شيء}؟ قلت: الأول في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه، وأنه تعالى لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها، والثاني: في أن لا غياث يومئذ لمن استغاث، حتى أن نفساً قد أثقلتها الأوزار وبهظتها، لو دعت إلى أن يخفف بعض وقرها لم تجب ولم تغث، وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ. فإن قلت: إلام أسند كان في {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى}؟ قلت: إلى المدعو المفهوم من قوله: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ}، فإن قلت: فلم ترك ذكر المدعو؟ قلت: ليعمّ، ويشمل كل مدعوّ.
فإن قلت: كيف استقام إضمار العام؟ ولا يصحّ أن يكون العام ذا قربى للمثقلة؟ قلت: هو من العموم الكائن على طريق البدل.
فإن قلت: ما تقول فيمن قرأ: «ولو كان ذو قربى» على كان التامّة، كقوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 290]؟ قلت: نظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة؛ لأن المعنى على أن المثقلة إن دعت أحداً إلى حملها لا يحمل منه شيء وإن كان مدعوّها ذا قربى، وهو معنى صحيح ملتئم، ولو قلت: ولو وجد ذو قربى، لتفكك وخرج من اتساقه والتئامه، على أنّ ههنا ما ساغ أن يستتر له ضمير في الفعل بخلاف ما أوردته {بالغيب} حال من الفاعل أو المفعول، أي: يخشون ربهم غائبين عن عذابه أو يخشون عذابه غائباً عنهم. وهذه صفة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فكانت عادتهم المستمرّة أن يخشوا الله، وهم الذين أقاموا الصلاة وتركوها مناراً منصوباً وعلماً مرفوعاً، يعني: إنما تقدر على إنذار هؤلاء وتحذيرهم من قومك، وعلى تحصيل منفعة الإنذار فيهم دون متمرّديهم وأهل عنادهم...
فإن قلت: كيف اتصل قوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ} بما قبله؟ قلت: لما غضب عليهم في قوله: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أتبعه الإنذار بيوم القيامة وذكر أهوالها، ثم قال: إنما تنذر كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعهم ذلك، فلم ينفع، فنزل: {إِنَّمَا تُنذِرُ} أو أخبره الله تعالى بعلمه فيهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
سببها أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد وعلي وزركم، فحكم الله تعالى بأنه لا يحملها أحد عن أحد، ومن تطرق من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمة، كفعل زيادة ونحوه، فإنما ذلك لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بمؤازرة ومواصلة أو اطلاع على حاله وتقرير لها، فهو قد أخذ من الجرم بنصيب، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة بعده، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده»، وأنثت {وازرة} لأنه ذهب بها مذهب النفس وعلى ذلك أجريت {مثقلة}، و «الحمل» ما كان على الظهر في الأجرام، ويستعار للمعاني كالذنوب ونحوها، فيجعل كل محمول متصلاً بالظهر، كما يجعل كل اكتساب منسوباً إلى اليد.
ثم أخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه إنما ينذر أهل الخشية وهم الذي يمنحون العلم.
ثم خصص من الأعمال إقامة الصلاة تنبيهاً عليها وتشريفاً لها، ثم حض على التزكي بأن رجى عليه غاية الترجية.
{ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى} متعلق بما قبله، وذلك من حيث إنه تعالى لما بين الحق بالدلائل الظاهرة والبراهين الباهرة ذكر ما يدعوهم إلى النظر فيه فقال: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} أي لا تحمل نفس ذنب نفس فالنبي صلى الله عليه وسلم لو كان كاذبا في دعائه لكان مذنبا، وهو معتقد بأن ذنبه لا تحملونه أنتم فهو يتوقى ويحترز.
{وإن تدع مثقلة} إشارة إلى أن أحدا لا يحمل عن أحد شيئا مبتدئا ولا بعد السؤال، فإن المحتاج قد يصبر وتقضى حاجته من غير سؤاله، فإذا انتهى الافتقار إلى حد الكمال يحوجه إلى السؤال.
