المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

16- والرجل والمرأة اللذان يزنيان وهما غير متزوجين فلهما عقوبة محدودة - إذا ثبت الزنا بشهادة شهود أربعة عدول - فإن تابا بعد العقوبة فلا تذكِّروهما بما ارتكبا ولا تعيِّروهما به ، إن الله يقبل برحمته توبة التائبين .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

قوله تعالى : { واللذان يأتيانها منكم } . يعني : الرجل والمرأة ، والهاء راجعة إلى الفاحشة ، قرأ ابن كثير " اللذان " ، و " اللذين " ، و " هاتان " ، و " هذان " مشددة النون للتأكيد ، ووافقه أهل البصرة في ( فذانك ) ، والآخرون " بالتخفيف ، قال أبو عبيدة : خص أبو عمرو فذانك بالتشديد لقلة الحروف في الاسم .

قوله تعالى : { فآذوهما } . قال عطاء وقتادة : فعيروهما باللسان : أما خفت الله ؟ أما استحييت من الله حيث زنيت ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما : سبوهما ، واشتموهما ، قال ابن عباس : هو باللسان واليد ، يؤذى بالتعيير وضرب النعال . فإن قيل : ذكر الحبس في الآية الأولى ، وذكر في هذه الآية الإيذاء ، فكيف وجه الجمع ؟ قيل : الآية الأولى في النساء وهذه في الرجال ، وهو قول مجاهد ، وقيل : الآية الأولى في الثيب ، وهذه في البكر .

قوله تعالى : { فإن تابا } . من الفاحشة .

قوله تعالى :{ وأصلحا } . العمل فيما بعد .

قوله تعالى : { فأعرضوا عنهما } . فلا تؤذوهما .

قوله تعالى : { إن الله كان تواباً رحيماً } . وهذا كله كان قبل نزول الحدود ، فنسخت بالجد والرجم ، والجلد في القرآن . قال الله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } [ النور :2 ] . والرجم في السنة .

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أنهما أخبراه ، أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : اقض يا رسول الله بيننا بكتاب الله ، وقال الآخر وكان أفقههما :أجل يا رسول الله ، فاقض بيننا بكتاب الله ، وائذن لي أن أتكلم ، قال : تكلم . قال : إن ابني كان عسيفاً ، أي أجيرا ، على هذا ، فزنى بامرأته ، فأخبروني أن على ابني الرجم ، فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي ، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة ، وتغريب عام ، وإنما الرجم على امرأته . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، أما غنمك وجاريتك فرد عليك ، وأما على ابنك فعليه جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس على امرأة هذا –أي أمر أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر-فإن اعترفت فارجمها " . فغدا عليها فاعترفت فرجمهاأتي امرأة أ .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد ابن إسماعيل ، أنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس قال : قال عمر رضي الله عنه : إن الله تعالى بعث محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله تعالى آية الرجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم . ورجمنا بعده ، وأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله تعالى ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى في كتابه .

والرجم في كتاب الله تعالى حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة ، أو كان الحبل ، أو الاعتراف . وجملة حد الزنا أن الزاني إذا كان محصناً ، وهو الذي اجتمع فيه أربعة أوصاف : العقل ، والبلوغ ، والحرية ، والإصابة بالنكاح الصحيح ، فحده الرجم ، مسلماً كان أو ذمياً ، وهو المراد من الثيب المذكور في الحديث .

وذهب أصحاب الرأي إلى أن الإسلام من شرائط الإحصان ، ولا يرجم الذمي . وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم يهوديين زنيا وكانا قد أحصنا ، وإن كان الزاني غير محصن بأن لم تجتمع فيه هذه الأوصاف نظر إن كان غير بالغ ، أو كان مجنوناً فلا حد عليه . وإن كان حراً ، عاقلاً بالغاً ، غير أنه لم يحصن بنكاح صحيح فعليه جلد مائة وتغريب عام ، وإن كان عبداً فعليه جلد خمسين ، وفي تغريبه قولان : إن قلنا يغرب فيه قولان : أصحهما نصف سنة ، كما يجلد خمسين . على نصف حد الحر .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

{ و } كذلك { الَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا } أي : الفاحشة { مِنْكُمْ } من الرجال والنساء { فَآذُوهُمَا } بالقول والتوبيخ والتعيير والضرب الرادع عن هذه الفاحشة ، فعلى هذا يكون الرجال إذا فعلوا الفاحشة يؤذون ، والنساء يحبسن ويؤذين .

فالحبس غايته إلى الموت ، والأذية نهايتها إلى التوبة والإصلاح ، ولهذا قال : { فَإِنْ تَابَا } أي : رجعا عن الذنب الذي فعلاه وندما عليه ، وعزما على أن لا يعودا { وَأَصْلَحَا } العمل الدال على صدق التوبة { فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } أي : عن أذاهما { إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا } أي : كثير التوبة على المذنبين الخطائين ، عظيم الرحمة والإحسان ، الذي -من إحسانه- وفقهم للتوبة وقبلها منهم ، وسامحهم عن ما صدر منهم .

ويؤخذ من هاتين الآيتين أن بينة الزنا ، لا بد أن تكون أربعة رجال مؤمنين ، ومن باب أولى وأحرى اشتراط عدالتهم ؛ لأن الله تعالى شدد في أمر هذه الفاحشة ، سترًا لعباده ، حتى إنه لا يقبل فيها النساء منفردات ، ولا مع الرجال ، ولا ما دون أربعة .

ولا بد من التصريح بالشهادة ، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة ، وتومئ إليه هذه الآية لما قال : { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } لم يكتف بذلك حتى قال : { فَإِنْ شَهِدُوا } أي : لا بد من شهادة صريحة عن أمر يشاهد عيانًا ، من غير تعريض ولا كناية .

ويؤخذ منهما أن الأذية بالقول والفعل والحبس ، قد شرعه الله تعزيرًا لجنس المعصية الذي يحصل به الزجر .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

قوله { والذان يأتيانها } فهو مقتض نوعين من الذكور فإنّه تثنية الذي وهو اسم موصول للمذكّر ، وقد قوبل به اسمُ موصول النساء الذي في قوله : { واللاّتي يأتين الفاحشة } ولا شكّ أنّ المراد ب { اللذان } صنفان من الرجال : وهما صنف المحصنين ، وصنف غير المحصنين منهم ، وبذلك فسّره ابن عباس في رواية مجاهد ، وهو الوجه في تفسير الآية ، وبه يتقوّم معنى بيِّن غير متداخل ولا مُكَرّر .

ووجه الإشعار بصنفي الزناة من الرجال التحرّز من التماس العذر فيه لغير المحصنين . ويجوز أن يكون أطلق على صنفين مختلفين أي الرجال والنساء على طريقة التغليب الذي يكثر في مثله ، وهو تفسير السدّي وقتادة ، فعلى الوجه الأول تكون الآية قد جعلت للنساء عقوبة واحدة على الزنى وهي عقوبة الحبس في البيوت ، وللرجال عقوبة على الزنى ، هي الأذى سواء كانوا محصنين بزوجات أم غير محصنين ، وهم الأعزبون . وعلى الوجه الثاني تكون قد جعلت للنساء عقوبتين : عقوبة خاصّة بهنّ وهي الحبس ، وعقوبة لهنّ كعقوبة الرجال وهي الأذى ، فيكون الحبس لهنّ مع عقوبة الأذى . وعلى كلا الوجهين يستفاد استواء المحصن وغير المحصن من الصنفين في كلتا العقوبتين ، فأمّا الرجال فبدلالة تثنية اسم الموصول المراد بها صنفان اثنان ، وأمّا النساء فبدلالة عموم صيغة { نسائكم } .

