177- لقد أكثر الناسُ الكلام في أمر القبلة كأنها هي وحدها الخير ، وليس هذا هو الحق ، فليس استقبال جهة معينة في المشرق أو المغرب هو قوام الدين وجماع الخير ، ولكن ملاك الخير عدة أمور بعضها من أركان العقيدة الصحيحة ، وبعضها من أمهات الفضائل والعبادات ، فالأول هو : الإيمان بالله ويوم البعث والنشور والحساب وما يتبعه يوم القيامة ، والإيمان بالملائكة وبالكتب المنزلة على الأنبياء وبالأنبياء أنفسهم . والثاني هو : بذل المال عن رغبة وطيب نفس للفقراء من الأقارب واليتامى ، ولمن اشتدت حاجتهم وفاقتهم من الناس ، وللمسافرين الذين انقطع بهم الطريق فلا يجدون ما يبلغهم مقصدهم ، وللسائلين الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال ، ولغرض عتق الأرقاء وتحرير رقابهم من الرق . والثالث : المحافظة على الصلاة . والرابع : إخراج الزكاة المفروضة . والخامس : الوفاء بالعهد في النفس والمال . والسادس : الصبر على الأذى ينزل بالنفس أو المال ، أو وقت مجاهدة العدو في مواطن الحروب فالذين يجمعون هذه العقائد والأعمال الخيرة هم الذين صَدَقوا في إيمانهم ، وهم الذين اتقوا الكفر والرذائل وتجنبوها .
قوله تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } . قرأ حمزة و حفص : ليس البر بنصب الراء ، والباقون برفعها ، فمن رفعها جعل البر اسم ليس ، وخبره قوله : أن تولوا ، تقديره : ليس البر توليتكم وجوهكم . ومن نصب جعل أن تولوا في موضع الرفع على اسم ليس ، تقديره : ليس توليتكم وجوهكم البر كله ، كقوله تعالى : ( ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا ) . والبر كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة . واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية ، فقال قوم : عنى بها اليهود والنصارى ، وذلك أن اليهود كانت تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس والنصارى قبل المشرق ، وزعم كل فريق منهم : أن البر في ذلك ، فأخبر الله تعالى أن البر غير دينهم وعملهم ولكنه ما بينه في هذه الآية ، وعلى هذا القول قتادة ومقاتل بن حيان . وقال الآخرون : المراد بها المؤمنون . وذلك أن الرجل كان في ابتداء الإسلام قبل نزول الفرائض إذا أتى بالشهادتين وصلى الصلاة إلى أي جهة كانت ثم مات على ذلك وجبت له الجنة . ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الفرائض ، وحددت الحدود ، وصرفت القبلة إلى الكعبة ، أنزل الله هذه الآية فقال : ( ليس البر ) أي كله أن تصلوا قبل المشرق والمغرب ولا تعملوا على غير ذلك .
قوله تعالى : { ولكن البر } . ما ذكر في هذه الآية وعلى هذا القول ابن عباس ومجاهد ، وعطاء والضحاك . ولكن البر رفع ، وقرأ الباقون بتشديد النون ونصب البر .
قوله تعالى : { من آمن بالله } . جعل من وهي اسم خبر للبر وهو فعل ولا يقال البر زيد . واختلفوا في وجهه قيل لما وقع من في موقع المصدر جعله خبراً للبر ، كأنه قال ولكن البر الإيمان بالله ، والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل وأنشد الفراء :
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى *** ولكنما الفتيان كل فتى ندى
فجعل نبات اللحية خبر للفتى . وقيل فيه إضمار معناه ولكن البر بر من آمن بالله ، فاستغنى بذكر الأول عن الثاني . كقولهم الجود حاتم أي الجود جود حاتم . وقيل معناه ولكن ذا البر من آمن بالله . كقوله تعالى : ( هم درجات عند الله ) أي ذو درجات . وقيل معناه ولكن البر من آمن بالله كقوله تعالى ( والعاقبة للتقوى ) أي للمتقي ، والمراد من البر هاهنا الإيمان والتقوى .