المسألة الثانية: في قوله: {مثقلة} زيادة بيان لما تقدم من حيث إنه قال أولا: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فيظن أن أحدا لا يحمل عن أحد لكون ذلك الواحد قادرا على حمله، كما أن القوي إذا أخذ بيده رمانة أو سفرجلة لا تحمل عنه، وأما إذا كان الحمل ثقيلا قد يرحم الحامل فيحمل عنه فقال: {مثقلة} يعني ليس عدم الوزر لعدم كونه محلا للرحمة بالثقل؛ بل لكون النفس مثقلة ولا يحمل منها شيء. المسألة الثالثة: زاد في ذلك بقوله: {ولو كان ذا قربى} أي المدعو لو كان ذا قربى لا يحمله، وفي الأول كان يمكن أن يقال لا يحمله لعدم تعلقه به كالعدو الذي يرى عدوه تحت ثقل، أو الأجنبي الذي يرى أجنبيا تحت حمل لا يحمل عنه فقال: {ولو كان ذا قربى} أي يحصل جميع المعاني الداعية إلى الحمل من كون النفس وازرة قوية تحتمل، وكون الأخرى مثقلة، لا يقال كونها قوية قادرة ليس عليها حمل وكونها سائلة داعية فإن السؤال مظنة الرحمة، لو كان المسؤول قريبا فإذن لا يكون التخلف إلا لمانع وهو كون كل نفس تحت حمل ثقيل.
{إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة} إشارة إلى أن لا إرشاد فوق ما أتيت به ولم يفدهم، فلا تنذر إنذارا مفيدا إلا الذين تمتلئ قلوبهم خشية وتتحلى ظواهرهم بالعبادة، كقوله: {الذين آمنوا} إشارة إلى عمل القلب {وعملوا الصالحات} إشارة إلى عمل الظواهر فقوله: {الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة} في ذلك المعنى.
{وإلى الله المصير} أي المتزكي إن لم تظهر فائدته عاجلا، فالمصير إلى الله يظهر عنده في يوم اللقاء في دار البقاء، والوازر إن لم تظهر تبعة وزره في الدنيا فهي تظهر في الآخرة إذ المصير إلى الله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أنهى سبحانه بيان الحق بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة بالتهديد بالأخذ، وكان الأخذ على وجه التهديد عقاباً، وكان العقاب لا يكون حكمه إلا عند الذنب، قال دالاً على أنه لا ينفك أحد عما يستحق به العقاب: {ولا} أي يذهبكم عقوبة لكم بأوزاركم وقدرة عليكم والحال أنه لا {تزر} أي تحمل يوم القيامة أو عند الإذهاب.
ولما لم تكن نفس متأهلة للحمل تخلو من وزر تحمله، والمعصوم من عصم الله، قال: {وازرة} دون نفس، أي لا تحمل حاملة من جهة الإثم...
ولما كان هذا أمراً -مع كونه جلياً- خالعاً للقلوب، فكان بحيث يشتد تعجب السامع ممن يسمعه ولا يخشى، فقال مزيلاً لهذا العجب على سبيل النتيجة: {إنما تنذر} أي إنذاراً يفيد الرجوع عن الغيّ، فلاختصاصهم بالنفع كانوا كأنهم مختصون بالإنذار، وهو كما قال القشيري: الإعلام بموضع المخافة.
{الذين يخشون} أي يوقعون هذا الفعل في الحال ويواظبون عليه في الاستقبال. ولما كان أعقل الناس من خاف المحسن لأن أقل عقابه قطع إحسانه قال: {ربهم}. ولما كان أوفى الناس عقلاً وأعلاهم همة وأكرمهم عنصراً من كانت غيبته مثل حضوره، وكان لا يحتاج -مع قول الداعي وما يظهر له من سمته وحسن قوله وفعله- إلى آية يظهرها ولا خارقة يبرزها، وإنما إيمانه تصديقاً للداعي في إخباره بالأمر المغيب من غير كشف غطاء قال: {بالغيب}
ولما كان التقدير: فمن كان على غير ذلك تدسى، ومن كان على هذا فقد تزكى، ومن تدسى فإنما يتدسى على نفسه، عطف عليه قوله، مشيراً بأداة التفعل إلى أن النفس أميل شيء إلى الدنس، فلا تنقاد إلى أحسن تقويم إلا باجتهاد عظيم.
