قوله تعالى : { قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } قال ابن عباس : لو لم يقل { سلاماً } لمات إبراهيم من بردها ، ومن المعروف في الآثار أنه لم يبق يومئذ نار في الأرض إلا طفئت ، فلم ينتفع في ذلك اليوم بنار في العالم ، ولو لم يقل على إبراهيم بقيت ذات برد أبداً . قال السدي : فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم فأقعدوه على الأرض ، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس . قال كعب : ما أحرقت النار في إبراهيم إلا وثاقه ، قالوا : وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام . قال المنهال بن عمرو : قال إبراهيم ما كنت قط أياماً قط أنعم مني من الأيام التي كنت فيها في النار . قال ابن يسار : وبعث الله ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد فيها إلى جنب إبراهيم يؤنسه ، قالوا وبعث الله جبريل بقميص من حرير الجنة وطنفسة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه ، وقال جبريل : يا إبراهيم إن ربك يقول لك : أما علمت أن النار لا تضر أحبائي . ثم نظر نمرود وأشرف على إبراهيم من صرح له فرآه جالساً في روضة والملك قاعد إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب ، فناداه : يا إبراهيم كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى ، يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها ؟ قال : نعم ، قال : هل تخشى إن أقمت فيها أن تضرك ؟ قال : لا ، قال : فقم فاخرج منها ، فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها ، فلما خرج إليه قال له : يا إبراهيم من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قاعداً إلى جنبك ؟ قال : ذاك ملك الظل أرسله إلي ربي ليؤنسني فيها ، فقال نمرود : يا إبراهيم إني مقرب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده إني ذابح له أربعة آلاف بقرة ، فقال له إبراهيم : إذاً لا يقبل الله منك ما كنت على دينك حتى تفارقه إلى ديني ، فقال : لا أستطيع ترك ملتي وملكي . ولكن سوف أذبحها فذبحها له نمرود ثم كف عن إبراهيم ، ومنعه الله منه . قال شعيب الجبائي : ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة .
قال الله : [ عز وجل ]{[19696]} { يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } قال : لم{[19697]} يبق نار في الأرض إلا طفئت .
وقال كعب الأحبار : لم ينتفع [ أحد ]{[19698]} يومئذ بنار ، ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه .
وقال الثوري ، عن الأعمش ، عن شيخ ، عن علي بن أبي طالب : { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } [ قال : بَرَدَتْ عليه حتى كادت تقتله ، حتى قيل : { وَسَلامًا } ] {[19699]} ، قال : لا تضرِّيه .
وقال ابن عباس ، وأبو العالية : لولا أن الله عز وجل قال : { وَسَلامًا } لآذى إبراهيم بَرْدُها .
وقال جُوَيبر ، عن الضحاك : { كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } قال : صنعوا له حظيرة من حَطَب جَزْل ، وأشعلوا فيه النار من كل جانب ، فأصبح ولم يصِبه منها شيء حتى أخمدها الله - قال : ويذكرون أن جبريل كان معه يمسح وجهه من العرق ، فلم يُصِبْه منها شيء غيرُ ذلك .
وقال السدي : كان معه فيها ملك الظل .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا مِهْران ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن المِنْهَال بن عمرو قال : أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار ، فقال : كان{[19700]} فيها إما خمسين وإما أربعين ، قال : ما كنت أيامًا وليالي قط أطيب عيشًا إذ كنت فيها ، وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها .
وقال أبو زُرْعَة بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة قال : إن أحسن [ شيء ]{[19701]} قال أبو إبراهيم - لما رفع عنه الطبق وهو في النار ، وجده يرش جبينه - قال عند ذلك : نعْمَ الربّ ربك يا إبراهيم .
