قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } . قرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر بالياء فيهما ، لقوله تعالى ( فنبذوه وراء ظهورهم ) . وقرأ الآخرون بالتاء فيهما على إضمار القول . قوله تعالى : { فنبذوه وراء ظهورهم } . أي طرحوه وضيعوه وتركوا العمل به .
قوله تعالى : { واشتروا به ثمناً قليلاً } . يعني المأكل والرشا .
قوله تعالى : { فبئس ما يشترون } . قال قتادة : هذا ميثاق أخذه الله تعالى على أهل العلم فمن علم شيئاً فليعلمه ، وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة . وقال أبو هريرة رضي الله عنه : ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ، ثم تلا هذه الآية ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ) .
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي ، أخبرنا أبو معاذ الشاه بن عبد الرحمن ، أخبرنا أبو بكر عمر ابن سهل بن إسماعيل الدينوري ، أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى البرني ، أخبرنا أبو حذيفة موسى بن مسعود ، أخبرنا إبراهيم بن طهمان ، عن سماك بن حرب ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سئل عن علم علمه وكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " .
وقال الحسن بن عمارة أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه ، فقلت : إن رأيت أن تحدثني فقال :أما علمت أني قد تركت الحديث ؟ فقلت : إما أن تحدثني وإما أن أحدثك ، فقال : حدثني ، فقلت : حدثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الخراز قال : سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا ، قال فحدثني أربعين حديثاً .
{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
الميثاق هو العهد الثقيل المؤكد ، وهذا الميثاق أخذه الله تعالى على كل من أعطاه [ الله ] الكتب وعلمه العلم ، أن يبين للناس ما يحتاجون إليه مما علمه الله ، ولا يكتمهم ذلك ، ويبخل عليهم به ، خصوصا إذا سألوه ، أو وقع ما يوجب ذلك ، فإن كل من عنده علم يجب عليه في تلك الحال أن يبينه ، ويوضح الحق من الباطل .
فأما الموفقون ، فقاموا بهذا أتم القيام ، وعلموا الناس مما علمهم الله ، ابتغاء مرضاة ربهم ، وشفقة على الخلق ، وخوفا من إثم الكتمان .
وأما الذين أوتوا الكتاب ، من اليهود والنصارى ومن شابههم ، فنبذوا هذه العهود والمواثيق وراء ظهورهم ، فلم يعبأوا بها ، فكتموا الحق ، وأظهروا الباطل ، تجرؤا على محارم الله ، وتهاونا بحقوق الله ، وحقوق الخلق ، واشتروا بذلك الكتمان ثمنا قليلا ، وهو ما يحصل لهم إن حصل من بعض الرياسات ، والأموال الحقيرة ، من سفلتهم المتبعين أهواءهم ، المقدمين شهواتهم على الحق ، { فبئس ما يشترون } لأنه أخس العوض ، والذي رغبوا عنه -وهو بيان الحق ، الذي فيه السعادة الأبدية ، والمصالح الدينية والدنيوية- أعظم المطالب وأجلها ، فلم يختاروا الدنيء الخسيس ويتركوا العالي النفيس ، إلا لسوء حظهم وهوانهم ، وكونهم لا يصلحون لغير ما خلقوا له .
{ وإذ أخذ الله } أي اذكر وقت أخذه . { ميثاق الذين أوتوا الكتاب } يريد به العلماء . { لتبيننه للناس ولا تكتمونه } حكاية لمخاطبتهم . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش بالياء لأنهم غيب ، واللام جواب القسم الذي ناب عنه قوله : { أخذ الله ميثاق الذين } والضمير للكتاب . { فنبذوه } أي الميثاق . { وراء ظهورهم } فلم يراعوه ولم يتلفتوا إليه . والنبذ وراء الظهر مثل في ترك الاعتداد وعدم الالتفات ، ونقيضه جعله نصب عينيه وإلقاؤه بين عينيه . { واشتروا به } . وأخذوا بدله .
{ ثمنا قليلا } من حطام الدنيا وأعراضها . { فبئس ما يشترون } يختارون لأنفسهم ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار " . وعن علي رضي الله تعالى عنه ( ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا ) .
قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } الآية ، توبيخ لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم هو مع ذلك خبر عام لهم ولغيرهم . والعامل في { إذ } فعل مقدر تقديره اذكر ، وأخذ هذا الميثاق هو على ألسنة الأنبياء أمة بعد أمة ، وقال ابن عباس والسدي وابن جريج : الآية في اليهود خاصة ، أخذ الله عليهم الميثاق في أمر محمد فكتموه ونبذوه{[3765]} ، قال مسلم البطين{[3766]} : سأل الحجاج بن يوسف جلساءه عن تفسير هذه الآية فقام رجل إلى سعيد بن جبير فسأله فقال له : نزلت في يهود أخذ الميثاق عليهم في أمر محمد فكتموه ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتبيننه » فيجيء قوله { فنبذوه } عائداً على الناس الذين بين الأنبياء لهم ، وقال قوم من المفسرين : الآية في اليهود والنصارى ، وقال جمهور من العلماء : الآية عامة في كل من علمه الله علماً ، وعلماء هذه الأمة داخلون في هذا الميثاق ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ) {[3767]} ، وقد قال أبو هريرة : ( إني لأحدثكم حديثاً ، ولولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ثم تلا { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب } ){[3768]} [ البقرة : 174 ] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر : «ليبيننه للناس ولا يكتمونه » ، بالياء من أسفل فيهما ، وقرأ الباقون وحفص وعاصم بالتاء من فوق فيهما ، وكلا القراءتين متجه ، والضمير في الفصلين عائد على الكتاب ، وفي قراءة ابن مسعود «لتبينونه » دون النون الثقيلة ، وقد لا تلزم هذه النون لام القسم ، قاله سيبويه ، و «النبذ » الطرح ، وقوله تعالى : { وراء ظهورهم } ، استعارة لما يبالغ في اطراحه ، ومنه { واتخذتموه وراءكم ظهرياً }{[3769]} ومنه قول الفرزدق : [ الطويل ]
تَميم بْنَ مُرٍّ لا تَكُونَنَّ حاجتي . . . بظهرٍ فَلا يعيى عليَّ جَوابُها{[3770]}
ومنه بالمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا تجعلوني كقدح الراكب{[3771]} . أراد عليه السلام ، لا تجعلوا ذكري وطاعتي خلف أظهركم ، وهو موضع القدح ومنه قول حسان : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كَمَا نِيطَ خلْفَ الراكِبِ الْقَدَحُ الْفَرْدُ {[3772]}
والتشبيه بالقدح إنما هو في هيئته لا في معناه ، لأن الراكب يحتاجه ، ومحله من محلات الراكب جليل ، والثمن القليل : هو مكسب الدنيا . وباقي الآية بين .
قال أبو محمد : والظاهر في هذه الآية أنها نزلت في اليهود ، وهم المعنيون ثم إن كل كاتم من هذه الأمة يأخذ بحظه من هذه المذمة ويتصف بها .
معطوف على قوله : { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ آل عمران : 186 ] فإنّ تكذيب الرسول من أكبر الأذى للمسلمين وإنّ الطعن في كلامه وأحكام شريعته من ذلك كقولهم : { إن الله فقير ونحن أغنياء } [ آل عمران : 181 ] . والقولُ في معنى أخذ الله تقدّم في قوله : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } [ البقرة : 34 ] ونحوه .
و { الذين أوتوا الكتاب } هم اليهود ، وهذا الميثاق أخذ على سلفهم من عهد رسولهم وأنبياِئهم ، وكان فيه ما يدلّ على عمومه لعلماء أمّتهم في سائر أجيالهم إلى أن يجيء رسول .
وجملة { لتبيننه للناس } بيان للميثاق ، فهي حكاية اليمين حين اقترحت عليهم ، ولذلك جاءت بصيغة خطابهم بالمحلوف عليه كما قرأ بذلك الجمهور ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : ليُبيّننّه بياء الغيبة على طريقة الحكاية بالمعنى ، حيث كان المأخوذ عليهم هذا العهد غائبين في وقت الإخبار عنهم . وللعرب في مثل هذه الحكايات وجوه : باعتبار كلام الحاكي ، وكلام المحكي عنه ، فقد يكون فيه وجهان كالمحكي بالقول في نحو : أقسَم زيد لا يفعلُ كذا ، وأقسم لا أفعل كذا ، وقد يكون فيه ثلاثة أوجه : كما في قوله تعالى : { قالوا تقاسموا باللَّه لنبيتنه وأهله } [ النمل : 49 ] قرىء بالنون والتاء الفوقية والياء التحتية لنبيّتنّه لتبيّتنّه ليبيّتنّه ، إذا جعل تقاسموا فعلاً ماضياً فإذا جعل أمراً جاز وجهان : في لنبيّتنّه النون والتاء الفوقية . والقول في تصريف وإعراب { لتبيّننّه } كالقول في { لتبلونّ } المتقدّم قريباً .