قوله تعالى : { واليوم الآخر والملائكة } . كلهم .
قوله تعالى : { والكتاب } . يعني الكتب المنزلة .
قوله تعالى : { والنبيين } . أجمع .
قوله تعالى : { وآتى المال } . أعطى المال .
قوله تعالى : { على حبه } . اختلفوا في هذه الكناية ، فقال أكثر أهل التفسير : إنها راجعة إلى المال أي أعطى المال في حال صحته ومحبته المال . قال ابن مسعود : أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا موسى بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الواحد ، ثنا عمارة بن القعقاع ، أنا أبو زرعة ، أخبرنا أبو هريرة قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً ؟ قال : أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تمهل ، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان " . وقيل هي عائدة على الله عز وجل أي على حب الله تعالى .
قوله تعالى : { ذوي القربى } . أهل القرابة . أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، أخبرنا أبو العباس المحبوبي ، أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، أخبرنا قتيبة ، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن عمها سليمان ابن عامر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان ، صدقة وصلة " .
قوله تعالى : { واليتامى والمساكين وابن السبيل } . قال مجاهد : يعني المسافر المنقطع عن أهله يمر عليك ، ويقال للمسافر ابن السبيل لملازمته الطريق ، وقيل : هو الضيف ينزل بالرجل قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " .
قوله تعالى : { والسائلين } . يعني الطالبين . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبي بجيد الأنصاري وهو عبد الرحمن بن نجيد عن جدته وهي أم نجيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ردوا السائل ولو بظلف محرق " وفي رواية قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لم تجدي شيئاً إلا ظلفاً محرقاً فادفعيه إليه " .
قوله تعالى : { وفي الرقاب } . يعني المكاتبين قاله أكثر المفسرين ، وقيل : عتق النسمة وفك الرقبة وقيل : الأسارى .
قوله تعالى : { وأقام الصلاة وآتى الزكاة } . وأعطى الزكاة .
قوله تعالى : { والموفون بعهدهم } . فيما بينهم وبين الله عز وجل وفيما بينهم وبين الناس .
قوله تعالى : { إذا عاهدوا } . يعني إذا وعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا ونذروا أوفوا ، وإذا عاهدوا وفوا ، وإذا قالوا صدقوا ، وإذا ائتمنوا أدوا ، واختلفوا في رفع قوله والموفون قيل : هو عطف على خبر معناه ولكن ذا البر المؤمنون والموفون بعهدهم وقيل : تقديرهم الموفون كأنه عد أصنافاً ثم قال : هم الموفون كذا ، وقيل رفع على الابتداء والخبر يعني وهم الموفون ثم قال :
قوله تعالى : { والصابرين } . وفي نصبها أربعة أوجه . قال أبو عبيدة : نصبها على تطاول الكلام ومن شأن العرب أن تغير الإعراب إذا طال الكلام والنسق ، ومثله في سورة النساء والمقيمين الصلاة ، وفي سورة المائدة والصابئون والنصارى ، وقيل معناه أعني الصابرين ، وقيل نصبه نسقاً على قوله ذوي القربى أي وآتي الصابرين . وقال الخليل : نصب على المدح والعرب تنصب على المدح والذم . كأنهم يريدون إفراد الممدوح والمذموم ، فلا يتبعونه أول الكلام وينصبونه ، فالمدح كقوله تعالى : ( والمقيمين الصلاة ) . والذم كقوله تعالى ( ملعونين أينما ثقفوا ) .
قوله تعالى : { في البأساء } . أي الشدة والفقر .
قوله تعالى : { والضراء } . المرض والزمانة .
قوله تعالى : { وحين البأس } . أي القتال والحرب . أخبرنا المطهر بن علي بن عبد الله الفارسي ، أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الصالحاني ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان ، أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي ، أخبرنا علي بن الجعد ، أخبرنا زهير عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : " كنا إذا احمر البأس ولقي القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه " ، يعني إذا اشتد الحرب .
