الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

قوله تعالى : { وَاللَّذَانَ } : الكلامُ عليه كالكلامِ على " اللاتي " إلا أنَّ في كلامِ أبي البقاء ما يُوهِمُ جوازَ الاشتغالِ فيه ، فإنه قال : " الكلام في " اللذان " كالكلام في " اللاتي " ، إلا أنَّ مَنْ أجاز النصبَ يَصِحُّ أن يقدِّرَ فعلاً من جنس المذكور تقديرُه : آذُوا اللذين ، ولا يجوز أن يعملَ ما بعد الفاء فيما قبلها ههنا ولو عَرِي من الضمير ؛ لأن الفاء هنا في حكم الفاء الواقعة في جواب الشرط ، وتلك تقطع ما بعدها عما قبلها " فقولُه : " مَنْ أجازَ النصبَ " يَحْتمل مَنْ أجاز النصب المتقدم في " اللاتي " بإضمارِ فعلٍ لا على سبيل الاشتغال كما قدَّره هو بنحو " اقصِدوا " ، ويَحْتمل مَنْ أجازَ النصبَ على الاشتغال من حيث الجملةُ ، إلا أنَّ هذا بعيدٌ لأنَّ الآيتين من وادٍ واحدٍ فلا يُظَّنُّ به أنه يمنع في إحداهما ويجيز في الأخرى ، ولا ينفع كونُ الآيةِ الأولى فيها الفعلُ الذي يفسِّر متعدٍ بحرفِ جر ، والفعلُ الذي في هذه الآية مُتَعَدٍّ بنفسه فيكون أقوى إذ لا أثرَ لذلك في باب الاشتغال . والضميرُ المنصوب في " يأتِيانها " للفاحشة .

وقرأ عبد الله : " يأتينَ بالفاحشةِ " أي يَجِئْنَ بها ، ومعنى قراءةِ الجمهور " يَغْشَيْنَها ويخالطنها " .

وقرأ الجمهور : " واللذانِ " بتخفيف النون ، وقرأ ابن كثير : " واللذان " هنا ، و " اللذين " في حم السجدة بتشديد النون . ووجهُها جَعَل إحدى النونين عوضاً من الياء المحذوفة التي كان ينبغي أن تبقى ، وذلك أن " الذي " مثل " القاضي " ، و " القاضي " تثبت ياؤه في التثنية ، فكان حقُّ ياء الذي والتي أن تثبت في التثنية ولكنهم حَذَفُوها : إمَّا لأنَّ هذه تثنيةٌ على غيرِ القياسِ ، لأنَّ المبهماتِ لا تُثَنَّى حقيقةً ، إذ لا يثنى إلا ما يُنَكَّر ، والمبهمات لا تنكر ، فجعلوا الحذفَ مَنْبَهَةً على هذا ، وإمَّا لطولِ الكلامِ بالصلةِ . وزعم ابن عصفور أنَّ تشديدَ النونِ لا يجوزُ إلا مع الألفِ كهذه الآية ، ولا يجوز مع الياء في الجر والنصب ، وقراءةُ ابن كثير في حم السجدة : { أَرِنَا اللذيْنِّ أَضَلاَّنَا } [ الآية : 29 ] حجةٌ عليه .

وقُرىء : " اللَّذَأَنِّ " بهمزةٍ وتشديدِ النون ، ووجهُها أنه لَمَّا شَدَّد النونَ التقى ساكنان فَفَرَّ من ذلك بإبدالِ الألفِ همزةً ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في الفاتحة .

وقرأ عبد الله : " والذين يَفْعَلُونه منكم " ، وهذه قراءةُ مشكلةٌ لأنها بصيغة الجمع ، / وبعدَها ضميرُ تثنية ، وقد يُتَكَلَّفُ لها تخريجٌ : هو أنَّ " الذين " لمَّا كان شاملاً لصنفي الذكورِ والإِناث عاد الضمير عليه مثنى اعتباراً بما اندرج تحته ، وهذا كما عاد ضمير الجمع على المثنى الشامل لأفرادٍ كثيرة مندرجةٍ تحتَه كقوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ }

[ الحجرات : 9 ] ، { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ } [ الحج : 19 ] كذا قال الشيخ وفيه نظر ، فإنَّ الفرقَ ثابتٌ ؛ وذلك لأنَّ " الطائفة " اسمٌ لجماعة وكذلك " خصم " ؛ لأنه في الأصلِ مصدرٌ فأُطْلِقَ على الجمعِ .

وأصلُ فآذُوهما : فآذِيُوهما ، فاستثقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَت الياء التي هي لام ، وضُمَّ ما قبل الواوِ لتصِحَّ .