44- ولو جعلنا القرآن أعجمياً - كما اقترح بعض المتعنتين - لقالوا - منكرين - : هلا بيَّنت آياته بلسان نفقهه ، أكتاب أعجمي ومخاطب به عربي ؟ قل لهم - أيها الرسول - هو كما نزل للمؤمنين - دون غيرهم - هدى وشفاء للمؤمنين ، ينقذهم من الحيرة ، ويشفيهم من الشكوك . والذين لا يؤمنون به كأن في آذانهم - من الإعراض - صمماً ، وهو عليهم عمى ، لأنهم لا يرون منه إلا ما يبتغون به الفتنة ، أولئك الكافرون كمن يدعون إلى الإيمان به من مكان بعيد لا يسمعون فيه دعاء .
قوله تعالى : { ولو جعلناه } أي : جعلنا هذا الكتاب الذي تقرأه على الناس ، { قرآناً أعجميا } بغير لغة العرب ، { لقالوا لولا فصلت آياته } هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمها ، { أأعجمي وعربي } يعني : أكتاب أعجمي ورسول عربي ؟ وهذا استفهام على وجه الإنكار ، أي : أنهم كانوا يقولون : المنزل عليه عربي والمنزل أعجمي . قال مقاتل : وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على يسار ، غلام عامر بن الحضرمي ، وكان يهودياً أعجمياً ، يعني أبا فكيهة ، فقال المشركون : إنما يعلمه يسار فضربه سيده ، وقال : إنك تعلم محمداً ، فقال يسار : هو يعلمني ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : { قل } يا محمد ، { هو } يعني القرآن ، { للذين آمنوا هدىً وشفاء } لما في القلوب ، وقيل : شفاء من الأوجاع . { والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمىً } قال قتادة : عموا عن القرآن وصموا عنه فلا ينتفعون به ، { أولئك ينادون من مكان بعيد } أي : أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم ، وهذا مثل لقلة انتفاعهم بما يوعظون به كأنهم ينادون من حيث لا يسمعون .
{ 44 } { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ }
يخبر تعالى عن فضله وكرمه ، حيث أنزل كتابا عربيًا ، على الرسول العربي ، بلسان قومه ، ليبين لهم ، وهذا مما يوجب لهم زيادة الاغتناء به ، والتلقي له والتسليم ، وأنه لو جعله قرآنا أعجميًا ، بلغة غير العرب ، لاعترض ، المكذبون وقالوا : { لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي : هلا بينت آياته ، ووضحت وفسرت . { أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } أي : كيف يكون محمد عربيًا ، والكتاب أعجمي ؟ هذا لا يكون فنفى الله تعالى كل أمر ، يكون فيه شبهة لأهل الباطل ، عن كتابه ، ووصفه بكل وصف ، يوجب لهم الانقياد ، ولكن المؤمنون الموفقون ، انتفعوا به ، وارتفعوا ، وغيرهم بالعكس من أحوالهم .
ولهذا قال : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } أي : يهديهم لطريق الرشد والصراط المستقيم ، ويعلمهم من العلوم النافعة ، ما به تحصل الهداية التامة وشفاء لهم من الأسقام البدنية ، والأسقام القلبية ، لأنه يزجر عن مساوئ الأخلاق وأقبح الأعمال ، ويحث على التوبة النصوح ، التي تغسل الذنوب وتشفي القلب .
{ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } بالقرآن { فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ } أي : صمم عن استماعه وإعراض ، { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } أي : لا يبصرون به رشدًا ، ولا يهتدون به ، ولا يزيدهم إلا ضلالاً فإنهم إذا ردوا الحق ، ازدادوا عمى إلى عماهم ، وغيًّا إلى غيَّهم .
{ أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } أي : ينادون إلى الإيمان ، ويدعون إليه ، فلا يستجيبون ، بمنزلة الذي ينادي ، وهو في مكان بعيد ، لا يسمع داعيًا ولا يجيب مناديًا . والمقصود : أن الذين لا يؤمنون بالقرآن ، لا ينتفعون بهداه ، ولا يبصرون بنوره ، ولا يستفيدون منه خيرًا ، لأنهم سدوا على أنفسهم أبواب الهدى ، بإعراضهم وكفرهم .
