مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا} (16)

قوله تعالى : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : قرأ ابن كثير { واللذان } و { هذان } مشددة النون ، والباقون بالتخفيف ، وأما أبو عمرو فإنه وافق ابن كثير في قوله : { فذانك } أما وجه التشديد قال ابن مقسم : إنما شدد ابن كثير هذه النونات لأمرين : أحدهما : الفرق بين تثنيه الأسماء المتمكنة وغير المتمكنة ، والآخر : أن «الذي وهذا » مبنيان على حرف واحد وهو الذال ، فأرادوا تقوية كل واحد منهما بأن زادوا على نونها نونا أخرى من جنسها ، وقال غيره : سبب التشديد فيها أن النون فيها ليست نون التثنية ، فأراد أن يفرق بينها وبين نون التثنيه ، وقيل زادوا النون تأكيدا ، كما زادوا اللام ، وأما تخصيص أبي عمرو التعويض في المبهمة دون الموصولة ، فيشبه أن يكون ذلك لما رأى من أن الحذف للمبهمة ألزم ، فكان استحقاقها العوض أشد .

المسألة الثانية : الذين قالوا : أن الآية الأولى في الزناة قالوا : هذه الآية أيضا في الزناة فعند هذا اختلفوا في أنه ما السبب في هذا التكرير وما الفائدة فيه ؟ وذكروا فيه وجوها : الأول : أن المراد من قوله : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } المراد منه الزواني ، والمراد من قوله : { واللذان يأتيانها منكم } الزناة ، ثم إنه تعالى خص الحبس في البيت بالمرأة وخص الإيذاء بالرجل ، والسبب فيه أن المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز ، فإذا حبست في البيت انقطعت مادة هذه المعصية ، وأما الرجل فإنه لا يمكن حبسه في البيت ، لأنه يحتاج إلى الخروج في إصلاح معاشه وترتيب مهماته واكتساب قوت عياله ، فلا جرم جعلت عقوبة المرأة الزانية الحبس في البيت ، وجعلت عقوبة الرجل الزاني أن يؤذى ، فإذا تاب ترك إيذاؤه ، ويحتمل أيضا أن يقال إن الإيذاء كان مشتركا بين الرجل والمرأة ، والحبس كان من خواص المرأة ، فإذا تابا أزيل الإيذاء عنهما وبقي الحبس على المرأة ، وهذا أحسن الوجوه المذكورة . الثاني : قال السدي : المراد بهذه الآية البكر من الرجال والنساء ، وبالآية الأولى الثيب ، وحينئذ يظهر التفاوت بين الآيتين . قالوا : ويدل على هذا التفسير وجوه : الأول : أنه تعالى قال : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } فأضافهن إلى الأزواج . والثاني : أنه سماهن نساء وهذا الاسم أليق بالثيب . والثالث : أن الأذى أخف من الحبس في البيت والأخف للبكر دون الثيب . والرابع : قال الحسن : هذه الآية نزلت قبل الآية المتقدمة والتقدير : واللذان يأتيان الفاحشة من النساء والرجال فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما . ثم نزل قوله : { فأمسكوهن في البيوت } يعني إن لم يتوبا وأصرا على هذا الفعل القبيح فأمسكوهن في البيوت إلى أن يتبين لكم أحوالهن ، وهذا القول عندي في غاية البعد ، لأنه يوجب فساد الترتيب في هذه الآيات . الخامس : ما نقلناه عن أبي مسلم أن الآية الأولى في السحاقات ، وهذه في أهل اللواط وقد تقدم تقريره . والسادس : أن يكون المراد هو أنه تعالى بين في الآية الأولى أن الشهداء على الزنا لا بد وأن يكونوا أربعة ، فبين في هذه الآية أنهم لو كانوا شاهدين فآذوهما وخوفوهما بالرفع إلى الأمام والحد ، فإن تابا قبل الرفع إلى الإمام فاتركوهما .

المسألة الثالثة : اتفقوا على أنه لا بد في تحقيق هذا الإيذاء من الإيذاء باللسان وهو التوبيخ والتعيير ، مثل أن يقال : بئس ما فعلتما ، وقد تعرضتما لعقاب الله وسخطه ، وأخرجتما أنفسكما عن اسم العدالة ، وأبطلتما عن أنفسكما أهلية الشهادة . واختلفوا في أنه هل يدخل فيه الضرب ؟ فعن ابن عباس أنه يضرب بالنعال ، والأول أولى لأن مدلول النص إنما هو الإيذاء ، وذلك حاصل بمجرد الإيذاء باللسان ، ولا يكون في النص دلالة على الضرب فلا يجوز المصير إليه .

ثم قال تعالى : { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } يعني فاتركوا ايذاءهما .

ثم قال : { إن الله كان توابا رحيما } معنى التواب : أنه يعود على عبده بفضله ومغفرته إذا تاب إليه من ذنبه ، وأما قوله : { كان توابا } فقد تقدم الوجه فيه .