اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

{ وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } ]{[6957]}

{ وَاللَّذَانَ } الكلام عليه كالكلام على " اللاتي " إلاَّ أن في كلام أبي البقاء ما يوهمُ جواز الاشتغال فيه فإنه قال : الكلام في " اللذان " كالكلام في " اللاتي " إلاَّ أنَّ مَنْ أجاز النَّصب يَصِحُّ أن يقدِّرَ فعلاً من جنس المذكور ، تقديره : آذُوا اللذين ولا يجوز أن يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها هاهنا ، ولو عَرِيَ من الضَّمير ، لأنَّ الفاء هنا في حكم الفاء الواقعة في جواب الشرط ، وتلك يقطع ما بعدها عما قبلها ، فقوله : " من أجاز النصب " يحتملُ من أجازه النَّصب المتقدِّم في " اللاتي " بإضمار فعلٍ لا على سبيل الاشتغال كما قدَّره هو بنحو " اقصدوا " ويحتمل من أجاز النَّصب على الاشتغال من حيث الجملة ، إلاَّ أن هذا بعيدٌ ؛ لأنَّ الآيتين من وادٍِ واحدٍ ، فلا يُظَنُّ به أنَّهُ يمنع في إحداهما ويجيزُ في الأخرى ، ولا ينفع كون الآية فيها الفعل الذي يفسّر متعدّ بحرف جرّ والفعلُ الَّذي في هذه الآية مُتَعَدٍّ بنفسه ، فيكون أقوى ، إذ لا أثر لذلك في باب الاشتغال . والضمير المنصوب في " يأتيانهما " للفاحشة .

وقرأ عبد الله{[6958]} " يأتين بالفاحشة " ، أي : يَجئْنَ ، ومعنى قراءة الجمهور " يَغْشَيْنَها{[6959]} ويخالطنها " .

وقرأ الجمهور " واللذان " بتخفيف النُّون .

وقرأ ابن كثير{[6960]} " واللذانِّ " هنا " واللذينِّ " في السجدة [ آية 29 ] بتشديد النون ، ووجهها{[6961]} جعل إحدى النونين عوضاً من الياء المحذوفة الَّتي كان ينبغي أن تبقى ، وذلك أن " الَّذي " مثل " القاضي " ، و " القاضي " تثبت ياؤه في التثنية فكان حقّ [ " ياء " ]{[6962]} " الَّذي " و " الَّتي " أن تثبت في التثنية ، ولكنهم حَذَفُوها ، إمَّا لأنَّ هذه تثنيةٌ على غَيْرِ القياس ؛ لأنَّ المبهماتِ لا تُثَنَّى حقيقةً ، إذ لا يثنى ما يُنَكَّر ، والمبهمات لا تنكر ، فجعلوا الحذف منبهةً{[6963]} على هذا ، وإمَّا لطولِ الكلاَمِ بِالصِّلَةِ .

وزعم ابنُ عصفور أنَّ تشديد النُّون لا يجوزُ إلاَّ مع الألفِ كهذه الآية ، ولا يجوز مع الياء في الجرّ والنّصب .

وقراءة ابن كثير في " حم " السجدة { أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا } [ فصلت : 29 ] حجةٌ عليه .

قال ابن مقسم{[6964]} : إنَّمَا شدّد ابن كثير هذه النّونات لأمرين :

أحدهما : الفرق بين تثنية الأسماء المتمكنة وغير المتمكنة ، والآخر : أن " الّذي وهذا " مبنيان على حرفٍ واحدٍ وهو الذَّال ، فأرادوا تقوية{[6965]} كل واحد منهما ، بأن{[6966]} زادوا على نونها نوناً أخرى من جنسها .

وقيل : سبب التّشديد فيها أنَّ النون فيها ليست نون التّثنية فأرادوا أن يفرِّقوا بينها وبين نون التثنية .

وقيل : زادوا النُّون تأكيداً كما زادوا اللام .

وقرئ{[6967]} : " اللَّذَأَنِّ " بهمزة{[6968]} وتشديد النون ، وَوَجْهُهَا أنه لَمَّا شَدَّدَ النون الْتَقَى ساكنان ، فَفَرَّ من ذلك بإبدال الألف همزةً ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك في الفاتحة [ الآية : 7 ] .

وقرأ عبد{[6969]} الله : { والذين يفعلونه منكم } وهذه قراءة مشكلة ؛ لأنَّهَا بصيغة الجمع ، وبعدها ضمير تثنية وَقَدْ يُتَكَلَّفُ تخريجٌ لها ، وهو أنَّ " الذين " لَمَّا كان شاملاً لصنفي{[6970]} الذّكورِ والإناثِ عَادَ الضَّميرُ عليه مثنى اعتباراً{[6971]} بما انْدَرَجَ تحته ، وهذا كما عاد ضَمِيرُ الجمع على المُثَنَّى الشّامل لأفرادٍ كثيرة مندرجةٍ تحْتَه ، كقوله تعالى :

{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ } [ الحجرات : 9 ] ، و{ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ }

[ الحج : 19 ] كذا قاله أبو حيان .