الأعجمي : هو الذي لا يفصح عربياً كان أو غير عربي ، والعجمي : الذي ليس من العرب فصيحاً كان أو غير فصيح ، وهذه الآية نزلت بسبب تخليط كان من قريش في أقوالهم من أجل الحروف التي وقعت في القرآن ، وهي مما عرِّب من كلام العجم : كالسجين والإستبرق ونحوه ، فقال عز وجل : ولو جعلنا هذا القرآن أعجمياً لا يبين لقالوا واعترضوا لولا بينت آياته .
واختلف القراء في قوله : { أأعجمي وعربي } فقراءة الجمهور على الاستفهام وهمزة ممدودة قبل الألف . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعمش : «أأعجمي » بهمزتين ، وكأنهم كانوا ينكرون ذلك فيقولون : لولا بين أأعجمي وعربي مختلط هذا لا يحسن ، وتأول ابن جبير أن معنى قولهم : أتجيئنا عجمة ونحن عرب ؟ ما لنا وللعجمة ؟ وقرأ الحسن البصري وأبو الأسود والجحدري وسلام والضحاك وابن عباس وابن عامر بخلاف عنهما : «أعْجمي وعربي » دون استفهام وبسكون العين ، كأنهم قالوا عجمة وإعراب ، إن هذا لشاذ ، أو كأنهم قالوا لولا فصل فصلين ، فكان بعضه أعجمياً يفهمه العجم ، وبعضه عربياً يفهمه العرب ، وهذا تأويل لابن جبير أيضاً . وقرأ عمرو بن ميمون : «أعَجمي » بهمزة واحدة دون مد وبفتح العين ، فأخبر الله تعالى عنهم أنه لو كان على أي وجه تخيل لكان لهم قول واعتراض فاسد ، هذا مقصد الكلام .
وأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يقول لهم : إن القرآن { هدى وشفاء } للمؤمنين المبصرين للحقائق ، وأنه على الذين لا يؤمنون ولا يصرفون نظرهم وحواسهم في المصنوعات عمي ، لأنهم { في آذانهم وقر } وعلى قلوبهم أقفال وعلى أعينهم غشاوة .
واختلف الناس في قوله : { وهو عليهم } فقالت فرقة : يريد ب { هو } القرآن . وقالت فرقة : { وهو } يريد به الوقر . والوقر : الثقل في الآذن المانع من السمع ، وهذه كلها استعارات ، أي هم لما لم يفهموا ولا حصلوا كالأعمى وصاحب الوقر .
وقرأ ابن عباس ومعاوية وعمرو بن العاصي : «وهو عليهم عمٍ » بكسر الميم وتنوينه . وقال يعقوب : لا أدري أنونوا أم فتحوا الياء على الفعل الماضي ؟ وبغير ياء رواها عمرو بن دينار وسليمان بن قتة عن ابن عباس .
وهذه القراءة أيضاً فيها استعارة{[10091]} ، وكذلك قوله تعالى : { أولئك ينادون } يحتمل معنيين ، وكلاهما مفعول للمفسرين : أحدهما أنها استعارة لقلة فهمهم ، شبههم بالرجل ينادى على بعد يسمع منه الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه ، وهذا تأويل مجاهد ، والآخر أن الكلام على الحقيقة وأن معناه أنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف ، فتعظم السمعة عليهم ويحل المصاب ، وهذا تأويل الضحاك بن مزاحم .
{ وَلَوْ جعلناه قُرْءَاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءاياته ءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ } .
اتصال نظم الكلام من أول السورة إلى هنا وتناسب تنقلاته بالتفريع والبيان والاعتراض والاستطراد يقتضي أن قوله : { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا } إلى آخره تنقُّلٌ في دَرجَ إثبات أن قصدهم العناد فيما يتعللون به ليواجهوا إعراضهم عن القرآن والانتفاع بهديه بما يختلقونه عليه من الطعن فيه والتكذيببِ به ، وتكلّفُ الأعذار الباطلة ليتستروا بذلك من الظهور في مظهر المنهزم المحجوج ، فأخَذ يَنقض دعاويهم عُروة عُروة ، إذْ ابتدئت السورة بتحدِّيهم بمعجزة القرآن بقوله : { حم تَنزِيلٌ مِنَ الرحمن الرَّحِيمِ كتاب فُصِّلَتْ ءاياته قُرءَاناً عَرَبِياً } إلى قوله { فهم لا يسمعون } [ فصلت : 1 4 ] فهذا تحدَ لهم ووصف للقرآن بصفة الإِعجاز .