{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }
يقول تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } أي : ليس هذا هو البر المقصود من العباد ، فيكون كثرة البحث فيه والجدال من العناء الذي ليس تحته إلا الشقاق والخلاف ، وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم : " ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " ونحو ذلك .
{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } أي : بأنه إله واحد ، موصوف بكل صفة كمال ، منزه عن كل نقص .
{ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وهو كل ما أخبر الله به في كتابه ، أو أخبر به الرسول ، مما يكون بعد الموت .
{ وَالْمَلَائِكَةِ } الذين وصفهم الله لنا في كتابه ، ووصفهم رسوله صلى الله عليه وسلم { وَالْكِتَابِ } أي : جنس الكتب التي أنزلها الله على رسوله ، وأعظمها القرآن ، فيؤمن بما تضمنه من الأخبار والأحكام ، { وَالنَّبِيِّينَ } عموما ، خصوصا خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم .
{ وَآتَى الْمَالَ } وهو كل ما يتموله الإنسان من مال ، قليلا كان أو كثيرا ، أي : أعطى المال { عَلَى حُبِّهِ } أي : حب المال ، بيَّن به أن المال محبوب للنفوس ، فلا يكاد يخرجه العبد .
فمن أخرجه مع حبه له تقربا إلى الله تعالى ، كان هذا برهانا لإيمانه ، ومن إيتاء المال على حبه ، أن يتصدق وهو صحيح شحيح ، يأمل الغنى ، ويخشى الفقر ، وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة ، كانت أفضل ، لأنه في هذه الحال ، يحب إمساكه ، لما يتوهمه من العدم والفقر .
وكذلك إخراج النفيس من المال ، وما يحبه من ماله كما قال تعالى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } فكل هؤلاء ممن آتى المال على حبه .
ثم ذكر المنفق عليهم ، وهم أولى الناس ببرك وإحسانك . من الأقارب الذين تتوجع لمصابهم ، وتفرح بسرورهم ، الذين يتناصرون ويتعاقلون ، فمن أحسن البر وأوفقه ، تعاهد الأقارب بالإحسان المالي والقولي ، على حسب قربهم وحاجتهم .
ومن اليتامى الذين لا كاسب لهم ، وليس لهم قوة يستغنون بها ، وهذا من رحمته [ تعالى ] بالعباد ، الدالة على أنه تعالى أرحم بهم من الوالد بولده ، فالله قد أوصى العباد ، وفرض عليهم في أموالهم ، الإحسان إلى من فقد آباؤهم ليصيروا كمن لم يفقد والديه ، ولأن الجزاء من جنس العمل فمن رحم يتيم غيره ، رُحِمَ يتيمه .
{ وَالْمَسَاكِين } وهم الذين أسكنتهم الحاجة ، وأذلهم الفقر فلهم حق على الأغنياء ، بما يدفع مسكنتهم أو يخففها ، بما يقدرون عليه ، وبما يتيسر ، { وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو الغريب المنقطع به في غير بلده ، فحث الله عباده على إعطائه من المال ، ما يعينه على سفره ، لكونه مظنة الحاجة ، وكثرة المصارف ، فعلى من أنعم الله عليه بوطنه وراحته ، وخوله من نعمته ، أن يرحم أخاه الغريب ، الذي بهذه الصفة ، على حسب استطاعته ، ولو بتزويده أو إعطائه آلة لسفره ، أو دفع ما ينوبه من المظالم وغيرها .
{ وَالسَّائِلِينَ } أي : الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج ، توجب السؤال ، كمن ابتلي بأرش جناية ، أو ضريبة عليه من ولاة الأمور ، أو يسأل الناس لتعمير المصالح العامة ، كالمساجد ، والمدارس ، والقناطر ، ونحو ذلك ، فهذا له حق وإن كان غنيا { وَفِي الرِّقَابِ } فيدخل فيه العتق والإعانة عليه ، وبذل مال للمكاتب ليوفي سيده ، وفداء الأسرى عند الكفار أو عند الظلمة .
{ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } قد تقدم مرارا ، أن الله تعالى يقرن بين الصلاة والزكاة ، لكونهما أفضل العبادات ، وأكمل القربات ، عبادات قلبية ، وبدنية ، ومالية ، وبهما يوزن الإيمان ، ويعرف ما مع صاحبه من الإيقان .
{ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا } والعهد : هو الالتزام بإلزام الله أو إلزام العبد لنفسه . فدخل في ذلك حقوق الله كلها ، لكون الله ألزم بها عباده والتزموها ، ودخلوا تحت عهدتها ، ووجب عليهم أداؤها ، وحقوق العباد ، التي أوجبها الله عليهم ، والحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور ، ونحو ذلك .
{ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ } أي : الفقر ، لأن الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة ، لكونه يحصل له من الآلام القلبية والبدنية المستمرة ما لا يحصل لغيره .
فإن تنعم الأغنياء بما لا يقدر عليه تألم ، وإن جاع أو جاعت عياله تألم ، وإن أكل طعاما غير موافق لهواه تألم ، وإن عرى أو كاد تألم ، وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهمه من المستقبل الذي يستعد له تألم ، وإن أصابه البرد الذي لا يقدر على دفعه تألم .
فكل هذه ونحوها ، مصائب ، يؤمر بالصبر عليها ، والاحتساب ، ورجاء الثواب من الله عليها .
{ وَالضَّرَّاءِ } أي : المرض على اختلاف أنواعه ، من حمى ، وقروح ، ورياح ، ووجع عضو ، حتى الضرس والإصبع ونحو ذلك ، فإنه يحتاج إلى الصبر على ذلك ، لأن النفس تضعف ، والبدن يألم ، وذلك في غاية المشقة على النفوس ، خصوصا مع تطاول ذلك ، فإنه يؤمر بالصبر ، احتسابا لثواب الله [ تعالى ] .
{ وَحِينَ الْبَأْسِ } أي : وقت القتال للأعداء المأمور بقتالهم ، لأن الجلاد يشق غاية المشقة على النفس ، ويجزع الإنسان من القتل ، أو الجراح أو الأسر ، فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتسابا ، ورجاء لثواب الله [ تعالى ] الذي منه النصر والمعونة ، التي وعدها الصابرين .
{ أُولَئِكَ } أي : المتصفون بما ذكر من العقائد الحسنة ، والأعمال التي هي آثار الإيمان ، وبرهانه ونوره ، والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية ، فأولئك هم { الَّذِينَ صَدَقُوا } في إيمانهم ، لأن أعمالهم صدقت إيمانهم ، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } لأنهم تركوا المحظور ، وفعلوا المأمور ، لأن هذه الأمور مشتملة على كل خصال الخير ، تضمنا ولزوما ، لأن الوفاء بالعهد ، يدخل فيه الدين كله ، ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية أكبر العبادات ، ومن قام بها ، كان بما سواها أقوم ، فهؤلاء هم الأبرار الصادقون المتقون .
وقد علم ما رتب الله على هذه الأمور الثلاثة ، من الثواب الدنيوي والأخروي ، مما لا يمكن تفصيله في [ مثل ] هذا الموضع .
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 177 )
وقوله تعالى : { ليس البرُّ } الآية : قرأ أكثر السبعة برفع الراء ، و «البرُّ » اسم ليس ، قال أبو علي : «ليس بمنزلة الفعل فالوجه أن يليها الفاعل ثم المفعول » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : مذهب أبي علي أن { ليس } حرف ، والصواب الذي عليه الجمهور أنها فعل ، وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص «ليس البرَّ » بنصب الراء ، جعل { أن تولوا } بمنزلة المضمر ، إذ لا يوصف كما لا يوصف المضمر ، والمضمر أولى أن يكون اسماً يخبر عنه( {[1593]} ) ، وفي مصحف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود { ليس البرّ بأن تولوا } ، وقال الأعمش ، إن في مصحف عبد الله : ( لا تحسبن البر ) ( {[1594]} ) ، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : الخطاب بهذه الآية للمؤمنين ، فالمعنى ليس البر الصلاة وحدها ، وقال قتادة والربيع : الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي ، فاليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى مطلع الشمس ، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليها ، وقرأ الجمهور «ولكن البر » ( {[1595]} )والتقدير ولكن البر بر من ، وقيل : التقدير ولكن ذو البر من ، وقيل : { البر } بمنزلة اسم الفاعل تقديره ولكن البار من ، والمصدر إذا أنزل منزلة اسم الفاعل فهو ولا بد محمول على حذف مضاف ، كقولك رجل عدل ورضى( {[1596]} ) .