{ومن تزكّى} أي تطهر وتكثر بهذه المحاسن. ولما كان الإنسان ليفيده بالأسباب القريبة قد يغفل عن أن هذا نفع له وخاص به أكده فقال: {فإنما يتزكّى لنفسه} فإنه لا يضر ولا ينفع في الحقيقة غيرها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولمسة أخرى بحقيقة أخرى. حقيقة فردية التبعة، والجزاء الفردي الذي لا يغني فيه احد عن أحد شيئاً. فما بالنبي [صلى الله عليه وسلم] من حاجة الى هدايتهم يحققها لنفسه، فهو محاسب على عمله وحده، كما أن كلاً منهم محاسب على ما كسبت يداه، يحمل حمله وحده، لا يعينه أحد عليه.
وحقيقة فردية التبعة والجزاء ذات أثر حاسم في الشعور الأخلاقي، وفي السلوك العملي سواء، فشعور كل فرد بأنه مجزيُّ بعمله، لا يؤاخذ بكسب غيره، ولا يتخلص هو من كسبه، عامل قوي في يقظته لمحاسبة نفسه قبل ان تحاسب! مع التخلي عن كل أمل خادع في أن ينفعه أحد بشيء، أو أن يحمل عنه أحد شيئاً. كما أنه -في الوقت ذاته- عامل مطمئن، فلا يقلق الفرد خيفة أن يؤخذ بجريرة الجماعة، فيطيش وييئس من جدوى عمله الفردي الطيب، ما دام قد أدى واجبه في النصح للجماعة ومحاولة ردها عن الضلال بما يملك من وسيلة.
إن الله -سبحانه- لا يحاسب الناس جملة بالقائمة! إنما يحاسبهم فرداً فرداً؛ كل على عمله، وفي حدود واجبه، ومن واجب الفرد أن ينصح وأن يحاول الإصلاح غاية جهده، فإذا قام بقسطه هذا فلا عليه من السوء في الجماعة التي يعيش فيها، فإنما هو محاسب على إحسانه.
كذلك لن ينفعه صلاح الجماعة إذا كان هو بذاته غير صالح، فالله لا يحاسب عباده بالقائمة كما أسلفنا! والتعبير القرآني يصور هذه الحقيقة على طريقة التصوير في القرآن، فتكون أعمق وأشد أثراً؛ يصور كل نفس حاملة حملها، فلا تحمل نفس حمل أخرى وحين تثقل نفس بما تحمل ثم تدعو أقرب الأقرباء ليحمل عنها شيئاً، فلن تجد من يلبي دعاءها ويرفع عنها شيئاً مما يثقلها! إنه مشهد القافلة كل من فيها يحمل أثقاله ويمضي في طريقه، حتى يقف أمام الميزان والوزّان! وهي في وقفتها يبدو على من فيها الجهد والإعياء، واهتمام كل بحمله وثقله، وانشغاله عن البعداء والأقرباء! وعلى مشهد القافلة المجهدة المثقلة، يلتفت إلى رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]: (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب واقاموا الصلاة).
ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه.. لا لك. ولا لغيرك. إنما هو يتطهر لينتفع بطهره. والتطهر معنى لطيف شفاف. يشمل القلب وخوالجه ومشاعره، ويشمل السلوك واتجاهاته وآثاره.
(وإلى الله المصير).. وهو المحاسب والمجازي، فلا يذهب عمل صالح، ولا يفلت عمل سيئ، ولا يوكل الحكم والجزاء إلى غيره ممن يميلون أو ينسون أو يهملون..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما كان ما قبل هذه الآية مسوقاً في غرض التهديد وكان الخطاب للناس أريدت طمْأنة المسلمين من عواقب التهديد، فعقب بأن من لم يأت وزراً لا يناله جزاء الوَازر في الآخرة قال تعالى: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً}... وقد يكون وعداً بالإِنجاء من عذاب الدنيا إذا نزل بالمهدَّدين الإِذهابُ والإِهلاكُ مثلما أهلك فريقَ الكفار يوم بدر وأنجى فريق المؤمنين، فيكون هذا وعداً خاصاً لا يعارضه قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال: 25].
