التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

ثم بين - سبحانه - حكما آخر فقال : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } .

أى واللذان يأتيان فاحشة الزنا من رجالكم ونسائكم فآذوهما بالشتم والتوبيخ والزجر الشديد ليندما على ما فعلا وليرتدع سواهما بهما .

وقد اختلف العلماء فى المراد بقوله { واللذان } .

فمنهم من قال المراد بهما الرجل والمرأة البكران اللذان لم يحصنا .

ومنهم من قال المراد بهما الرجلان يفعلان اللواط .

ومنهم من قال المراد بهما الرجل والمرأة لا فرق بين بكر وثيب .

والمختار عند كثير من العلماء هو الرأى الأول ، قالوا : لأن الله - تعالى - ذكر فى هاتين الآيتين حكمين :

أحدهما : الحبس في البيوت .

والثاني : الإِيذاء ، ولا شك أن من حكم عليه بالأول خلاف من حكم عليه بالثاني ، والشرع يخفف فى البكر ويشدد على الثيب ، ولذلك لما نسخ هذا الحكم جعل للثيب الرجم وللبكر الجلد ، فجعلنا الحكم الشديد وهو الحبس على الثيب ، والحكم الأخف وهو الإِيذاء على البكر .

قالوا : وقد نسخ حكم هذه الآية بآية النور ، حيث جعل حكم الزانيين اللذين لم يحصنا جلد مائة .

فقد أخرجه ابن جرير عن الحسن البصرى وعكرمة قالا فى قوله - تعالى - { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } الآية ، نسخ ذلك بآية الجلد وهى قوله - تعالى - فى سورة النور : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } الآية .

ومن العلماء من قال بأن هذه الآية غير منسوخة بآية النور ، فإن العقوبة ذكرت هنا مجملة غير واضحة المقدار لأنا مجرد الإِيذاء ، وذكرت بعد ذلك مفصلة بينة المقدار فى سورة النور . أى أن ما ذكر هنا من قبيل المجمل ، وما ذكر فى سورة النور من قبيل المفصل ، وأنه لا نسخ بين الآيتين .

هذا ، ولأبى مسلم الأصفهاني رأى آخر فى تفسير هاتين الآيتين ، فهو يرى أن المراد باللاتى فى قوله { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ } النساء السحاقات اللاتى يستمتع بعضهن ببعض وحدهن الحبس ، والمراد بقوله { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } اللائطون من الرجال وحدهم الإِيذاء وأما حكم الزناة فسيأتى فى سورة النور .

قال الآلوسى : وقد زيف هذا القول بأنه لم يقل به أحد ، وبأن الصحابة قد اختلفوا فى حكم اللوطى ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية ، وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على الحكم دليل على أن الآية ليست فى ذلك .

وأيضا جعل الحبس فى البيت عقوبة السحاق لا معنى له . لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا . فلو كان المراد السحاقات لكانت العقوبة لهن عدم اختلاط بعضهن ببعض لا الحبس والمنع من الخروج . وحيث جعل هو عقوبة دل ذلك على أن المراد باللاتى يأتين الفاحشة الزانيات . . .

والذى نراه أن هذا الحكم المذكور فى الآيتين منسوخ ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة .

أما الكتاب فهو قوله - تعالى - فى سورة النور { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } الآية .

وأما السنة فحديث عباده بن الصامت الذى سبق ذكره .

وإنما قلنا ذلك لأن ظاهر الآيتين يدل على أن ما ذكر فيهما من الحبس والإِيذاء بعد نزول آية سورة النور . بل الثابت عنه أنه كان يجلد البكر من الرجال والنساء ، ويرجم المحصن منهما ، ولم يضم إلى إحدى هاتين العقوبتين حبسا أو إيذاء ، فثبت أن هذا الحكم المذكور فى الآيتين قد نسخ .

ثم بين - سبحانه - الحكم فيما إذا أقلع الزانى والزانية عن جريمتهما فقال : { فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } .

أى فإن تابا فعلا من الفاحشة ، وأصلحا أعمالهما { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ } أى فاصفحوا عنهما وكفوا عن أذاهما { إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً } أى مبالغا فى قبول التوبة ممن تاب توبة صادقة نصوحا { رَّحِيماً } أى واسع الرحمة بعباده الذين لا يصرون على معصية بل يتوبون إليه منها توبة صادقة .