وضمير النصب في قوله : { يأتيانها } عائد إلى الفاحشة المذكورة وهي الزنا . ولا التفات لكلام من توهّم غير ذلك . والإيذاء : الإيلام غير الشديد بالفعل كالضرب غير المبرح ، والإيلام بالقول من شتم وتوبيخ ، فهو أعمّ من الجلد ، والآية أجملته ، فهو موكول إلى اجتهاد الحاكم .

وقد اختلف أيمّة الإسلام في كيفية انتزاع هذين العقوبتين من هذه الآية : فقال ابن عباس ، ومجاهد : اللاتي يأتين الفاحشة يعمّ النساء خاصّة فشمل كلّ امرأة في سائر الأحوال بكراً كانت أم ثيّبا ، وقوله : { واللذان } تثنية أريد بها نوعان من الرجال وهم المحصن والبكر ، فيقتضي أنّ حكم الحبس في البيوت يختصّ بالزواني كلّهنّ ، وحكم الأذى يختصّ بالزناة كلّهم ، فاستفيد التعميم في الحالتين إلاّ أن استفادته في الأولى من صيغة العموم ، وفي الثانية من انحصار النوعين ، وقد كان يغني أن يقال : واللاتي يأتين ، والذين يأتون ، إلاّ أنّه سلك هذا الأسلوب ليحصل العموم بطريقين مع التنصيص على شمول النوعين .

وجُعل لفظ ( اللاتى ) للعموم ليستفاد العموم من صيغة الجمع فقط .

وجعل لفظ و { اللذان } للنوعين لأنّ مفرده وهو الذي صالح للدلالة على النوع ، إذ النوع يعبّر عنه بالمذكَّر مثل الشخص ، ونحو ذلك ، وحصل مع ذلك كلّه تفنّن بديع في العبارة فكانت بمجموع ذلك هاته الآية غاية في الإعجاز ، وعلى هذا الوجه فالمراد من النساء معنى ما قابل الرجال وهذا هو الذي يجدر حمل معنى الآية عليه .

والأذى أريد به هنا غير الحبس لأنّه سبق تخصيصه بالنساء وغير الجلد ، لأنّه لم يشرع بعدُ ، فقيل : هو الكلام الغليظ والشتم والتعيير . وقال ابن عباس : هو النيل باللسان واليد وضرب النعال ، بناء على تأويله أنّ الآيةَ شرعت عقوبة للزنا قبل عقوبة الجلد .

واتّفق العلماء على أنّ هذا حكم منسوخ بالجلد المذكور في سورة النور ، وبما ثبت في السنّة من رجم المحصنين وليس تحديد هذا الحكم بغايةِ قوله : { أو يجعل الله لهن سبيلاً } بصارف معنى النسخ عن هذا الحكم كما توهّم ابن العربي ، لأنّ الغاية جعلت مبهمة ، فالمسلمون يترقّبون ورود حكم آخر ، بعد هذا ، لا غِنى لهم عن إعلامهم به .

واعلَمْ أنّ شأن النسخ في العقوبات على الجرائم التي لم تكن فيها عقوبة قبل الإسلام ، أن تنسخ بأثقل منها ، فشرع الحبس والأذى للزناة في هذه السورة ، وشرع الجلد بآية سورة النور ، والجلد أشدّ من الحبس ومن الأذى ، وقد سوّي في الجلد بين المرأة والرجل ، إذ التفرقة بينهما لا وجه لبقائها ، إذ كلاهما قد خرق حكماً شرعياً تبعا لشهوة نفسية أو طاعة لغيره .

ثم إنّ الجلد المعيَّن شرع بآية سورة النور مطلقاً أو عامّا على الاختلاف في محمل التعريف في قوله : { الزانية والزاني } [ النور : 2 ] ؛ فإن كان قد وقع العمل به كذلك في الزناة والزواني : محصنين أو أبكاراً ، فقد نسخه الرجم في خصوص المحصنين منهم ، وهو ثابت بالعمل المتواتر ، وإن كان الجلد لم يعمل به إلاّ في البكرين فقد قيّد أو خصّص بغير المحصنين ، إذ جعل حكمهما الرجم . والعلماء متّفقون على أنّ حكم المحصنين من الرجال والنساء الرجم . والمحصن هو من تزوّج بعقد شرعي صحيح ووقع البناء بعد ذلك العقد بناء صحيحاً . وحكم الرجم ثبت من قبل الإسلام في شريعة التوراة للمرأة إذا زنت وهي ذات زوج ، فقد أخرج مالك ، في « الموطأ » ، ورجال الصحيح كلّهم ، حديث عبد الله بن عمر : أنّ اليهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أنّ رجلاً وامرأة زنيا ، فقال رسول الله " ما تجدون في التوراة في شأن الرجم " فقالوا « نفضحهم ويجلدون » فقال عبد الله بن سلام « كذبتم إنّ فيها الرجم » فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام « ارفع يدك » فرفع يده فإذا فيها آية الرجم . فقالوا : « صدق يا محمد فيها آية الرجم » فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجما وقد ذكر حكم الزنا في سفر التثنية ( 22 ) فقال " إذا وجد رجل مضطجعاً مع امرأة زوجةِ بعلٍ يُقتل الاثنان ، وإذا وجد رجل فتاة عذراء غير مخطوبة فاضطجع معها فوُجدا ، يعطي الرجل الذي اضطجع معها لأبي الفتاة خمسين من الفضّة وتكون هي له زوجة ولا يقدر أن يطلّقها كلّ أيّامه " . وقد ثبت الرجم في الإسلام بما رواه عبادة بن الصامت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خذوا عني خذوا عني . قد جعل الله لهنّ سبيلاً ، البكر بالبكر ضرب مائة وتغريب عام ، والثيّب بالثيّب جلد مائة والرجم " .

ومقتضاه الجمع بين الرجم والجلد ، ولا أحسبه إلاّ توهّما من الراوي عن عبادة أو اشتبه عليه ، وأحسب أنّه لذلك لم يعمل به العلماء فلا يجمع بين الجلد والرجم . ونسب ابن العربي إلى أحمد بن حنبل الجمع بين الرجم والجلد . وهو خلاف المعروف من مذهبه . وعن علي بن أبي طالب أنه جمع بين الجلد والرجم . ولم يصحّ . ثم ثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في القضاء بالرجم ثلاثة أحاديث : أوّلها قضيّة ماعز بن مالك الأسلمي ، أنّه جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا فأعرض عنه ثلاث مرّات ثم بعث إلى إهله فقال : به جنون ؟ قالوا : لا ، وأبكر هو أم ثيّب ؟ قالوا : بل ثيِّب . فأمر به فرجم .

الثاني : قضيّة الغامدية ، أنّها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترفت بالزنا وهي حبلى فأمرها أن تذهب حتّى تضع ، ثم حتّى ترضعه ، فلمّا أتمّت رضاعه جاءت فأمر بها فرجمت .

