جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَاللّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنّ اللّهَ كَانَ تَوّاباً رّحِيماً } .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ } : والرجل والمرأة اللذان يأتيانها ، يقول : يأتيان الفاحشة والهاء والألف في قوله : { يأْتِيانها } عائدة على الفاحشة التي في قوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } والمعنى : واللذان يأتيان منكم الفاحشة فآذوهما .

ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ فآذُوهُما } فقال بعضهم : هما البكران اللذان لم يحصنا ، وهما غير اللاتي عنين بالاَية قبلها . وقالوا : قوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } معنيّ به الثيبات المحصنات بالأزواج ، وقوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ } يعني به : البكران غير المحصنين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ذكر الجواري والفتيان اللذين لم ينكحوا ، فقال : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ } البكران فآذوهما .

وقال آخرون : بل عُني بقوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ } الرجلان الزانيان . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } قال : الرجلان الفاعلان لا يكْني .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ } : الزانيان .

وقال آخرون : بل عني بذلك الرجل والمرأة ، إلا أنه لم يقصد به بكر دون ثيب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى ، عن ابن جريج ، عن عطاء : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } قال : الرجل والمرأة .

حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد النحويّ ، عن عكرمة والحسن البصريّ ، قالا : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } إلى قوله : { أوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً } فذكر الرجل بعد المرأة ثم جمعهما جميعا ، فقال : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فإنْ تَابا وأصْلَحا فأْعَرِضُوا عَنْهُما إنّ اللّهَ كانَ تَوّابا رَحِيما } .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء وعبد الله بن كثير ، قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ } قال : هذه للرجل والمرأة جميعا .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ } قول من قال : عني به البكران غير المحصنين إذا زنيا وكان أحدهما رجلاً والاَخر امرأة ، لأنه لو كان مقصود بذلك قصد البيان عن حكم الزناة من الرجال كما كان مقصودا بقوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } قصد البيان عن حكم الزواني ، لقيل : والذين يأتونها منكم فآذوهم ، أو قيل : والذي يأتيها منكم ، كما قيل في التي قبلها : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ } فأخرج ذكرهنّ على الجمع ، ولم يقل : واللتان يأتيان الفاحشة . وكذلك تفعل العرب إذا أرادت البيان على الوعيد على فعل أو الوعد عليه ، أخرجت أسماء أهله بذكر الجمع أو الواحد ، وذلك أن الواحد يدلّ على جنسه ، ولا تخرجها بذكر اثنين ، فتقول : الذين يفعلون كذا فلهم كذا ، والذي يفعل كذا فله كذا ، ولا تقول : اللذان يفعلان كذا فلهما كذا ، إلا أن يكون فعلاً لا يكون إلا من شخصين مختلفين كالزنا لا يكون إلا من زان وزانية . فإذا كان ذلك كذلك ، قيل بذكر الاثنين ، يراد بذلك الفاعل والمفعول به ، فإما أن يذكر بذكر الاثنين والمراد بذلك شخصان في فعل قد ينفرد كلّ واحد منهما به أو في فعل لا يكونان فيه مشتركين فذلك ما لا يعرف في كلامها . وإذا كان ذلك كذلك ، فبيّن فساد قول من قال : عُني بقوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ } الرجلان ، وصحة قول من قال : عني به الرجل والمرأة وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أنهما غير اللواتي تقدم بيان حكمهنّ في قوله : { وَاللاّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ } لأن هذين اثنان وأولئك جماعة . وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الحبس كان للثيبات عقوبة حتى يتوفين من قبل أن يجعل لهنّ سبيلاً ، لأنه أغلظ في العقوبة من الأذى الذي هو تعنيف وتوبيخ أو سبّ وتعيير ، كما كان السبيل التي جعلت لهنّ من الرجم أغلظ من السبيل التي جعلت للأبكار من جلد المائة ونفي السنة .

القول في تأويل قوله تعالى : { فَآذُوهُما فإنْ تابا وأصْلَحا فأعْرِضُوا عَنْهُما إنّ اللّهَ كانَ تَوّابا رَحِيما } .

