قوله تعالى : { ولو ترى إذ فزعوا } قال قتادة عند البعث حين يخرجون من قبورهم ، { فلا فوت } أي : فلا يفوتونني كما قال : { ولات حين مناص } ، وقيل : إذ فزعوا فلا فوت ولا نجاة ، { وأخذوا من مكان قريب } قال الكلبي من تحت أقدامهم ، وقيل : أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها ، وحيثما كانوا فهم من الله قريب ، لا يفوتونه . وقيل : من مكان قريب يعني عذاب الدنيا . وقال الضحاك : يوم بدر . وقال ابن أبزي : خسف بالبيداء ، وفي الآية حذف تقديره : ولو ترى إذ فزعوا لرأيت أمراً تعتبر به .
{ 51 - 54 } { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ }
يقول تعالى { وَلَوْ تَرَى } أيها الرسول ، ومن قام مقامك ، حال هؤلاء المكذبين ، { إِذْ فَزِعُوا } حين رأوا العذاب ، وما أخبرتهم به الرسل ، وما كذبوا به ، لرأيت أمرا هائلا ، ومنظرا مفظعا ، وحالة منكرة ، وشدة شديدة ، وذلك حين يحق عليهم العذاب .
فليس لهم عنه مهرب ولا فوت { وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ } أي : ليس بعيدا عن محل العذاب ، بل يؤخذون ، ثم يقذفون في النار .
واختلف المتأولون في قوله تعالى : { لو ترى } الآية ، فقال ابن عباس والضحاك : هذا في عذاب الدنيا ، وروي أن ابن أبزى{[9674]} قال ذلك في جيش يغزو الكعبة فيخسف بهم في بيداء من الأرض ولا ينجو إلا رجل من جهينة فيخبر الناس بما نال الجيش قالوا بسببه قيل :
وعند جهينة الخبر اليقين{[9675]}
وهذا قول سعيد ، وروي في هذا المعنى حديث مطول عن حذيفة وذكر الطبري أنه ضعيف السند مكذوب فيه على رواد بن الجراح{[9676]} ، وقال قتادة : ذلك في الكفار عند الموت ، وقال ابن زيد : ذلك في الكفار في بدر ونحوها ، وقال الحسن بن أبي الحسن : ذلك في الكفار عند خروجهم من القبور في القيامة .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا أرجح الأقوال عندي ، وأما معنى الآية فهو التعجيب من حالهم إذا فزعوا من أخذ الله إياهم ولم يتمكن لهم أن يفوت منهم أحد ، وقوله { من مكان قريب } معناه أنهم للقدرة قريب حيث كانوا قبل من تحت الأقدام ، وهذا يتوجه على بعض الأقوال والذي يعم جميعها أن يقال إن الأخذ يجيئهم من قرب في طمأنينتهم ويعقبها بينا الكافر يؤمل ويظن ويترجى إذ غشيه الأخذ ، ومن غشيه أخذ من قريب ، فلا حيلة له ولا روية ، وقرأ الجمهور «وأخذوا » ، وقرأ طلحة بن مصرف «فلا فوت وأخذ » ، كأنه قال وجاء لهم أخذ{[9677]} من مكان قريب .
لما جاءهم التعريض بالتهديد من لازم المتاركة المدلول عليها بقوله : { فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي } [ سبأ : 50 ] للعلم بأن الضال يستحق العقاب أتبع حالهم حين يحلّ بهم الفزع من مشاهدة ما هدّدوا به .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم تسلية له أو لكل مخاطب . وحذف جواب { لو } للتهويل . والتقدير : لرأيت أمراً فظيعاً .
ومفعول { ترى } يجوز أن يكون محذوفاً ، أي لو تراهم ، أو ترى عذابهم ويكونَ { إذ فزعوا } ظرفاً ل { ترى } ويجوز أن يكون { إذ } هو المفعول به وهو مجرد عن الظرفية ، أي لو ترى ذلك الزمان ، أي ترى ما يشتمل عليه .
والفزع : الخوف المفاجىء ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار : " إنكم لَتَكْثُرون عند الفَزَع وتَقِلُّون عند الطمع " . وهذا الفزع عند البعث يشعر بأنهم كانوا غير مهيِّئين لهذا الوقت أسبابَ النجاة من هوله .
والأخذ : حقيقته التناول وهو هنا مجاز في الغلب والتمكن بهم كقوله تعالى : { فأخذهم أخذة رابية } [ الحاقة : 10 ] . والمعنى : أُمسِكُوا وقَبض عليهم لملاقاة ما أعد لهم من العقاب .