قال شهاب الدِّينِ : وفيه نظر ، فإنَّ الفَرْقَ ثابتٌ ، وذلك لأن " الطَّائفة " اسم لجماعة{[6972]} ، وكذلك " خَصْم " ؛ لأنَّهُ في الأصل مصدرٌ فأطلِقَ على الجمع .

وأصل " فآذوهما " فآذِيُوهما ، فاستثقلت الضَّمَّةُ على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان ، فَحُذِفَت الياء الّتي هي لام الكلمة وضُمَّ ما قبل الواوِ لِتَصِحَّ .

فصل

اختلفوا في وجهِ هذا التّكرير ، فقال مُجَاهِدٌ{[6973]} : الآية الأولى في النساء وهذه في الرّجال ، وَخُصَّ الحبسُ في البيتِ بالمرأة ، وخُصَّ الإيذاء بالرجال ؛ لأنَّ المرأة إنَما تقع في الزّنا عند الخروج والبروز ، وإذا حبست في البيت انقطعت مادّة هذه المعصية ، وأمَّا الرَّجل فلا يمكن حبسه في البيت ؛ لأنَّهُ يحتاج إلى الخروج لإصلاح معاشه ، ومهماته ، وقوت عياله .

وقيل : إنّ الإيذاء مشترك بين الرّجُل والمرأة ، والحبس كان من خواصّ المرأة .

وقال السُّدِّيُّ : المرادُ بهذه الآية البكرُ من الرِّجال والنِّساء وبالآية الأولى للثيب{[6974]} لوجوه :

الأوَّل : قوله : { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ } فأضافهن إلى الأزواج .

الثَّاني : أنَّهُ سماهنَّ نساء ، وهذا الاسم أليق بالثَّيب .

الثالث : أنَّ الإيذاء أحقّ من الحبس في البيت ، والأخف للبكر دون الثّيب .

وقال أبو مسلم{[6975]} : الآية الأولى في السّحاقات ، وهذه في أهل اللّواط ، وقد تَقَدَّمَ .

وقيل : إنَّهُ بَيَّن في الآية الأولى أنَّ الشهداء على الزِّنَا لا بدّ وأن يكونوا أربعة ، وبين في هذه الآية أنَّهم لو كانوا شاهدين فآذوهما بالرّفع إلى الإمام والحدّ ، فإن تابا قبل الرفع إلى الإمام فاتركوهما .

فصل

قال عطاء وقتادة : قوله " فآذوهما " يعني فعيروهما باللسان{[6976]} : أما خِفْتَ اللَّهَ{[6977]} ؟ أما استحييت من الله حين{[6978]} زنيت .

وقال مُجَاهِدٌ : سبوهما واشتموهما{[6979]} .

وقيل : يقال لهما : " بئس ما فعلتما " {[6980]} وخالفتما أمر اللَّه .

وقال ابن عبَّاس : هو باللسان واليد يُؤذى بالتعيير وضرب النعال{[6981]} .

قوله تعالى : { فَإِن تَابَا } أي : من الفاحشة { وَأَصْلَحَا } العمل فيما بعد { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا } ، فاتركوهما ولا تؤذوهما ، { إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } ومعنى التواب أنه يعود على عبده بفضله ومغفرته{[6982]} إذا تاب إليه من ذنبه . والله أعلم .


[6957]:سقط في ب.
[6958]:انظر: المحرر الوجيز 2/21، والبحر المحيط 3/205.
[6959]:في ب: يغشاها.
[6960]:انظر: الحجة 3/141، وحجة القراءات 193، 195، والعنوان 83، وإعراب القراءات 1/130، وشرح شعلة 335، وشرح الطيبة 4/197، وإتحاف 1/506.
[6961]:في ب: توجيها.
[6962]:سقط في ب.
[6963]:في ب: مبهما.
[6964]:ينظر: تفسير الرازي 9/190.
[6965]:في أ: تقويته.
[6966]:في أ: فإن.
[6967]:في أ: وقرأ.
[6968]:انظر: البحر المحيط 3/207، والدر المصون 2/332.
[6969]:انظر: المحرر الوجيز 2/22، والبحر المحيط 3/207، والدر المصون 2/332.
[6970]:في أ: لذكر تصنيفي.
[6971]:في أ: تبعا.
[6972]:في أ: لجميع.
[6973]:ينظر: تفسير الرازي 9/190، والبغوي (1/406).
[6974]:في ب: لتثبت.
[6975]:ينظر: تفسير الرازي 9/190.
[6976]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/84) عن قتادة.
[6977]:في ب: نحو أما خفت الله.
[6978]:في ب: حتى.
[6979]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/85) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/231) وزاد نسبته للبيهقي في "سننه".
[6980]:في ب: فجرتما وفسقتما.
[6981]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/85) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
[6982]:في ب: مغفرة.