الثالث : حديث أبي هريرة ، وخالد الجهني ، أنّ رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله . وقال الآخر وهو أفقههما : أجَلْ يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله واذَنْ لي في أن أتكلّم ؟ قال : تكَلَّمْ . قال : إنّ ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي ، ثم إنّي سألت أهلَ العلم فأخبروني أنَمَّا على ابني جلدُ مائة وتغريب عام ، وأخبروني أنّما الرجم على امرأته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَا والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله ، أمَّا غنمك وجاريتك فرَدٌّ عليك وجلَد ابنه مائة وغربه عاما واغْدُ يا أُنَيْسُ ( هو أُنيْس بن الضَّحاك ويقال ابن مرثد الأَسلَمي ) على زوجةِ هذا ، فإن اعترفت فارجُمها ، فاعترفت فرَجَمَها . قال مالك والعسيف الأجير . هذه الأحاديث مرسل منها اثنان في « الموطأ » ، وهي مسندة في غيره ، فثبت بها وبالعمل حكم الرجم للمحصنَيْن ، قال ابن العربي : هو خبر متواتر نسخ القرآن . يريد أنّه متواتر لدى الصحابة فلتواتره أجمعوا على العمل به . وأمّا ما بلغ إلينا وإلى ابن العربي وإلى من قبله فهو أخبار آحاد لا تبلغ مبلغ متواتر ، فالحقّ أنّ دليل رجم المحصنين هو ما نقل إلينا من إجماع الصحابة وسنتعرّض إلى ذلك في سورة النور ، ولذلك قال بالرجم الشافعي مع أنّه لا يقول بنسخ القرآن بالسّنة .

والقائلون بأنّ حكم الرجم ناسخ لحكم الحبْس في البيوت قائلون بأنّ دليل النسخ هو حديث قد : { جعل الله لهن سبيلاً } وفيه ( والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ) فتضمنّ الجلد ، ونسب هذا القول للشافعي وجماعة ، وأورد الجصّاص على الشافعي أنّه يلزمه أنّ القرآن نُسخ بالسنّة ، وأنّ السنّة نسخت بالقرآن ، وهو لا يرى الأمرين ، وأجاب الخطابي بأنّ آية النساء مغياة ، فالحديث بيَّن الغاية ، وأنّ آية النور نزلت بعد ذلك ، والحديث خصّصها من قبلِ نزولها .

قلت : وعلى هذا تكون آية النور نزلت تقريراً لبعض الحكم الذي في حديث الرجم ، على أنّ قوله : إنّ آية النساء مغيّاة ، لا يُجدي لأنّ الغاية المبهمة لمّا كان بيانها إبطالا لحكم المغيَّى فاعتبارُها اعتبارُ النسخ ، وهل النسخ كلّه إلاّ إيذان بوصول غاية الحكم المرادة لله غير مذكورة في اللفظ ، فذكرها في بعض الأحكام على إبهامها لا يكسو النزول غير شعار النسخ . وقال بعضهم شُرع الأذى ثم نسخ بالحبس في البيوت وإن كان في القراءة متأخّرا . وهذا قول لا ينبغي الالتفات إليه فلا مخلص من هذا الإشكال إلاّ بأن نجعل إجماع الصحابة على ترك الإمساك في البيوت ، وعلى تعويضه بالحدّ في زمان النبوءة فيؤول إلى نسخ القرآن بالسنّة المتواترة ، ويندفع ما أورده الجصَّاص على الشافعي ، فإنّ مخالفة الإجماع للنصّ تتضمّن أنّ مستند الإجماع ناسخ للنصّ .

ويتعيّن أن يكون حكم الرجم للمحصَن شرع بعد الجلد ، لأنّ الأحاديث المروية فيه تضمّنت التغريب مع الجَلد ، ولا يتصوّر تغريب بعد الرجم ، وهو زيادة لا محالة لم يذكرها القرآن ، ولذلك أنكر أبو حنيفة التغريب لأنّه زيادة على النصّ فهو نسخ عنده . قال ابن العربي في الأحكام : أجمع رأي خيار بني إسماعيل على أنّ من أحدث حدثا في الحرم يغرّب منه ، وتمادى ذلك في الجاهلية فكان كلّ من أحدث حدثاً غرّب من بلده إلى أن جاء الإسلام فأقرّه في الزنا خاصَّة . قلت : وكان في العرب الخَلع وهو أن يُخلع الرجل من قبيلته ، ويشهدون بذلك في الموسم ، فإن جرّ جريرة لا يطالب بها قومه ، وإن اعتدي عليه لا يطلب قومه دية ولا نحوها ، وقد قال امرؤ القيس :

به الذيب يَعْوِي كالخَليع المُعَيَّلِ

واتّفقوا على أنّ المرأة لا تغرّب لأنّ تغريبها ضيعة ، وأنكر أبو حنيفة التغريب لأنّه نقْل ضرّ من مكان إلى آخر وعوّضه بالسجن ولا يعرف بين أهل العلم الجمع بين الرجم والضرب ولا يظنّ بشريعة الإسلام ذلك ورُوي أنّ عليّا جَلد شراحة الهمْدانية ورجمها بعد الجلد ، وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله .

وقرن بالفاء خبر الموصولين من قوله : { فاستشهدوا } وقوله { فآذوهما } لأنّ الموصول أشرب معنى الشرط تنبيها على أنّ صلة الموصول سبب في الحكم الدالّ عليه خبره ، فصار خبر الموصول مثل جواب الشرط ويظهر لي أنّ ذلك عندما يكون الخبر جملة ، وغير صالحة لمباشرة أدوات الشرط ، بحيث لو كانت جزَاء للزم اقترانها بالفاء . هكذا وجدنا من استقراء كلامهم ، وهذا الأسلوب إنّما يقع في الصلات التي تُومِىء إلى وجه بناء الخبر ، لأنّها التي تعطي رائحة التسبّب في الخبر الوارد بعدها .

ولك أن تجعل دخول الفاء علامة على كون الفاء نائبة عن ( أَمَّا ) .

ومن البيّن أنّ إتيانَ النساء بالفاحشة هو الذي سبّب إمساكهن في البيوت ، وإن كان قد بني نظم الكلام على جعل { فاستشهدوا عليهن } هو الخبر ، لكنّه خبر صوري وإلاّ فإنّ الخبر هو { فأمسكوهن } ، لكنّه جيء به جواباً لشرط هو متفرّع على { فإن شهدوا } ففاء { فاستشهدوا } هي الفاء المشبّهة لفاء الجواب ، وفاء { فإن شهدوا } تفريعية ، وفاء { فأمسكوهن } جزائية ، ولولا قصد الاهتمام بإعداد الشهادة قبل الحكم بالحبس في البيوت لقيل : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فأمسكوهنّ في البيوت إن شهد عليهنّ أربعة منكم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم ذكر البكرين اللذين لم يحصنا، فقال عز وجل: {واللذان يأتيانها منكم}، يعني الفاحشة، وهو الزنا، منكم {فآذوهما} باللسان، يعني بالتعيير والكلام القبيح بما عملا، ولا حبس عليهما، لأنهما بكران، فيعيران ليندما ويتوبا، يقول الله عز وجل: {فإن تابا} من الفاحشة {وأصلحا} العمل فيما بقي، {فأعرضوا عنهما}، يعني فلا تسمعوهما الأذى بعد التوبة، {إن الله كان توابا رحيما}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ}: والرجل والمرأة اللذان يأتيانها، يقول: يأتيان الفاحشة والهاء والألف في قوله: {يأْتِيانها} عائدة على الفاحشة التي في قوله: {وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ} والمعنى: واللذان يأتيان منكم الفاحشة فآذوهما.

ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: {واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ فآذُوهُما}؛ فقال بعضهم: هما البكران اللذان لم يحصنا، وهما غير اللاتي عنين بالآية قبلها. وقالوا: قوله: {وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ} معنيّ به الثيبات المحصنات بالأزواج، وقوله: {واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ} يعني به: البكران غير المحصنين. وقال آخرون: بل عُني بقوله: {واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ} الرجلان الزانيان. وقال آخرون: بل عني بذلك الرجل والمرأة، إلا أنه لم يقصد به بكر دون ثيب. وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: {واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ} قول من قال: عني به البكران غير المحصنين إذا زنيا وكان أحدهما رجلاً والاَخر امرأة، لأنه لو كان مقصود بذلك قصد البيان عن حكم الزناة من الرجال كما كان مقصودا بقوله: {وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ} قصد البيان عن حكم الزواني، لقيل: والذين يأتونها منكم فآذوهم، أو قيل: والذي يأتيها منكم، كما قيل في التي قبلها: {وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ} فأخرج ذكرهنّ على الجمع، ولم يقل: واللتان يأتيان الفاحشة. وكذلك تفعل العرب إذا أرادت البيان على الوعيد على فعل أو الوعد عليه، أخرجت أسماء أهله بذكر الجمع أو الواحد، وذلك أن الواحد يدلّ على جنسه، ولا تخرجها بذكر اثنين، فتقول: الذين يفعلون كذا فلهم كذا، والذي يفعل كذا فله كذا، ولا تقول: اللذان يفعلان كذا فلهما كذا، إلا أن يكون فعلاً لا يكون إلا من شخصين مختلفين كالزنا لا يكون إلا من زان وزانية. فإذا كان ذلك كذلك، قيل بذكر الاثنين، يراد بذلك الفاعل والمفعول به، فإما أن يذكر بذكر الاثنين والمراد بذلك شخصان في فعل قد ينفرد كلّ واحد منهما به أو في فعل لا يكونان فيه مشتركين فذلك ما لا يعرف في كلامها. وإذا كان ذلك كذلك، فبيّن فساد قول من قال: عُني بقوله: {واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ} الرجلان، وصحة قول من قال: عني به الرجل والمرأة وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أنهما غير اللواتي تقدم بيان حكمهنّ في قوله: {وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ} لأن هذين اثنان وأولئك جماعة. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الحبس كان للثيبات عقوبة حتى يتوفين من قبل أن يجعل لهنّ سبيلاً، لأنه أغلظ في العقوبة من الأذى الذي هو تعنيف وتوبيخ أو سبّ وتعيير، كما كان السبيل التي جعلت لهنّ من الرجم أغلظ من السبيل التي جعلت للأبكار من جلد المائة ونفي السنة.

{فَآذُوهُما فإنْ تابا وأصْلَحا فأعْرِضُوا عَنْهُما إنّ اللّهَ كانَ تَوّابا رَحِيما}:

اختلف أهل التأويل في الأذى الذي كان الله تعالى ذكره جعله عقوبة للذين يأتيان الفاحشة من قبل أن يجعل لهما سبيلاً منه، فقال بعضهم: ذلك الأذى، أذى بالقول واللسان، كالتعيير والتوبيخ على ما أتيا من الفاحشة. وقال آخرون: كان ذلك الأذى، أذى اللسان، غير أنه كان سبّا.

وقال آخرون: بل كان ذلك الأذى باللسان واليد. فكان الرجل إذا زنى أوذي بالتعيير، وضرب بالنعال.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره كان أمر المؤمنين بأذى الزانيين المذكورين إذا أتيا ذلك وهما من أهل الإسلام، والأذى قد يقع بكل مكروه نال الإنسان من قول سيئ باللسان أو فعل، وليس في الآية بيان أن ذلك كان أمر به المؤمنون يومئذ، ولا خبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نقل الواحد ولا نقل الجماعة الموجب مجيئها قطع العذر. وأهل التأويل في ذلك مختلفون، وجائز أن يكون ذلك أذى باللسان واليد، وجائز أن يكون كان أذى بأيهما، وليس في العلم بأيّ ذلك كان من أيّ نفعٌ في دين ولا دنيا ولا في الجهل به مضرّة، إذ كان الله جلّ ثناؤه قد نسخ ذلك من محكمه بما أوجب من الحكم على عباده فيهما وفي اللاتي قبلهما فأما الذي أوجب من الحكم عليهم فيهما فما أوجب في سورة النور بقوله: {الزّانِيَةُ والزّاني فاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ} وأما الذي أوجب في اللاتي قبلهما، فالرجم الذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما، وأجمع أهل التأويل جميعا على أن الله تعالى ذكره قد جعل لأهل الفاحشة من الزناة والزواني سبيلاً بالحدود التي حكم بها فيهم.

وقال جماعة من أهل التأويل: إن الله سبحانه نسخ بقوله: {الزّانِيَةُ والزّاني فاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ} قوله: {واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما}. {فإنْ تابا وأصْلَحا فَأعْرِضُوا عَنْهُما}: فإن تابا من الفاحشة التي أتيا، فراجعا طاعة الله بينهما وأصلحا، يقول: وأصلحا دينهما بمراجعة التوبة من فاحشتهما والعمل بما يرضي الله، "فأعرضوا عنهما": فاصفحوا عنهما، وكفوا عنهما الأذى الذي كنت أمرتكم أن تؤذوهما به، عقوبة لهما على ما أتيا من الفاحشة، ولا تؤذوهما بعد توبتهما.

{إنّ اللّهَ كانَ تَوّابا رَحِيما}: أن الله لم يزل راجعا لعبيده إلى ما يحبون إذا هم راجعوا ما يحب منهم من طاعته رحيما بهم، يعني: ذا رحمة ورأفة.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{واللذان يأتيانها مِنكُمْ} يريد الزاني والزانية {فَآذُوهُمَا} فوبخوهما وذمّوهما وقولوا لهما: أما استحييتما، أما خفتما الله... {فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا} وغيرا الحال {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} واقطعوا التوبيخ والمذمة، فإن التوبة تمنع استحقاق الذم والعقاب، ويحتمل أن يكون خطاباً للشهود العاثرين على سرهما، ويراد بالإيذاء ذمهما وتعنيفهما وتهديدهما بالرفع إلى الإمام والحد، فإن تابا قبل الرفع إلى الإمام فأعرضوا عنهما ولا تتعرضوا لهما. وقيل: نزلت الأولى في السحاقات وهذه في اللواطين.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

(واللذان يأتيانها منكم) أي يأتيان الفاحشة وهي هنا الزنا في قول الجمهور، واللواط في قول بعضهم، وعليه أبو مسلم، والأمران معا في قول (الجلالين)، والمراد بالتثنية في الأول الزاني والزانية بطرق التغليب، وفي الثاني الفاعل والمفعول به بجعل القابل كالفاعل، وفي الثاني الزاني واللائط ولا تجوز فيه.