ثم أخذَ في إبطال معاذيرهم ومطاعنهم بقوله : { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه } [ فصلت : 5 ] ، فإن قولهم ذلك قصدوا به أن حجة القرآن غير مقنعة لهم إغاظة منهم للنبيء صلى الله عليه وسلم ثم تَمالُئهم على الأعراض بقوله : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } [ فصلت : 26 ] وهو عجز مكشوف بقوله : { إن الذين يلحدون في ءاياتنا لا يَخْفَون علينا } [ فصلت : 40 ] وبقوله : { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } [ فصلت : 41 ] الآيات . فأعقبها بأوصاف كمال القرآن التي لا يجدون مطعناً فيها بقوله : { وإنه لكتاب عزيز } [ فصلت : 41 ] الآية .
وإذ قد كانت هذه المجادلات في أول السورة إلى هنا إبطالاً لتعللاتهم ، وكان عماده على أن القرآن عربي مفصَّل الدلالةِ المعروفةِ في لغتهم حسبما ابتدىء الكلام بقوله : { كتاب فُصِّلَتْ ءاياته قُرءاناً عربياً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ فصلت : 3 ] وانْتُهي هنا بقوله : { وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } [ فصلت : 41 ، 42 ] ، فقد نهضت الحجة عليهم بدلالته على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الجهة فانتقل إلى حجة أخرى عمادها الفرضُ والتقديرُ أن يكون قد جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقرآن من لغة أخرى غير لغة العرب .
ولذلك فجملة : { ولو جعلناه قرءاناً أعجمياً } معطوفة على جملة : { وإنه لكتاب عزيز } [ فصلت : 41 ] على الاعتبارين المتقدمين آنفاً في موقع تلك الجملة .
ومعنى الآية متفرع على ما يتضمنه قوله : { كتاب فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْءاناً عربياً لِقَوم يعلمون } [ فصلت : 3 ] وقوله : { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحَى إلي } [ الكهف : 110 ] من التحدِّي بصفة الأمية كما علمت آنفاً ، أي لو جئناهم بلون آخر من معجزة الأمية فأنزلنا على الرسول قُرآناً أعجمياً ، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم علم بتلك اللغة من قبل ، لقلبوا معاذيرهم فقالوا : لولا بُينت آياتُه بلغة نفهمها وكيف يخاطِبنا بكلام أعجمي . فالكلام جار على طريقة الفرض كما هو مقتضى حرف { لو } الامتناعية . وهذا إبانة على أن هؤلاء القوم لا تجدي معهم الحجة ولا ينقطعون عن المعاذير لأن جدالهم لا يريدون به تطلب الحق وما هو إلا تعنت لترويج هواهم .
ومن هذا النوع في الاحتجاج قوله تعالى : { ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين } [ الشعراء : 198 ، 199 ] ، أي لو نزلناه بلغة العرب على بعض الأعجمين فقرأه عليهم بالعربية ، لاشتراك الحجتين في صفة الأمية في اللغة المفروضضِ إنزالُ الكتاب بها ، إلا أن تلك الآية بينت على فرض أن ينزل هذا القرآن على رسوللٍ لا يعرف العربية ، وهذه الآية بنيت على فرض أن ينزل القرآن على الرسول العربي صلى الله عليه وسلم بلغة غير العربية . وفي هذه الآية إشارة إلى عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم للعرب والعجم فلم يكن عجباً أن يكون الكتاب المنزل عليه بلغة غير العرب لولا أن في إنزاله بالعربية حكمةً علمها الله ، فإن الله لما اصطفى الرسول صلى الله عليه وسلم عربياً وبعثه بين أمة عربية كان أحقُّ اللغات بأن ينزل بها كتابه إليه العربية ، إذ لو نزل كتابه بغير العربية لاستوت لغات الأمم كلها في استحقاق نزول الكتاب بها فأوقع ذلك تحاسداً بينها لأن بينهم من سوابق الحوادث في التاريخ ما يثير الغيرة والتحاسد بينهم بخلاف العرب إذ كانوا في عزلة عن بقية الأمم ، فلا جرم رُجحت العربية لأنها لغة الرسول صلى الله عليه وسلم ولغة القوم المرسل بينهم فلا يستقيم أن يبقى القوم الذين يدعوهم لا يفقهون الكتاب المنزل إليهم . .
