البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

{ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } تقدم قول مجاهد واختيار أبي مسلم أنها في اللواطة ، ويؤيده ظاهر التثنية .

وظاهر منكم إذ ذلك في الحقيقة هو للذكور ، والجمهور على أنها في الزناة الذكور والإناث .

واللذان أريد به الزاني والزانية ، وغلب المذكر على المؤنث ، وترتب الأذى على إتيان الفاحشة وهو مقيد بالشهادة على إتيانها .

وبين ذلك في الآية السابقة وهو : شهادة أربعة .

والأمر بالأذى يدل على مطلق الأذى بقول أو فعل أو بهما .

فقال ابن عباس : هو النيل باللسان واليد ، وضرب النعال وما أشبهه .

وقال قتادة والسدي : هو التعبير والتوبيخ .

وقال قوم : بالفعل دون القول .

وقالت فرقة : هو السب والجفا دون تعيير .

وقيل : الأذى المأمور به هو الجمع بين الحدين : الجلد والرجم ، وهو قول علي ، وفعله في الهمدانية : جلدها ثم رجمها .

وظاهر قوله : واللذان يأتيانها العموم .

وقال قتادة والسدي وابن زيد وغيرهم : هي في الرجل والمرأة البكرين ، وأما الأولى ففي النساء المزوجات ، ويدخل معهن في ذلك من أحصن من الرجال بالمعنى .

ورجح هذا القول الطبري .

وأجمعوا على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد ، إلا في تفسير على الأذى فلا نسخ ، وإلا في قول من قال : إن الأذى بالتعيير مع الجلد باق فلا نسخ عنده ، إذ لا تعارض ، بل يجمعان على شخص واحد .

وإذا حملت الآيتان على الزنا تكون الأولى قد دلت على حبس الزواني ، والثانية على إيذائها وإيذائه ، فيكون الإيذاء مشتركاً بينهما ، والحبس مختص بالمرأة فيجمع عليها الحبس والإيذاء ، هذا ظاهر اللفظ .

وقيل : جعلت عقوبة المرأة الحبس لتنقطع مادة هذه المعصية ، وعقوبة الرجل الإيذاء ، ولم يجعل الحبس لاحتياجه إلى البروز والاكتساب .

وأما على قول قتادة والسدي : من أن الأولى في الثيب والثانية في البكر من الرجال والنساء ، فقد اختلف متعلق العقوبتين ، فليس الإيذاء مشتركاً .

وذهب الحسن إلى أن هذه الآية قبل الآية المتقدمة ، ثم نزل { فأمسكوهن في البيوت } يعني إن لم يتبن وأصررن فامسكوهن إلى إيضاح حالهن ، وهذا قول يوجب فساد الترتيب ، فهو بعيد .

وعلى هذه الأقوال يظهر للتكرار فوائد .

وعلى قول قتادة والسدي : لا تكرار ، وكذلك لا تكرار على قول : مجاهد وأبي مسلم .

وإعراب واللذان كإعراب واللاتي .

وقرأ الجمهور : واللذان بتخفيف المنون .

وقرأ ابن كثير : بالتشديد .

وذكر المفسرون علة حذف الياء ، وعلة تشديد النون ، وموضوع ذلك علم النحو .

وقرأ عبد الله : والذين يفعلونه منكم ، وهي قراءة مخالفة لسواد مصحف الإمام ، ومتدافعة مع ما بعدها .

إذ هذا جمع ، وضمير جمع وما بعدهما ضمير تثنية ، لكنه يتكلف له تأويل : بأن الذين جمع تحته صنفا الذكور والإناث ، فعاد الضمير بعده مثنى باعتبار الصنفين ، كما عاد الضمير مجموعاً على المثنى باعتبار أن المثنى تحتهما أفراد كثيرة هي في معنى الجمع في قوله :

{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } { هذان خصمان اختصموا } والأولى اعتقاد قراءة عبد الله أنها على جهة التفسير ، وأن المراد بالتثنية العموم في الزناة .

وقرئ واللذأن بالهمزة وتشديد النون ، وتوجيه هذه القراءة أنه لما شدد النون التقى ساكنان ، ففر القارىء من التقائهما إلى إبدال الألف همزة تشبيهاً لها بألف فاعل المدغم عينه في لامه ، كما قرئ : { ولا الضألين } { ولا جأن } وقد تقدم لنا الكلام في ذلك مشبعاً في قوله : ولا الضالين في الفاتحة .

{ فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } أي : إن تابا عن الفاحشة وأصلحا عملهما فاتركوا أذاهما .

والمعنى : أعرضوا عن أذاهما .

وقيل : الأمر بكف الأذى عنهما منسوخ بآية الجلد .

قال ابن عطية : وفي قوة اللفظ غض من الزناة وإن تابوا ، لأنّ تركهم إنما هو إعراض .

ألا ترى إلى قوله تعالى : { وأعرض عن الجاهلين } وليس هذا الإعراض في الآيتين أمراً بهجرةٍ ، ولكنها متاركة معرض ، وفي ذلك احتقار لهم بسبب المعصية المتقدمة .

انتهى كلامه .

{ إن الله كان تواباً رحيماً } أي رجاعاً بعباده عن معصيته إلى طاعته ، رحيماً لهم بترك أذاهم إذا تابوا .

/خ28