(فآذوهما) بعد ثبوت ذلك بشهادة الأربعة كما يؤخذ من الآية الأولى. روي عن ابن عباس رضي الله عنه تفسير الإيذاء بالتعيير والضرب بالنعال، وعن مجاهد وقتادة والسدي تفسيره بالتعيير والتوبيخ فقط. فإذا كانت هذه الآية قد نزلت قبل آية سورة النور، وكان المراد بها الزنا كما هو قول الجمهور، فالعقاب كان تعزيرا مفوضا إلى الأمة، وإلا جاز أن يراد بالإيذاء الحد المشروع نفسه. والظاهر أن آية النور نزلت بعد هذه وهي مبينة ومحددة للإيذاء هنا على القول بأن ما هنا في الزنا، وإلا فتلك خاصة بحكم الزنا لأنها صريحة فيه، وهذه خاصة باللواط، ولذلك اختلف الصحابة ومن بعدهم في عقاب من يأتيه، وهذا ما اختاره أبو مسلم وتخصيصه الفاحشة في هذه الآية باللواط الذي هو استمتاع الرجل بالرجل والفاحشة فيما قبلها بالسحاق الذي هو استمتاع المرأة بالمرأة هو المناسب لجعل تلك خاصة بالنساء وهذه خاصة بالذكور. فهذا مرجح لفظي يدعمه مرجح معنوي وهو كون القرآن عليه ناطقا بعقوبة الفواحش الثلاث، وكون هاتين الآيتين محكمتين. والأحكام أولى من النسخ حتى عند الجمهور القائلين به. وستأتي تتمة هذا البحث.

(فإن تابا) رجعا عن الفاحشة وندما على فعلها (وأصلحا) العمل كما هو شأن المؤمن يقبل على الطاعة بعد العصيان ليطهر نفسه ويزكيها من درنه ويقوي فيها داعية الخير على داعية الشر (فأعرضوا عنهما) أي كفوا عن إيذائهما بالقول والفعل.

(إن الله كان توابا رحيما) أي مبالغا في قبول التوبة من عباده، شديد الرحمة بهم وإنما شرع العقاب لينزجر العاصي ولا يتمادى فيما يفسده فيهلك ويكون قدوة في الشر والخبث (وراجع تفسير التواب الرحيم في ج 2 تفسير).

وقال الأستاذ الإمام في هاتين الآيتين ما ملخصه:

اختلف المفسرون في الآيتين فالجمهور على أنهما في الزنا خاصة، ولأجل الفرار من التكرار قالوا إن الآية الأولى في المحصنات أي الثيبات، فهن اللواتي كن يحبسن في البيوت إذا زنين حتى يتوفاهن الموت، والثانية في غير المحصنين والمحصنات أي في الأبكار، ولهذا كان العقاب فيها أخف. وعلى هذا يكون الزاني المحصن مسكوتا عنه. والآيتان على هذا القول منسوختان بالحد المفروض في سورة النور، وهو السبيل الذي جعله الله للنساء اللواتي يمسكن في البيوت. ولكن يبقى في نظم الآية شيء وهو أن كلا من توفي الموت ومن جعل السبيل قد جعل غاية للإمساك في البيوت بعد وقوعه، فعلى هذا لا يصح تفسير السبيل بإنزال حكم جديد فيهن، إذ يكون المعنى على هذا التفسير فأمسكوهن في البيوت إلى أن يمتن أو ينزل الله فيهن حكما جديدا.

وفد فسر السبيل بعضهم بالزواج كأن يسخر الله للمرأة المحبوسة رجلا آخر يتزوجها. وقد وافق الجلال الجمهور في الأولى وخالفهم في الثانية فقال: إنها في الزنا واللواط معا، ثم رجح أنها في اللواط. فتكون الأولى منسوخة على رأيه والثانية غير منسوخة. وخالف الجمهور أبو مسلم في الآيتين فقال: إن الأولى في المساحقات والثانية في اللواط فلا نسخ. وحكمة حبس المساحقات على هذا القول هو أن المرأة التي تعتاد المساحقة تأبى الرجال وتكره قربهم- أي فلا ترضى أن تكون حرثا للنسل- فتعاقب بالإمساك في البيت والمنع من مخالطة أمثالها من النساء إلى أن تموت أو تتزوج.

أقول: والأولى أن يقال إلى أن تموت أو تكره السحاق وتميل إلى الرجال فتقبل على بعلها إن كانت متزوجة وتتزوج إن كانت أيما. وقال في إسناده جعل السبيل لها إلى الله تعالى إشارة إلى عسر النزوع عن هذه العادة الذميمة والشفاء منها حتى بالترك الذي هو أثر الحبس فكأنها لا تزول إلا بعناية خاصة منه تعالى.

(قال): واعترض على أبي مسلم بأن تفسير الفاحشة في الآية الأولى لم يقل به أحد وبأن الصحابة اختلفوا في حد اللواط. فأجاب عن الأول بأن مجاهدا قال به ـ وناهيك بمجاهد ـ وبأنه ثبت في الأصول أنه يجوز للعالم أن يفسر القرآن ويفهم منه ما لم يكن مرويا عن أحد، بشرط أن لا يخرج بذلك عن مدلولات اللغة العربية في مفرداتها وأساليبها. وأجاب عن الثاني بأن الصحابة إنما اختلفوا في حد اللواط وهذا لا يمنع كون الآية نزلت في العقوبة عليه وهي لا حد فيها. وما يجاب به عن أبي مسلم أن الصحابة ما كانوا يجلسون لتفسير القرآن إلا عند الحاجة وإنما كانوا يتدارسونه ويتدبرونه للاهتداء والاتعاظ وهم يفهمونه لأنه نزل بلغتهم، فإذا سألهم سائل عن تفسير آية ذكروا له تفسيرها وقد يسكتون عن حكم الشيء السنين الطوال لعدم وقوعه، فإذا وقعت الواقعة ذكروا حكمها، فإذا جاء في القرآن حكم السحاق ولم نجد عندنا رواية عن الصحابة فيه ولا حكما منهم على امرأة بالحبس لأجله علمنا أن سبب هذا وذاك هو أنه لم يقع في زمنهم. ويشهد به أربعة منهم وإذا كان القرآن يضع عقابا على فاحشة أو جريمة فيمتنع عنها أهل الإيمان. فلا تقع أولا تظهر فيهم ولا تثبت على أحد فهذا مما نحمد الله تعالى عليه ونحمد المؤمنين والمؤمنات، ولا نعده من المستحيلات، فالحق أن ما ذهب إليه أبو مسلم هو الراجح في الآيتين.

(قال): وبحثوا في جمع اللاتي يأتين الفاحشة وتثنية اللذين يأتيانها وعدوه مشكلا، وما هو بمشكل، بل نكتته ظاهرة وهي أن النساء لما كن لا يجدن من العار في السحاق ما يجده الرجل في إتيان مثله، كانت فاحشة السحاق مظنة الشيوع والإظهار بين النساء، وفاحشة اللواط مظنة الإخفاء حتى لا تكاد تتجاوز اللذين يأتيانها. ففي التعبير بصيغة المثنى إشارة إلى ذلك وتقدير لكون فاحشة اللواط عارا فاضحا يتبرأ منه كل ذي فطرة سليمة. ويجوز أن يكون اختلاف التعبير بالجمع والتثنية من باب التنويع فذلك معهود في الكلام البليغ مع الأمن من الاشتباه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(واللذان يأتيانها منكم فآذوهما. فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما).

والأوضح أن المقصود بقوله تعالى: (واللذان يأتيانها منكم...) هما الرجلان يأتيان الفاحشة الشاذة. وهو قول مجاهد -رضي الله عنه- وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما: (فآذوهما): هو الشتم والتعيير والضرب بالنعال!

(فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما)..

فالتوبة والإصلاح -كما سيأتي- تعديل أساسي في الشخصية والكينونة والوجهة والطريق والعمل والسلوك. ومن ثم تقف العقوبة، وتكف الجماعة عن إيذاء هذين المنحرفين الشاذين. وهذا هو الاعراض عنهما في هذا الموضع: أي الكف عن الإيذاء.