ولو تعددت الكتب بعدد اللغات لفاتت معجزة البلاغة الخاصة بالعربية لأن العربية أشرف اللغات وأعلاها خصائص وفصاحة وحسنَ أداء للمعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة . ثم العرب هم الذين يتولون نشر هذا الدين بين الأمم وتبيين معاني القرآن لهم . ووقع في « تفسير الطبري » عن سعيد بن جبير أنه قال : قالت قريش : لولا أنزل هذا القرآن أعجمياً وعربياً ؟ فأنزل الله : { لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءاياته أعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } بهمزة واحدة على غير مذهب الاستفهام ا ه . ولا أحسب هذا إلا تأويلاً لسعيد بن جبير لأنه لم يسنده إلى راو ، ولم يرو عن غيره فرأى أن الآية تنبىء عن جواب كلام صدر عن المشركين المعبر عنهم بضمير { لَّقَالُوا } . وسياق الآية ولفظها ينبو عن هذا المعنى ، وكيف و { لو } الامتناعية تمتنع من تحمل هذا التأويل وتدفعه .
وأما ما ذكره في « الكشاف » : « أنهم كانوا لتعنتهم يقولون : هلا نزل القرآن بلغة العجم ؟ فقيل : لو كان كما يقترحون لم يتركوا الاعتراض والتعنت ، وقالوا : لولا فصّلت آياته الخ » . فلم نقف على من ذكر مثله من المفسرين وأصحاب أسباب النزول وما هو إلا من صنف ما روي عن سعيد . ولو كان كذلك لكان نظم الآية : وقالوا لولا فصلت آياته ، ولم يكن على طريقة { لو } وجوابها . ولا يظن بقريش أن يقولوا ذلك إلا إذا كان على سبيل التهكم والاستهزاء .
وضمير { جعلناه } عائد إلى { الذكر في قوله : { إنَّ الذِينَ كَفَرُوا بالذِّكْرِ } [ فصلت : 41 ] .
وقوله : { أعجمِيٌّ وعَرَبِيٌّ } بقية ما يقولونه على فرض أن يُجعل القرآن أعجمياً ، أي أنهم لا يخلون من الطعن في القرآن على كل تقدير .
ومعنى : { فُصِّلَتْ } هنا : بيِّنت ووضِّحت ، أي لولا جعلت آياته عربية نفهمها .
والواو في قوله : { وَعَرَبِيٌّ } للعطف بمعنى المعية . والمعنى : وكيف يلتقي أعجمي وعربي ، أي كيف يكون اللفظ أعجمياً والمخاطب به عربياً كأنهم يقولون : أيلقى لفظ أعجمي إلى مخاطب عربي .
ومعنى : { قوآناً } كتاباً مقروءاً . وورد في الحديث تسمية كتاب داود عليه السلام قرآناً ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن داود يُسّر له القرآن فكان يقرأ القرآن كله في حين يسرج له فرسه ( أو كما قال ) .
والأعجمي : المنسوب إلى أعجم ، والأعجم مشتق من العجمة وهي الإِفصاح ، فالأعجم : الذي لا يفصح باللغة العربية ، وزيادة الياء فيه للوصف نحو : أحمري ودَوّاري . فالأعجمي من صفات الكلام .
وأفرد { وَعَرَبِيٌّ } على تأويله بجنس السامع ، والمعنى : أكتاب عربي لسامعين عرب فكان حق { عربي أن يجمع ولكنه أفرد لأن مبنى الإِنكار على تنافر حالتي الكتاب والمرسل إليهم ، فاعتبر فيه الجنس دون أن ينظر إلى إفراد ، أو جمع . وحاصل معنى الآية : أنها تؤذن بكلام مقدر داخل في صفات الذِّكْر ، وهو أنه بلسان عربي بلغتكم إتماماً لهديكم فلم تؤمنوا به وكفرتم وتعللتم بالتعلّلات الباطلة فلو جعلناه أعجمياً لقلتم : هلا بينت لنا حتى نفهمه .
قل هو للذين ءامنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في ءاذانهم وقر وهو عليهم عمى ، أولئك ينادون من مكان بعيدْ
هذا جواب تضمنه قوله : { ما يُقَالُ لَكَ إلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [ فصلت : 43 ] ، أي ما يقال من الطعن في القرآن ، فجوابه : أن ذلك الذكر أو الكتاب للذين آمنوا هدى وشفاء ، أي أن تلك الخصال العظيمة للقرآن حَرَمَهم كُفْرُهم الانتفاع بها وانتفع بها المؤمنون فكان لهم هدياً وشفاء . وهذا ناظر إلى ما حكاه عنهم من قولهم : { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر } [ فصلت : 5 ] ، فهو إلزام لهم بحكم على أنفسهم .
