فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذۡ فَزِعُواْ فَلَا فَوۡتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٖ قَرِيبٖ} (51)

{ ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب 51 وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد 52 وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد 53 وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب 54 }

تثبيت لليقين بالآخرة ، وتحذير من سوء المصير ، وإنذار للمكذبين بالله ورسوله وبالبعث والنشور ، وجاء البيان مهيبا رهيبا : ولو تعاين يا من تتأتى منه المعاينة حين يشتد الهول على الكافرين في يوم عسير فيشتد فزعهم إذا ألقوا من النار مكانا ضيقا مقرنين ومكبلين بالسلاسل والأصفاد ، فلا يفوتون الواحد القهار ، إذ تعرفهم النار وخزنتها بسيماهم )إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا( {[3784]} فالنار منهم قريبة لأن الله تعالى محيط بهم لا يعزبون عنه ، وعندها يقرون بالإيمان لكن بعد فوات الأوان ، فكيف يصلون إلى الدخول فيه ويناوشونه ويناولونه وقد انقضت دار العمل )فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين . فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون( {[3785]} ، وكيف يقبل منهم وقد قضوا حياتهم الدنيا جاحدين ، بل مفترين ، ويرجمون بالغيب ، وظن السوء ، ويرمون بالبهتان كالذي يرجم من بعيد فلا يصيب ، يقولون : { لا تأتينا الساعة } ، ويقولون : { وما نحن بمعذبين } ويقولون : { ما هذا إلا إفك مفترى } { ما هاذا إلا سحر مبين } ، وحرموا رغائبهم فلا يصل إليهم ما لهم الذي كان لهم في الدنيا ولا يصلون إليه ولا إلى ما متعوا به من جاه ، كما يحال بينهم وبين ما يتمنون من الرجوع إلى الدنيا للتوبة والاهتداء والاستقامة ، كما أخبر الله العليم عنهم بقوله الحكيم : )ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون( {[3786]} ولكن هيهات فقد حيل بينهم وبين ما يشتهون ، كما يفعل الحكم العدل بكل من سبقوهم ومن على شاكلتهم من أهل الجحود والفتون : )قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين . ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون . قال اخسئوا فيها ولا تكلمون( {[3787]} ، وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ، فقد عاشوا في شك أوقعهم في الحيرة وظنوا أن الله لا يعلم كثيرا مما يعملون )وذلك ظنكم الذي ظننتم بربكم أرادكم فأصبحتم من الخاسرين . فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين( {[3788]} بل يشهد الله العليم الخبير أنهم بعد معاينتهم العذاب لو رجعوا إلى دار التكليف لظلوا في طغيانهم يعمهون ، يقول الحق جل علاه : )ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين . بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون( {[3789]} .

وبعد : فاليقين بيوم الجزاء موصول بخلق الأرض والسماء )وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت . . ( {[3790]} والتصديق بالله تعالى ورسله ورسالاته ، وناره وجناته ، إذا لم يكن جازما راسخا لم ينفع أصحابه ( بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون( {[3791]} ومشيئة العليم الحكيم أن يبتلي العباد ليظهر أهل الزيغ من أهل الإيمان { . . لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ } .


[3784]:سورة الفرقان. الآية 12.
[3785]:سورة غافر. الآيتان: 84، 85.
[3786]:سورة السجدة. الآية 12.
[3787]:سورة المؤمنون. الآيات: 106، 108.
[3788]:سورة فصلت. الآيتان: 23، 24.
[3789]:سورة الأنعام. الآيتان: 27، 28
[3790]:سورة الجاثية. من الآية 22.
[3791]:سورة النمل. الآية 66.