والإيماءة اللطيفة العميقة:

(إن الله كان توابا رحيما)..

وهو الذي شرع العقوبة، وهو الذي يأمر بالكف عنها عند التوبة والإصلاح. ليس للناس من الأمر شيء في الأولى، وليس لهم من الأمر شيء في الأخيرة. إنما هم ينفذون شريعة الله وتوجيهه. وهو تواب رحيم. يقبل التوبة ويرحم التائبين.

واللمسة الثانية في هذه الإيماءة، هي توجيه قلوب العباد للاقتباس من خلق الله والتعامل فيما بينهم بهذا الخلق. وإذا كان الله توابا رحيما، فينبغي لهم أن يكونوا هم فيما بينهم متسامحين رحماء؛ أمام الذنب الذي سلف، وأعقبه التوبة والإصلاح. إنه ليس تسامحا في الجريمة، وليس رحمة بالفاحشين. فهنا لا تسامح ولا رحمة. ولكن سماحة ورحمة بالتائبين المتطهرين المصلحين، وقبولهم في المجتمع، وعدم تذكيرهم وتعييرهم بما كان منهم من ذنب تابوا عنه، وتطهروا منه، وأصلحوا حالهم بعده، فينبغي -حينئذ- مساعدتهم على استئناف حياة طيبة نظيفة كريمة، ونسيان جريمتهم حتى لا تثير في نفوسهم التأذي كلما واجهوا المجتمع بها؛ مما قد يحمل بعضهم على الانتكاس والارتكاس، واللجاج في الخطيئة، وخسارة أنفسهم في الدنيا والآخرة. والإفساد في الأرض، وتلويث المجتمع، والنقمة عليه في ذات الأوان.

وقد عدلت هذه العقوبة كذلك -فما بعد- فروى أهل السنن حديثا مرفوعا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" ].

وتبدو في هذه الأحكام عناية المنهج الإسلامي بتطهير المجتمع المسلم من الفاحشة؛ ولقد جاءت هذه العناية مبكرة: فالإسلام لم ينتظر حتى تكون له دولة في المدينة، وسلطة تقوم على شريعة الله، وتتولاها بالتنفيذ. فقد ورد النهي عن الزنا في سورة الإسراء المكية: (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا) كما ورد في سورة المؤمنون: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون)... (والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين).. وكرر هذا القول في سورة المعارج.

ولكن الإسلام لم تكن له في مكة دولة، ولم تكن له فيها سلطة؛ فلم يسن العقوبات لهذه الجريمة التي نهى عنه في مكة، إلا حين استقامت له الدولة والسلطة في المدينة، ولم يعتبر النواهي والتوجيهات وحدها كافية لمكافحة الجريمة، وصيانة المجتمع من التلوث. لأن الإسلام دين واقعي، يدرك أن النواهي والتوجيهات وحدها لا تكفي، ويدرك أن الدين لا يقوم بدون دولة وبدون سلطة. وإن الدين هو المنهج أو النظام الذي تقوم عليه حياة الناس العملية، وليس مجرد مشاعر وجدانية تعيش في الضمير، بلا سلطة وبلا تشريع، وبلا منهج محدد، ودستور معلوم!

ومنذ أن استقرت العقيدة الإسلامية في بعض القلوب في مكة، أخذت هذه العقيدة تكافح الجاهلية في هذه القلوب، وتطهرها وتزكيها. فلما أن أصبحت للإسلام دولة في المدينة، وسلطة تقوم على شريعة معلومة، وتحقق في الأرض منهج الله في صورة محددة، أخذ يزاول سلطته في صون المجتمع من الفاحشة عن طريق العقوبة والتأديب -إلى جانب التوجيه والموعظة- فالإسلام كما قلنا ليس مجرد اعتقاد وجداني في الضمير، إنما هو -إلى جانب ذلك- سلطان ينفذ في واقع الحياة ذلك الاعتقاد الوجداني، ولا يقوم أبدا على ساق واحدة.

وكذلك كان كل دين جاء من عند الله. على عكس ما رسخ خطأ في بعض الأذهان من أن هناك أديانا سماوية جاءت بغير شريعة، وبغير نظام، وبغير سلطان.. كلا! فالدين منهج للحياة. منهج واقعي عملي. يدين الناس فيه لله وحده، ويتلقون فيه من الله وحده. يتلقون التصور الاعتقادي والقيم الأخلاقية، كما يتلقون الشرائع التي تنظم حياتهم العملية. وتقوم على هذه الشرائع سلطة تنفذها بقوة السلطان في حياة الناس، وتؤدب الخارجين عليها وتعاقبهم، وتحمي المجتمع من رجس الجاهلية. لتكون الدينونة لله وحده، ويكون الدين كله لله. أي لا تكون هناك آلهة غيره -في صورة من الصور- آلهة تشرع للناس، وتضع لهم القيم والموازين، والشرائع والأنظمة. فالإله هو الذي يصنع هذا كله. وأيما مخلوق ادعى لنفسه الحق في شيء من هذا فقد ادعى لنفسه الألوهية على الناس.. وما من دين من عند الله يسمح لبشر أن يكون إلها، وأن يدعي لنفسه هذه الدعوى، ويباشرها.. ومن ثم فإنه ما من دين من عند الله يجيء اعتقادا وجدانيا صرفا، بلا شريعة عملية، وبلا سلطان ينفذ به هذه الشريعة!

وهكذا أخذ الإسلام في المدينة يزاول وجوده الحقيقي؛ بتطهير المجتمع عن طريق التشريع والتنفيذ، والعقوبة والتأديب. على نحو ما رأينا في هذه الأحكام التي تضمنتها هذه السورة، والتي عدلت فيما بعد، ثم استقرت على ذلك التعديل. كما أرادها الله.

ولا عجب في هذه العناية الظاهرة بتطهير المجتمع من هذه الفاحشة؛ والتشدد الظاهر في مكافحتها بكل وسيلة. فالسمة الأولى للجاهلية -في كل زمان- كما نرى في جاهليتنا الحاضرة التي تعم وجه الأرض -هي الفوضى الجنسية، والانطلاق البهيمي، بلا ضابط من خلق أو قانون. واعتبار هذه الاتصالات الجنسية الفوضوية مظهرا من مظاهر "الحرية الشخصية "لا يقف في وجهها إلا متعنت! ولا يخرج عليها إلا متزمت!

ولقد يتسامح الجاهليون في حرياتهم "الإنسانية "كلها، ولا يتسامحون في حريتهم" البهيمية "هذه! وقد يتنازلون عن حرياتهم تلك كلها، ولكنهم يهبون في وجه من يريد أن ينظم لهم حريتهم البهيمية ويطهرها!

وفي المجتمعات الجاهلية تتعاون جميع الأجهزة على تحطيم الحواجز الأخلاقية، وعلى إفساد الضوابط الفطرية في النفس الإنسانية، وعلى تزيين الشهوات البهيمية ووضع العناوين البريئة لها، وعلى إهاجة السعار الجنسي بشتى الوسائل، ودفعه إلى الإفضاء العملي بلا ضابط، وعلى توهين ضوابط الأسرة ورقابتها، وضوابط المجتمع ورقابته، وعلى ترذيل المشاعر الفطرية السليمة التي تشمئز من الشهوات العارية، وعلى تمجيد هذه الشهوات وتمجيد العري العاطفي والجسدي والتعبيري!