وجملة { فلا فوت } معترضة بين المتعاطفات . والفوت : التفلت والخلاص من العقاب ، قال رويشد الطائي :
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم *** مما علي بذنب منكم فوت
أي إذا أذنبتم فجاءت جماعة منكم معتذرين فذلك لا يدفع عنكم جزاءكم على ذنبكم .
وفي « الكشاف » : « ولو ، وإذْ ، والأفعال التي هي فَزِعوا ، وأُخذوا ، وحيل بينهم ، كلها للمضيّ ، والمراد بها الاستقبال لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما كان ووُجد لتحققه » اهـ . ويزداد عليها فعل { وقالوا } .
والمكان القريب : المحشر ، أي أخذوا منه إلى النار ، فاستغني بذكر { مِن } الابتدائية عن ذكر الغاية لأن كل مبدأ له غاية ، ومعنى قرب المكان أنه قريب إلى جهنم بحيث لا يجدون مهلة لتأخير العذاب .
وليس بين كلمتي { قريب } هنا والذي في قوله : { إنه سميع قريب } [ سبأ : 50 ] ما يشبه الإِيطاء في الفواصل لاختلاف الكلمتين بالحقيقة والمجاز فصار في الجمع بينهما محسِّن الجناس التام .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"ولو تَرى" يا محمد "إذ فزعوا". واختلف أهل التأويل في المعنيين بهذه الآية؛
فقال بعضهم: عُنِي بها هؤلاء المشركون الذين وصفهم تعالى ذكره بقوله: "وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيّناتٍ قالُوا ما هَذَا إلاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أنْ يَصُدّكُمْ عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ "قال: وعُنِي بقوله: "إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ" عند نزول نقمة الله بهم في الدنيا... قال ابن زيد، في قوله: "وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ" إلى آخر السورة، قال: هؤلاء قتلى المشركين من أهل بدر، نزلت فيهم هذه الآية، قال: وهم الذين بدّلوا نعمة الله كفرا، وأحلّوا قومهم دارَ البوار جهنم، أهل بدر من المشركين.
وقال آخرون: عنى بذلك جيش يخسف بهم ببيداء من الأرض...
وقال آخرون: بل عني بذلك المشركون إذا فزعوا عند خروجهم من قبورهم...
والذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك، وأشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل قول من قال: وعيد الله المشركين الذين كذّبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه، لأن الآيات قبل هذه الآية جاءت بالإخبار عنهم وعن أسبابهم، وبوعيد الله إياهم مغبته، وهذه الآية في سياق تلك الآيات، فلأن يكون ذلك خبرا عن حالهم أشبه منه بأن يكون خبرا لما لم يجر له ذكر. وإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: ولو ترى يا محمد هؤلاء المشركين من قومك، فتعاينهم حين فزعوا من معاينتهم عذاب الله، "فَلا فَوْتَ" يقول فلا سبيل حينئذٍ أن يفوتوا بأنفسهم، أو يعجزونا هربا، وينجوا من عذابنا...
وقوله: "وأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ" يقول: وأخذهم الله بعذابه من موضع قريب، لأنهم حيث كانوا من الله قريب لا يبعدون عنه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلَوْ تَرَى} جوابه محذوف، يعني: لرأيت أمراً عظيماً وحالاً هائلة.
و «لو» و «إذ» والأفعال التي هي «فزعوا» و «أخذوا» وحيل بينهم: كلها للمضي، والمراد بها الاستقبال؛ لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان ووجد لتحققه.
والأخذ من مكان قريب: من الموقف إلى النار إذا بعثوا. أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا. أو من صحراء بدر إلى القليب. أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم.
فإن قلت: علام عطف قوله: {وَأُخِذُواْ}؟ قلت: فيه وجهان: العطف على فزعوا، أي: فزعوا وأخذوا فلا فوت لهم، أو على لا فوت على معنى: إذا فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا.
وقرئ: «وأخذ» وهو معطوف على محل لا فوت ومعناه: فلا فوت هناك، وهناك أخذ.
لما قال: {سميع} قال هو قريب فإن لم يعذب عاجلا ولا يعين صاحب الحق في الحال فيوم الفزع آت لا فوت، وإنما يستعجل من يخاف الفوت...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... حقر أمرهم بالبناء للمفعول فقال: {وأخذوا} أي عند الفزع من كل من نأمره بأخذهم سواء كان قبل الموت أو بعده.