اختلف أهل التأويل في الأذى الذي كان الله تعالى ذكره جعله عقوبة للذين يأتيان الفاحشة من قبل أن يجعل لهما سبيلاً منه ، فقال بعضهم : ذلك الأذى ، أذى بالقول واللسان ، كالتعيير والتوبيخ على ما أتيا من الفاحشة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فَآذُوهُما } قال : كانا يؤذيان بالقول جميعا .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فَآذُوهُما فإنْ تابا وأصْلَحا فأعْرِضُوا عَنْهُما } فكانت الجارية والفتى إذا زنيا يعنفان ويعيران حتى يتركا ذلك .

وقال آخرون : كان ذلك الأذى ، أذى اللسان ، غير أنه كان سبّا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَآذُوهُما } يعني : سبّا .

وقال آخرون : بل كان ذلك الأذى باللسان واليد . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } فكان الرجل إذا زنى أوذي بالتعيير ، وضرب بالنعال .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره كان أمر المؤمنين بأذى الزانيين المذكورين إذا أتيا ذلك وهما من أهل الإسلام ، والأذى قد يقع بكل مكروه نال الإنسان من قول سيىء باللسان أو فعل ، وليس في الاَية بيان أن ذلك كان أمر به المؤمنون يومئذ ، ولا خبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نقل الواحد ولا نقل الجماعة الموجب مجيئها قطع العذر . وأهل التأويل في ذلك مختلفون ، وجائز أن يكون ذلك أذى باللسان واليد ، وجائز أن يكون كان أذى بأيهما ، وليس في العلم بأيّ ذلك كان من أيّ نفعٌ في دين ولا دنيا ولا في الجهل به مضرّة ، إذ كان الله جلّ ثناؤه قد نسخ ذلك من محكمه بما أوجب من الحكم على عباده فيهما وفي اللاتي قبلهما¹ فأما الذي أوجب من الحكم عليهم فيهما فما أوجب في سورة النور بقوله : { الزّانِيَةُ والزّاني فاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ } وأما الذي أوجب في اللاتي قبلهما ، فالرجم الذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما وأجمع أهل التأويل جميعا على أن الله تعالى ذكره قد جعل لأهل الفاحشة من الزناة والزواني سبيلاً بالحدود التي حكم بها فيهم .

وقال جماعة من أهل التأويل : إن الله سبحانه نسخ بقوله : { الزّانِيَةُ والزّاني فاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ } قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } قال : كل ذلك نسخته الاَية التي في النور بالحدّ المفروض .

حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا يحيى ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } . . . الاَية ، قال : هذا نسخته الاَية في سورة النور بالحد المفروض .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تميلة ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري ، قالا في قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } . . . الاَية ، نسخ ذلك بآية الجلد ، فقال : { الزّانِيَةُ والزّاني فاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ } .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } فأنزل الله بعد هذا : { الزّانِيَةُ والزّاني فاجْلِدُوا كُلّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدةٍ } فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { واللاّتِي يأْتِينَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ } . . . الاَية¹ جاءت الحدود فنسختها .

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : نسخ الحدّ هذه الاَية .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : { فأمْسِكُوهُنّ في البُيُوتِ } . . . الاَية ، قال : نسختها الحدود ، وقوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ } نسختها الحدود .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { واللّذّانِ يأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما } . . . الاَية ، ثم نسخ هذا وجعل السبيل لها إذا زنت وهي محصنة رجمت وأخرجت ، وجعل السبيل للذكر جلد مائة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { فَأمْسِكُوهُنّ فِي البُيُوتِ حتى يَتَوَفّاهُنّ المَوْتُ } قال : نسختها الحدود .

وأما قوله : { فإنْ تابا وأصْلَحا فَأعْرِضُوا عَنْهُما } فإنه يعني به جلّ ثناؤه : فإن تابا من الفاحشة التي أتيا ، فراجعا طاعة الله بينهما وأصلحا ، يقول : وأصلحا دينهما بمراجعة التوبة من فاحشتهما والعمل بما يرضي الله ، فأعرضوا عنهما ، يقول : فاصفحوا عنهما ، وكفوا عنهما الأذى الذي كنت أمرتكم أن تؤذوهما به ، عقوبة لهما على ما أتيا من الفاحشة ، ولا تؤذوهما بعد توبتهما .

وأما قوله : { إنّ اللّهَ كانَ تَوّابا رَحِيما } فإنه يعني : أن الله لم يزل راجعا لعبيده إلى ما يحبون إذا هم راجعوا ما يحب منهم من طاعته رحيما بهم ، يعني : ذا رحمة ورأفة .