والإيمان التصديق ، أي صدق بالله تعالى وبهذه الأمور كلها حسب مخبرات الشرائع .
وقوله تعالى : { وآتى المال على حبه } الآية ، هذه كلها حقوق في المال سوى الزكاة ، وبها كمال البر( {[1597]} ) ، وقيل هي الزكاة ، و { آتى } معناه أعطى ، والضمير في { حبه } عائد على { المال }( {[1598]} ) فالمصدر مضاف إلى المفعول ، ويجيء قوله { على حبه } اعتراضاً بليغاً أثناء القول( {[1599]} ) ، ويحتمل أن يعود الضمير على الإيتاء أي في وقت حاجة من الناس وفاقة ، فإيتاء المال حبيب إليهم ، ويحتمل أن يعود على اسم الله تعالى من قوله : { من آمن بالله } أي من تصدق محبة في الله تعالى وطاعاته ، ويحتمل أن يعود على الضمير المستكن في { آتى } أي على حبه المال ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل ، والمعنى المقصود : أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو شحيح صحيح يخشى الفقر ويأمل الغنى ، كما قال صلى الله عليه وسلم( {[1600]} ) .
قال القاضي أبو محمد : والشح في هذا الحديث هو الغريزي الذي في قوله تعالى : { وأحضرت الأنفس الشح }( {[1601]} ) [ النساء : 128 ] ، وليس المعنى أن يكون المتصدق متصفاً بالشح الذي هو البخل ، و { ذوي القربى } يراد به قرابة النسب .
واليتم في الآدميين من قبل الأب قبل البلوغ ، وقال مجاهد وغيره : { ابن السبيل } المسافر لملازمته السبيل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كما يقال ابن ماء للطائر الملازم للماء ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل الجنة ابن زنى »( {[1602]} ) أي الملازم له ، وقيل : لما كانت السبيل تبرزه شبه ذلك بالولادة فنسب إليها ، وقال قتادة : { ابن السبيل } الضيف ، والأول أعم ، و { في الرقاب } : يراد به العتق وفك الأسرى وإعطاء أواخر الكتابات ( واقام الصلاة } أتمها بشروطها ، وذكر الزكاة هنا دليل على أن ما تقدم ليس بالزكاة المفروضة ، و { الموفون } عطف على { من } في قوله : { من آمن } ، ويحتمل أن يقدر وهم الموفون ، و { الصابرين } نصب على المدح أو على إضمار فعل ، وهذا مهيع( {[1603]} ) في تكرار النعوت ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «والموفين » على المدح أو على قطع النعوت ، وقرأ يعقوب والأعمش والحسن { والموفون } «والصابرون » وقرأ الجحدري { بعهودهم } ، و { البأساء } الفقر والفاقة ، و { الضراء } المرض ومصائب البدن ، و { حين البأس } وقت شدة القتال .
هذا قول المفسرين في الألفاظ الثلاثة ، وتقول العرب : بئس الرجل إذا افتقر ، وبؤس إذا شجع .
ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال البرة بالصدق في أمورهم أي هم عند الظن بهم والرجاء فيهم كما تقول : صدقني المال وصدقني الربح ، ومنه عود صدق( {[1604]} ) ، وتحتمل اللفظة أيضاً صدق الإخبار ، ووصفهم الله تعالى بالتقى ، والمعنى هم الذي جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية من العمل الصالح .