وقال قتادة : لم يأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار ، إلا الوَزَغ - وقال الزهري : أمر النبي صلى الله عليه وسلم : بقتله وسماه فويسقًا{[19702]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب ، حدثني عمي ، حدثنا جرير بن حازم ، أن نافعًا حدثه قال : حدثتني مولاة{[19703]} الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت : دخلت على عائشة فرأيت في بيتها رمحا . فقلت : يا أم المؤمنين ، ما تصنعين بهذا الرمح ؟ فقالت : نقتل به هذه الأوزاغ ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن إبراهيم حين ألقي في النار ، لم يكن{[19704]} في الأرض دابة إلا تطفئ النار ، غير الوَزَغ ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم " ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله{[19705]} .
وقد قيل لها { كوني برداً وسلاماً } فاحترق الحبل الذي ربط به فقط .
وروي أن جبريل عليه السلام جاءه وهو في الهواء فقال له ألك حاجة فيروى أنه قال أما إليك فعلا .
ويروى أنه قال إني خليل وإنما أطلب حاجتي من خليلي لا من رسوله فقال الله تعالى : يا إبراهيم قطعت الواسطة بيني وبينك لأقطعنها بيني وبين النار ، يا نار .
وروي أنه حين خوطبت النار خمدت كل نار في الأرض .
وروي أن الغراب كان ينقل الحطب إلى نار إبراهيم .
وروي أن الوزغة{[3]} كانت تنفخ عليه لتضرم وكذلك البغل .
وروي أن العضرفوط والخطافة{[4]} والضفدع كانوا ينقلون الماء لتطفأ النار فأبقى الله على هذه الوقاية وسلط الله على تلك الأخرى النوائب والأيدي وقال بعض العلماء إن الله تعالى لو لم يقل { وسلاماً } لهلك إبراهيم من برد النار .
قال القاضي أبو محمد : وقد أكثر الناس في قصص حرق إبراهيم وذكروا تحديد مدة بقائه في النار وصورة بقائه ما رأيت اختصاره لقلة صحته ، والصحيح من ذلك أنه ألقي في النار فجعلها الله تعالى عليه { برداً وسلاماً } فخرج منها سالماً وكانت أعظم آية .
وروي انهم قالوا إنها نار مسحورة لا تحرق فرموا فيها شيخاً منهم فاحترق .
وروي أن العيدان أينعت وأثمرت له هنالك ثمارها التي كانت أُصولها ، وقوله { وسلاماً } معناه وسلامة ، وقال بعضهم هي تحية من الله تعالى لإبراهيم ( ع ) : وهذا ضعيف وكان الوجه أن يكون مرفوعاً .
جملة { قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } مفصولة عن التي قبلها إما لأنها وقعت كالجواب عن قولهم { حرقوه } فأشبهت جمل المحاورة ، وإما لأنها استئناف عن سؤال ينشأ عن قصة التآمر على الإحراق . وبذلك يتعين تقدير جملة أخرى ، أي فألقَوْه في النار قلنا : { يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } . وقد أظهر الله ذلك معجزة لإبراهيم إذ وَجّه إلى النار تعلّقَ الإرادة بسلب قوة الإحراق ، وأن تكون برداً وسلاماً إن كان الكلام على الحقيقة ، أو أزال عن مزاج إبراهيم التأثر بحرارة النار إن كان الكلام على التشبيه البليغ ، أي كوني كبرد في عدم تحريق الملقَى فيككِ بحَرّك .
وأما كونها سلاماً فهو حقيقة لا محالة ، وذِكر { سلاماً } بعد ذكر البرد كالاحتراس لأن البرد مؤذ بدوامه ربما إذا اشتد ، فعُقب ذكره بذكر السلام لذلك . وعن ابن عباس : لو لم يقل ذلك لأهلكته ببَردها . وإنما ذكر { برداً } ثمّ أتبع ب { سلاماً } ولم يقتصر على { برداً } لإظهار عجيب صنع القدرة إذ صيّر النار برداً .
و { على إبراهيم } يتنازعه { برداً وسلاماً } . وهو أشد مبالغة في حصول نفعهما له ، ويجوز أن يتعلق بفعل الكون .