وقد أخذ عليهم الميثاق بأمرين : هما بيان الكتاب أي عدم إجمال معانيه أو تحريف تأويله ، وعدمُ كتمانه إي إخفاء شيء منه . فقوله : { ولا تكتمونه } عطف على لتبيننه للناس ولم يقرن بنون التوكيد لأنّها لا تقارن الفعل المنفي لتنافي مقتضاهما .
وقوله : { فنبذوه } عُطف بالفاء الدالّة على التعقيب للإشارة إلى مسارعتهم إلى ذلك ، والذين نبذوه هم علماء اليهود في عصورهم الأخيرة القريبة من عهد الرسالة المحمّدية ، فالتعقيب الذي بين أخذ الميثاق عليهم وبين نبذهم إيّاه منظور فيه إلى مبادرتهم بالنبذ عقب الوقت الذي تحقّق فيه أثر أخذِ الميثاق ، وهو وقت تأهّل كلّ واحد من علمائهم لتبيين الكتاب وإعلانه فهو إذا أنس من نفسه المقدرة على فهم الكتاب والتصرّف في معانيه بادر باتّخاذ تلك المقدرة وسيلة لسوء التأويل والتحريف والكتمان . ويجوز أن تكون الفاء مستعملة في لازم التعقيب ، وهو شدّة المسارعة لذلك عند اقتضاء الحال إيّاه والاهتمام به وصرف الفكرة فيه . ويجوز أن يكون التعقيب بحسب الحوادث التي أساؤوا فيها التأويل واشتروا بها الثمن القليل ، لأنّ الميثاق لمّا كان عامّاً كانت كلّ جزئية مأخوذاً عليها الميثاق ، فالجزئية التي لم يعملوا فيها بالميثاق يكون فيها تعقيب ميثاقها بالنبذ والاشتراء .
والنبذ : الطرح والإلقاء ، وهو هنا مستعار لعدم العمل بالعهد تشبيهاً للعهد بالشيء المنبوذ في عدم الانتفاع به .
ووراء الظُّهور هنا تمثيل للإضاعة والإهمال ، لأنّ شأن الشيء المهتمّ به المتنافس فيه أن يجعل نصب العين ويحرس ويشاهد . قال تعالى : { فإنك بأعيننا } [ الطور : 48 ] . وشأن الشيء المرغوب عنه أن يستدبر ولا يلتفت إليه ، وفي هذا التمثيل ترشيح لاستعارة النبذ لإخلاف العهد .
والضميران : المنصوب والمجرور ، يجوز عودهما إلى الميثاق أي استخفّوا بعهد الله وعوّضوه بثمن قليل ، وذلك يتضمّن أنّهم أهملوا ما واثقوا عليه من تبيين الكتاب وعدم كتمانه ، ويجوز عودهما إلى الكتاب أي أهملوا الكتاب ولم يعتنوا به ، والمراد إهمال أحكامه وتعويض إقامتها بنفع قليل ، وذلك يدلّ على نوعي الإهمال ، وهما إهمال آياته وإهمال معانيه .
والاشتراء هنا مجاز في المبادلة والثمن القليل ، وهو ما يأخذونه من الرُّشَى والجوائز من أهل الأهواء والظلم من الرؤساء والعامّة على تأييد المظالم والمفاسد بالتأويلات الباطلة ، وتأويل كلّ حكم فيه ضرب على أيْدي الجبابرة والظلمة بما يُطلق أيديهم في ظلم الرعيّة من ضروب التأويلات الباطلة ، وتحذيرات الذين يصدعون بتغيير المنكر . وهذه الآية وإن كانت في أهل الكتاب إلاّ أنّ حكمها يشمل من يرتكب مثل صنيعهم من المسلمين لاتّحَاد جنس الحكم والعلّة فيه .