فموقع قوله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} كموقع قوله تعالى: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فننجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين} [يوسف: 110]. ولهذا فالظاهر أن هذا تأمين للمسلمين من الاستئصال كقوله تعالى: {وما كان اللَّه معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال: 33] بقرينة قوله عقبه {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب}، وهو تأمين من تعميم العقاب في الآخرة بطريق الأوْل.
ويجوز أن يكون المراد: ولا تزر وازرة وزر أخرى يوم القيامة، أي إن يشأ يذهبكم جميعاً ولا يعذب المؤمنين في الآخرة، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم « ثم يحشرون على نياتهم»...
ووجه اختيار الإِسناد إلى المؤنث بتأويل النفس دون أن يجري الإِضمار على التذكير بتأويل الشخص، لأن معنى النفس هو المتبادر للأذهان عند ذكر الاكتساب كما في قوله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} في سورة الأنعام (164)، وقوله: {كل نفس بما كسبت رهينة} في سورة المدثر (38)، وغير ذلك من الآيات...
تقديم المجرور في قوله: {وإلى الله المصير} للاهتمام للتنبيه على أنه مصير إلى من اقتضى اسمه الجليل الصفات المناسبة لإِقامة العدل وإفاضة الفضل مع الرعاية على الفاصلة...
... الإنسان في الدنيا مرتبط إما بقرابة لها حقوق عليه، وإما بإخوان وأصدقاء، وإما بمنقذ يستنجد به، وإنْ لم يكن قريباً ولا صديقاً، لكن يوم القيامة ستنحلُّ كل هذه العُرَى؛ لأن الموقف لا يحتمل المجاملات ولا التضحيات.
لذلك لما سمعتْ السيدة عائشة رضي الله عنها سيدنا رسول الله وهو يُحدِّثهم عن القيامة، ويذكر أن الشمس تدنو من الرؤوس والخَلْق يقفون عرايا، استاءتْ وسألت رسول الله: كيف يقف الناس عرايا ينظر بعضهم إلى عورة بعض؟ فأجابها رسول الله أن كل امرئ مشغول بنفسه، وأن الأمر أعظم من أنْ ينظر أحد لعورة أحد في هذا الموقف.
ثم يقول سبحانه مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} يعني: إنذارك يا محمد وتحذيرك لا ينفع إلا الذين يخشون ربهم بالغيب، أما الآخرون فقد ظلموا أنفسهم حين حرموها الخير الكثير الذي أراده الله لهم، ظلموها حين غرَّتهم الدنيا بنعيمها الفاني، وشغلتهم عن نعيم الآخرة الباقي الدائم.
والإنذار: التخويف من شَرٍّ قبل أوانه لتتوقَّاه، والفرصة سانحة قبل أنْ يداهمك، فأنت مثلاً حين تريد أن تحثَّ ولدك على المذاكرة وتحذره من الإهمال الذي يؤدي إلى الفشل لا تقول له هذا ليلة الامتحان، إنما قبله بوقت كافٍ ليتدارك أمره، ويصحح ما عنده من قصور أو إهمال.
والإنذار والتخويف لا يُجدي إلا مع مَنْ يؤمن بما تخوِّفه به، فحين ينذر رسول الله بعذاب الآخرة لا ينتفع بهذا الإنذار إلا مَنْ يؤمن بالله ويؤمن بالقيامة.
ومعنى {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الخشية هي الخوف، لكن بحب وتوقير، لا خوف بكراهية، فأنت تخاف مثلاً من بطش جبار ظالم. لكن تخافه وأنت كاره له، إنما خَوْفك من الله خَوْف ناتج عن حب وتوقير، لذلك يصحب هذا الخوف رجاء وطمع في رحمته تعالى، فأنت تسير في رحلة حياتك بجناحين: خوف من العذاب، ورجاء في الرحمة.