كل هذا من سمات الجاهلية الهابطة التي جاء الإسلام ليطهر المشاعر البشرية والمجتمعات البشرية منها. وهي هي بعينها سمة كل جاهلية.. والذي يراجع إشعار أمرئ القيس في جاهلية العرب يجد لها نظائر في إشعار الجاهلية الإغريقية والجاهلية الرومانية.. كما يجد لها نظائر في الآداب والفنون المعاصرة في جاهلية العرب والجاهليات الأخرى المعاصرة أيضا! كما أن الذي يراجع تقاليد المجتمع، وتبذل المرأة، ومجون العشاق، وفوضى الاختلاط في جميع الجاهليات قديمها وحديثها يجد بينها كلها شبها ورابطة، ويجدها تنبع من تصورات واحدة، وتتخذ لها شعارات متقاربة!

ومع أن هذا الانطلاق البهيمي ينتهي دائما بتدمير الحضارة وتدمير الأمة التي يشيع فيها- كما وقع في الحضارة الإغريقية، والحضارة الرومانية، والحضارة الفارسية قديما -وكما يقع اليوم في الحضارة الأوروبية وفي الحضارة الأمريكية كذلك، وقد أخذت تتهاوى على الرغم من جميع مظاهر التقدم الساحق في الحضارة الصناعية. الأمر الذي يفزع العقلاء هناك. وإن كانوا يشعرون- كما يبدو من أقوالهم -بأنهم أعجز من الوقوف في وجه التيار المدمر!

مع أن هذه هي العاقبة، فإن الجاهليين- في كل زمان وفي كل مكان -يندفعون إلى الهاوية، ويقبلون أن يفقدوا حرياتهم" الإنسانية "كلها أحيانا، ولا يقبلون أن يقف حاجز واحد في طريق حريتهم" البهيمية". ويرضون أن يستعبدوا استعباد العبيد، ولا يفقدوا حق الانطلاق الحيواني!

وهو ليس انطلاقا، وليس حرية. إنما هي العبودية للميل الحيواني والانتكاس إلى عالم البهيمة! بل هم أضل! فالحيوان محكوم- في هذا -بقانون الفطرة، التي تجعل للوظيفة الجنسية مواسم لا تتعداها في الحيوان، وتجعلها مقيدة دائما بحكمة الإخصاب والإنسال. فلا تقبل الأنثى الذكر إلا في موسم الإخصاب، ولا يهاجم الذكر الأنثى إلا وهي على استعداد! أما الإنسان فقد تركه الله لعقله؛ وضبط عقله بعقيدته. فمتى انطلق من العقيدة، ضعف عقله أمام الضغط، ولم يصبح قادرا على كبح جماح النزوة المنطلقة في كيانه. ومن ثم يستحيل ضبط هذا الاندفاع وتطهير وجه المجتمع من هذا الرجس، إلا بعقيدة تمسك بالزمام، وسلطان يستمد من هذه العقيدة، وسلطة تأخذ الخارجين المتبجحين بالتأديب والعقوبة. وترد الكائن البشري بل ترفعه من درك البهيمة إلى مقام "الإنسان" الكريم على الله.

والجاهلية التي تعيش فيها البشرية، تعيش بلا عقيدة، كما تعيش بلا سلطة تقوم على هذه العقيدة، ومن ثم يصرخ العقلاء في الجاهليات الغربية ولا يستجيب لهم أحد؛ لأن أحدا لا يستجيب لكلمات طائرة في الهواء ليس وراءها سلطة تنفيذية وعقوبات تأديبية. وتصرخ الكنيسة ويصرخ رجال الدين ولا يستجيب لهم أحد؛ لأن أحدا لا يستجيب لعقيدة ضائعة ليس وراءها سلطة تحميها، وتنفذ توجيهاتها وشرائعها! وتندفع البشرية إلى الهاوية بغير ضابط من الفطرة التي أودعها الله الحيوان! وبغير ضابط من العقيدة والشريعة التي أعطاها الله الإنسان!

وتدمير هذه الحضارة هو العاقبة المؤكدة، التي توحي بها كل تجارب البشرية السابقة. مهما بدا من متانة هذه الحضارة، وضخامة الأسس التي تقوم عليها. "فالإنسان"- بلا شك -هو أضخم هذه الأسس. ومتى دمر الإنسان، فلن تقوم الحضارة على المصانع وحدها، ولا على الإنتاج!

وحين ندرك عمق هذه الحقيقة، ندرك جانبا من عظمة الإسلام، في تشديد عقوباته على الفاحشة لحماية "الإنسان" من التدمير؛ كي تقوم الحياة الإنسانية على أساسها الإنساني الأصيل. كما ندرك جانبا من جريمة الأجهزة التي تدمر أسس الحياة الإنسانية بتمجيد الفاحشة وتزيينها، وإطلاق الشهوات البهيمية من عقالها، وتسمية ذلك أحيانا "بالفن" وأحيانا "بالحرية" وأحيانا "بالتقدمية".. وكل وسيلة من وسائل تدمير" الإنسان "ينبغي تسميتها باسمها.. جريمة.. كما ينبغي الوقوف بالنصح والعقوبة في وجه هذه الجريمة!..

وهذا ما يصنعه الإسلام. والإسلام وحده؛ بمنهجه الكامل المتكامل القويم.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

قوله {واللذان يأتيانها} فهو مقتض نوعين من الذكور فإنّه تثنية الذي وهو اسم موصول للمذكّر، وقد قوبل به اسمُ موصول النساء الذي في قوله: {واللاّتي يأتين الفاحشة} ولا شكّ أنّ المراد ب {اللذان} صنفان من الرجال: وهما صنف المحصنين، وصنف غير المحصنين منهم، وبذلك فسّره ابن عباس في رواية مجاهد، وهو الوجه في تفسير الآية، وبه يتقوّم معنى بيِّن غير متداخل ولا مُكَرّر. ووجه الإشعار بصنفي الزناة من الرجال التحرّز من التماس العذر فيه لغير المحصنين. ويجوز أن يكون أطلق على صنفين مختلفين أي الرجال والنساء على طريقة التغليب الذي يكثر في مثله، وهو تفسير السدّي وقتادة، فعلى الوجه الأول تكون الآية قد جعلت للنساء عقوبة واحدة على الزنى وهي عقوبة الحبس في البيوت، وللرجال عقوبة على الزنى، هي الأذى سواء كانوا محصنين بزوجات أم غير محصنين، وهم الأعزبون. وعلى الوجه الثاني تكون قد جعلت للنساء عقوبتين: عقوبة خاصّة بهنّ وهي الحبس، وعقوبة لهنّ كعقوبة الرجال وهي الأذى، فيكون الحبس لهنّ مع عقوبة الأذى. وعلى كلا الوجهين يستفاد استواء المحصن وغير المحصن من الصنفين في كلتا العقوبتين، فأمّا الرجال فبدلالة تثنية اسم الموصول المراد بها صنفان اثنان، وأمّا النساء فبدلالة عموم صيغة {نسائكم}.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

هذا هو العلاج الوقائي الذي خص القرآن به المرأة، حتى لا تستمر في غيها، وذلك هو طريق الإثبات، أما العلاج الذي الرجل والمرأة، فهو ما جاء في قوله تعالى: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما}.