ولما كان القرب يسهل أخذ ما يراد أخذه قال: {من مكان قريب} أي أخذاً لا شيء أسهل منه فإن الآخذ سبحانه قادر وليس بينه وبين شيء، مسافة، بل هو أقرب إليه من نفسه (وقالوا) أي عند الأخذ ومعاينة الثواب والعقاب: (ءامنا به) أي الذي أريد منا الإيمان به وأبيناه.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
والمراد بذكر قرب المكان سرعة نزول العذاب بهم والاستهانة بهم وبهلاكهم، وإلا فلا قرب ولا بعد بالنسبة إلى الله عز وجل،
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأخيراً يجيء الختام في مشهد من مشاهد القيامة حافل بالحركة العنيفة المترددة بين الدنيا والأخرى. كأنما هو مجال واحد، وهم كرة يتقاذفها السياق في المشهد السريع العنيف: (ولو ترى).. فالمشهد معروض للأنظار. (إذ فزعوا).. من الهول الذي فوجئوا به. وكأنما أرادوا الإفلات (فلا فوت) ولا إفلات (وأخذوا من مكان قريب).. ولم يبعدوا في محاولتهم البائسة وحركتهم المذهولة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما جاءهم التعريض بالتهديد من لازم المتاركة المدلول عليها بقوله: {فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي} [سبأ: 50] للعلم بأن الضال يستحق العقاب، أتبع حالهم حين يحلّ بهم الفزع من مشاهدة ما هدّدوا به، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم تسلية له أو لكل مخاطب.
... مفعول {ترى} يجوز أن يكون محذوفاً، أي لو تراهم أو ترى عذابهم، ويكونَ {إذ فزعوا} ظرفاً ل {ترى}، ويجوز أن يكون {إذ} هو المفعول به، وهو مجرد عن الظرفية، أي لو ترى ذلك الزمان، أي ترى ما يشتمل عليه.
الفزع: الخوف المفاجئ، قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار:"إنكم لَتَكْثُرون عند الفَزَع وتَقِلُّون عند الطمع"، وهذا الفزع عند البعث يشعر بأنهم كانوا غير مهيِّئين لهذا الوقت أسبابَ النجاة من هوله.
الأخذ: حقيقته التناول، وهو هنا مجاز في الغلب والتمكن بهم كقوله تعالى:
{فأخذهم أخذة رابية} [الحاقة: 10]، والمعنى: أُمسِكُوا وقَبض عليهم لملاقاة ما أعد لهم من العقاب.
وجملة {فلا فوت} معترضة بين المتعاطفات، والفوت: التفلت والخلاص من العقاب.
المكان القريب: المحشر، أي أخذوا منه إلى النار، فاستغني بذكر {مِن} الابتدائية عن ذكر الغاية؛ لأن كل مبدأ له غاية، ومعنى قرب المكان أنه قريب إلى جهنم بحيث لا يجدون مهلة لتأخير العذاب.
وليس بين كلمتي {قريب} هنا والذي في قوله: {إنه سميع قريب} [سبأ: 50] ما يشبه الإِيطاء في الفواصل؛ لاختلاف الكلمتين بالحقيقة والمجاز فصار في الجمع بينهما محسِّن الجناس التام...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّة آراء بين المفسّرين في: متى يكون ذلك الصراخ والفزع والاضطراب؟ فبعضهم يرى أنّه عذاب الدنيا أو عذاب الموت، وبعضهم يرى أنّه يخصّ عقاب يوم القيامة، غير أنّ آخر هذه الآية، يشير إلى أنّ هذه الآيات جميعها تتحدّث عن الدنيا وعذاب الاستئصال، أو لحظة تسليم الروح، إذ يقول تعالى في الآية الأخيرة من هذا المقطع (وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فُعل بأشياعهم من قبل) وهذا التعبير لا ينسجم مع يوم القيامة، لأنّ الجميع يجمعون في ذلك اليوم للحساب، كما تشير إلى ذلك الآية (102) من سورة هود (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود)، وعليه فإنّ المقصود من جملة (اُخذوا من مكان قريب) هو أنّ هؤلاء الأفراد الكافرين والظالمين، ليس فقط لا يمكنهم الفرار من يد القدرة الإلهيّة فحسب، بل إنّ الله سبحانه وتعالى يأخذهم بالعذاب من مكان قريب منهم جدّاً، ألم يدفن الفراعنة في أمواج النيل الذي كان المصدر الأساس لفخرهم، ألم تنخسف الأرض بقارون وكنوزه، و «قوم سبأ» الذين مرّت بنا قصّتهم في هذه السورة، ألم يحق بهم الهلاك أقرب الأمكنة لهم، وهو ذلك السدّ العظيم الذي كان سبب عمران بلادهم وسبب حياتهم وحركتهم؟ لذا فإنّه الله يأخذ بالعذاب من أقرب الأماكن، حتّى يُعلم مدى قدرته وسطوته. فأكثر السلاطين الظلمة قتلوا على أيدي أقرب أفراد حواشيهم، وأغلب المتسلّطين الجبابرة تلقّوا الضربة الأخيرة من داخل قصورهم...