والإنسان ينبغي ألاَّ ينظر إلى الفعل في ذاته، بل ينظر إلى الفعل وإلى قابل، فقد يكون الفعل واحداً لكن يختلف مستقبل الفعل...كذلك إنذاره صلى الله عليه وسلم إنذار واحد، لكن استقبله قوم بخضوع ورغبة في الهداية فآمنوا، واستقبله قوم بعناد وإصرار فلم يستفيدوا منه ولم ينتفعوا بثمرته.
وقوله {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} دلتْ على أن الإيمان اكتمل في نفوس هؤلاء اكتمالاً يستوي فيه مشهد الحكم بغيبه. ومن ذلك قول الإمام على رضي الله عنه: لو انكشف عني الحجاب ما ازددتُ يقيناً...
ثم يذكر الحق سبحانه صفة أخرى للذين استجابوا لإنذار رسول الله وانتفعوا به: {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} فهم مع خشيتهم لله خشية أوصلتهم إلى إيمان يستوي فيه الغيب بالمشاهدة، هم أيضاً يقيمون الصلاة أي: يؤدونها على أكمل وجه، والصلاة كما ذكرنا هي العبادة الوحيدة التي لا تسقط عن المكلَّف بِحال، فقد يطرأ عليك ما يُسقِط الزكاة أو ما يُسقط الصيام أو الحج فلم تَبْقَ إلا شهادة ألاَّ إله إلا الله محمد رسول الله. وهذه يكفي أنْ تقولها ولو مرة واحدة.
أما الصلاة فهي العبادة الوحيدة الملازمة للمسلم؛ لأن الصلاة في حقيقتها استدامة الولاء لله تعالى، فَرَبُّك يدعوك إلى لقائه خمس مرات في اليوم والليلة يناديك لتعرض الصنعة على صانعها، وما بالك بصنعة تُعرض على صانعها خمس مرات في اليوم والليلة؟ أيكون بها عَطَب بعد ذلك؟
أما إذا أردتَ مقابلة عظيم من عظماء الدنيا فَدُونه أبواب وحُرَّاس ومواعيد وإجراءات صارمة، ولا تملك أنت من عناصر هذا اللقاء شيئاً، بل يحدد لك الموعد والموضوع وحتى ما تقوله، إنك تستأذن في أوله ولا تملك الانصراف في آخره.
أما لقاؤك بربك فخلاف ذلك، ففي يدك أنت كل عناصر اللقاء، فأنت تبدؤه متى تحب، وتنهيه كما تحب، وتناجي ربك فيه بما تريد، تبثُّه شكواك، وتعرض عليه حاجتك، فيسمع ويجيب.
وبعد أنْ ذكر الحق سبحانه هذه العبارة الدائمة يقرر هذه الحقيقة {وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ} يعني: عبادتك عائدة إليك أنت لا ينتفع الله تعالى منها بشيء، فهو سبحانه لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين.
فهو سبحانه غني عَنَّا، ونحن بعبادتنا لله لم نزده سبحانه صفة كمال لم تكن له؛ لأنه بصفة الكمال أوجدنا وبصفة الكمال كلَّفنا. لذلك جاء في الحديث القدسي:"يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسَكم وجِنَّكم، وشاهدكم وغائبكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في مُلكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجِنَّكم وشاهدكم وغائبكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من مُلكي شيئاً، ذلك أنِّي جَوَاد ماجد واجد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أنْ أقول له كن فيكون".
إذن: نحن صَنْعة الله، وما رأينا صانعاً يعمد إلى صَنْعته فيحطمها أو يعيبها، إنما يصلحها ويُهذِّبها ويعتني بها، حتى إنْ أصابك عطب أو إيلام فاعلم أنه في النهاية لصالحك.
{وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} يعني: المرجع والمنقلب يوم القيامة ليفصل بين الخصوم، ولينال كل ما يستحق، فمَنْ أفلت من العقاب في الدنيا فهناك مصير سيرجع إليه.