هذا حكم الذكر والأنثى إذا أتيا تلك الفاحشة، وهي الأمر الإد، وهي المنكر الذي تنكره العقول. والعلاج في هذه الحال ليس علاجا نفسيا لهما فقط، بل هو زجر اجتماعي ليرتدع غيرهما، وهذا العلاج هو العقوبة الشديدة المؤذية في البدن وفي النفس، وكانت هذه علاجا نفسيا؛ لأن النفس المنحرفة لا تقوم إلا بشدة كالعود المعوج لا يقوم إلا بعمل شديد ليس بسهل، ولكن يلاحظ ألا ينكسر العود، وألا تنكسر النفس وتهون، ولذا كان العلاج بالإمساك والحفظ والرعاية.

ولقد ذكرت العقوبة هنا مجملة غير واضحة المقدار، بل كانت مجرد الإيذاء، وذكرت بعد ذلك مفصلة بينة المقدار في قوله تعالى: {الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بها رأفة في دين الله عن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين2 الزاني لا ينكح إلا زانية او مشركة والزانية لا تنكح إلا زان او مشرك وحرم ذلك على المؤمنين3} [النور].

ففي هذا النص عقوبتان مؤدبتان: إحداهما الجلد، والثانية منع الزواج من الزاني والزانية، وذلك ليحملهما على التوبة. وقد يقول قائل: إن الله تعالى ذكر علاجا تهذيبيا للمرأة، وهو الإمساك والرعاية في البيت، ولم يذكر علاجا تهذيبيا للرجل. نقول إنه ذكر له علاج تهذيبي، وهو منع الزواج منه كالمرأة، وذكر علاج له في السنة وهو التغريب سنة؛ لأن التغريب سنة يبعده عن الجو الذي عاش فيه آثما وأعلن فيه إثمه، وغنه في ذلك سيكون تحت رقابة الحاكم ورعايته، فهذا التغريب يقابل الإمساك في البيوت. ولم يعاقب الرجل بالجبس؛ لأن الرجل مطلوب منه الكدح والعمل لنفقته ونفقة من يعوله، فكان التهذيب مدة معلومة انسب له، والإمساك في البيوت أليق بالمرأة.

وإذا تكررت الجريمة تكرر العقاب، إلى أن تكون التوبة والإقلاع عن ذلك المنكر، ولذا قال تعالى: {فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما عن الله كان توابا رحيما} عالج الإسلام نفس المذنب ليتوب، ودعا إلى التوبة دعوة صريحة بفتح باب المغفرة. وفي هذه الجريمة التي تعد من أكبر الكبائر، كما أنه قد عالج نفس المذنب، بالإمساك في البيوت للحفظ والرعاية والصيانة، وبالتغريب بالنسبة للرجل ليسترد كرامته التي هانت بالجريمة والعقوبة المعلنة، وبمنع الزواج من الزاني والزانية حتى تكون التوبة. فإذا تم العلاج، وفي المذنب من الداء، وكانت التوبة الصحيحة، وكان من الواجب الإعراض عنهما وعدم تذكيرهما بالجريمة، فالإعراض هنا ليس معناه الصدود والاستنكار بل معناه ألا يذكرا بجريمتهما، وان يعاملا معاملة الأطهار الأبرار وان يكون لهما كل تقدير واعتبار، فإن الإصرار على وصف الجريمة يجعل النفس تهون، وإذا هانت سهل عليها الهوان، وأغراها الشيطان بالمعاودة... وقد ذكر سبحانه وتعالى مع التوبة الإصلاح، فقال: {فإن تابا وأصلحا}، والإصلاح هو إصلاح النفس، وصلاح العمل، وذلك دليل التوبة الصادقة، وقد قرن الله تعالى التوبة دائما بالعمل الصالح، مما يدل على أن العمل دليل الإقلاع؛ لأن النفس إذا انحرفت، وأحاطت بها الخطيئة، لا يكون الخروج من دائرتها بالقول فقط، بل بالقول والنية والعمل وإن الله تعالى حينئذ يقبل التوبة، ولذا ذيل الله تعالى بقوله تعالى: {إن الله كان توابا رحيما} أي إن الله تعالى يقبل التوبة عن عباده دائما. وقد أكد ذلك ب "إن"، وب "كان "التي تدل على الدوام، وبصيغة المبالغة "توابا" وأشار سبحانه إلى أن ذلك من رحمته التي وسعت كل شيء، ولقد سبقت رحمته عذابه، وإن الله تعالى ليفرح بتوبة العبد أكثر من فرح العبد بإقلاعه عن ذنبه.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

العقوبات الإِسلامية السهل الممتنع:

قد يتساءل البعض أحياناً: لماذا قرر الإِسلام عقوبات صارمة، وأحكاماً جزائية قاسية وثقيلة؟ فمثلا: لماذا حكم بالحبس الأبدي أوّلا على الزانية عن إِحصان، ثمّ قرّر حكم القتل والإِعدام في شأنهما في ما بعد، ألم يكن من الأفضل أن يتّخذ الإِسلام موقفاً أكثر تسامحاً وليناً تجاه هذه الأفعال، لتتعادل الجريمة والعقوبة ولا يرجح أحدهما على الآخر؟

غير أنّ العقوبات الإِسلامية وإِن كانت تبدو في الظاهر صعبة وقاسية وثقيلة، إِلاّ أنّ إِثبات الجريمة في الإِسلام في المقام ليس سهلا، أيضاً فقد عين الإِسلام وحدد لإِثبات الجريمة شروطاً لا تثبت في الأغلب إِلاّ إِذا وقعت الجريمة علناً.

فمثلا: تصعيد عدد الشهود في الزنا إِلى الأربعة كما في الآية الحاضرة من الأُمور الصعبة جدّاً بحيث لا يثبت بها إِلاّ من كان مجرماً جسوراً جدّاً، ولا شك أن مثل هؤلاء لابدّ أن ينالوا عقاباً ثقيلا وقاسياً ليعتبر بهم الآخرون، فتطهر بذلك البيئة الاجتماعية من لوث الفساد والانحراف والتورط في الجريمة، كما أن المواصفات والشروط المعتبرة في الشهود مثل رؤية العملية الجنسية بعينها، وعدم الاكتفاء بالقرائن، ومثل الاتحاد في الشهادة وما شاكل ذلك تجعل إِثبات الجريمة أصعب جدّاً.

وبهذا الطريق جعل الإِسلام احتمال التعرض لمثل هذه العقوبة القاسية الثقيلة نصيب عيني هذا النوع من المجرمين، وهو احتمال مهما كان ضعيفاً من شأنه أن يؤثر في ردع الأشخاص، وكبح جماحهم، وأمّا الدقّة في كيفية إِثبات هذه الجريمة، والتشدد في الشرائط التي اعتبرها في الشهادة والشهود فهو لأجل أن لا تتسع دائرة هذه الأعمال الخشنة، ولا يقتصر استعمال العقوبات الخشنة فيها على أقل الموارد، وفي الحقيقة أراد الإِسلام أن يحافظ على الأثر التهديدي لهذا القانون الجزائي من دون أن يعرض أفراداً كثيرين لعقوبة الإِعدام من جانب آخر.

ونتيجة ذلك هي أنّ هذا الأسلوب الإِسلامي في تعيين العقوبة وطريق إِثبات الجريمة من أكثر الأساليب تأثيراً ونجاحاً في خلاص المجتمع من التورط في الآثام والمعاصي في حين لا يتعرض لمثل هذه العقوبة أفراد كثيرون، وبهذا نصف هذا الأسلوب بالأُسلوب «السهل الممتنع».