وحقيقة الشفاء : زوال المرض وهو مستعار هنا للبصارة بالحقائق وانكشاف الالتباس من النفس كما يزول المرض عند حصول الشفاء ، يقال : شُفيتْ نفسه ، إذا زال حَرجه ، قال قيس بن زهير :
شفَيْتُ النفسَ من حَمَللِ بننِ بدر *** وسيفي من حُذيفة قد شفاني
ونظيره قولهم : شُفي غليله ، وبرد غليله ، فإن الكفر كالداء في النفس لأنه يوقع في العذاب ويبعث على السيئات .
وجملة : { وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } الخ معطوفة على جملة : { هُوَ للذِينَ ءامَنُوا هُدًى } فهي مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، أي وأما الذين لا يؤمنون فلا تتخلل آياته نفوسَهم لأنهم كمن في آذانهم وقر دون سماعه ، وهو ما تقدم في حكاية قولهم : { وفي آذاننا وقر } [ فصلت : 5 ] ، ولهذا الاعتبار كان معنى الجملة متعلقاً بأحوال القرآن مع الفريق غير المؤمن من غير تكلف لتقدير جعل الجملة خبراً عن القرآن .
ويجوز أن تكون الجملة خبراً ثانياً عن ضمير الذكر ، أي القرآن ، فتكونَ من مقول القول وكذلك جملة { وَهُوَ عَليهِمْ عَمًى } .
والإِخبار عنهُ ب { وَقْرٌ } و { عَمًى } تشبيه بليغ ووجه الشبه هو عدم الانتفاع به مع سماع ألفاظه ، والوقر : داء فمقابلته بالشفاء من محسِّن الطِّباق .
وضمير { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } يتبادر أنه عائد إلى الذِّكر أو الكتاب كما عاد ضمير { هو } { لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى } . والعَمى : عدم البصر ، وهو مستعار هنا لضد الاهتداء فمقابلته بالهدى فيها محسِّن الطِّباق .
والإِسناد إلى القرآن على هذا الوجه في معاد الضمير بأنه عليهم عمًى من الإِسناد المجازي لأن عنادهم في قبوله كان سبباً لضلالهم فكان القرآن سَبَبَ سبببٍ ، كقوله تعالى : { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] .
ويجوز أن يكون ضمير { وَهُوَ } ضميرَ شأن تنبيهاً على فظاعة ضلالهم . وجملة { عَلَيهم عَمًى } خبر ضميرَ الشأن ، أي وأعظم من الوقر أن عليهم عمى ، أي على أبصارهم عمى كقوله : { وعلى أبصارهم غشاوة } [ البقرة : 7 ] .
وإنما علق العمى بالكون على ذواتهم لأنه لما كان عمى مجازياً تعين أن مصيبَته على أنفسهم كلها لا على أبصارهم خاصة فإن عمى البصائر أشدّ ضراً من عمى الأبصار كقوله تعالى : { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمَى القلوب التي في الصدور } [ الحج : 46 ] .
وجملة { أولئك يُنَادونَ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ } خبر ثالث عن { الذين لا يؤمنون } . والكلام تمثيل لحال إعراضهم عن الدعوة عند سماعها بحال من يُنادَى من مكان بعيد لا يبلغ إليه في مثله صوت المنادي على نحو قوله تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع } كما تقدم في سورة البقرة ( 171 ) . وتقول العرب لمن لا يفهم : أنت تُنادَى من مكان بعيد . والإِشارة ب { أولئك } إلى { الذين لا يؤمنون } لقصد التنبيه على أن المشار إليهم بعد تلك الأوصاف أحْرياء بما سيذكر بعدها من الحكم من أجلها نظير { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] .
ويتعلق { مِن مكانٍ بعيدٍ } ب { يُنَادونَ } . وإذا كان النداء من مكان بعيد كان المنادَى ( بالفتح ) في مكان بعيد لا محالة كما تقدم في تعلق { من الأرض } ، بقوله : { ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض } [ الروم : 25 ] أي دعاكم من مكانكم في الأرض ، ويذلك يجوز أن يكون { مِن مَكَاننٍ بعيدٍ } ظرفاً مستقراً في موضع الحال من ضمير { يُنَادونَ } وذلك غير متأتَ في قوله : { إذا دعاكم دعوة من الأرض } .