اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡنَا يَٰنَارُ كُونِي بَرۡدٗا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ} (69)

فصل{[28952]}

قال أبو مسلم الأصفهاني في تفسير قوله { قُلْنَا يَا نَارُ } المعنى : أنه سبحانه وتعالى جعل النار برداً وسلاماً لا أنَّ هناك كلاماً{[28953]} كقوله : { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }{[28954]} أي : يكونه . واحتج عليه بأن النار جماد فلا يجوز خطابه .

والأكثرون على انه وجد ذلك القول ، ثم هؤلاء قولان :

أحدهما : قال السُّديِّ : القائل هو جبريل .

والثاني : قول الأكثرين إنَّ القائل هو الله تعالى ، وهو الأقرب الأليق بالظاهر . وقوله : النار جماد فلا يكون في خطابها فائدة .

فالجواب : لِمَ لا يجوز أن يكون المقصود من ذلك الأمر مصلحة عائدة إلى الملائكة .

فصل{[28955]}

اختلفوا في كيفية برد النار . فقيل : إن الله تعالى أزال ما فيها من الحرارة والإحراق ، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق ، والله على كل شيء قدير .

وقيل : إنه تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول النار إليه كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة ، وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة{[28956]} المحماة ، وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار . وقيل : إنه خلق بينه وبين النار حائلاً يمنع من وصول أثر النار إليه .

قال المحققون : والأول أولى ، لأنَّ ظاهر قوله : { يا نار كُونِي بَرْداً } أي نفس النار صارت باردة حتى سلم إبراهيم من تأثيرها . فإن قيل : النار إن بقيت كما كانت ، والحرارة جزء من مسمى النار ، وامتنع كون النار باردة ، فإذن يجب أن يقال : المراد من النار الجسم الذي هو أحد أجاء مسمى النار ، وذلك مجاز فلم كان مجازكم أولى . فالجواب : أن المجاز الذي ذكرناه يبقى معه حصول البرد وفي الذي ذكرتم لا يبقى ذلك ، فكان مجازنا أولى{[28957]} .

فصل{[28958]}

معنى كون النار سلاماً على إبراهيم : أنَّ البرد إذا أفرط{[28959]} أهلك كالحر فلا بُدّ من الاعتدال ، وهو من وجوه :

الأول : أن يقدر الله بردها بالمقدار الذي لا يؤثر .

والثاني : أنَّ بعض النار صار برداً وبقي بعضها على حرارته فتعادل الحر والبرد .

والثالث : أنه تعالى جعل في جسمه مزيدَ حرٍّ فانتفع بذلك البرد وَالتَذَّ بهِ{[28960]} .

فصل{[28961]}

روي أنّ كلّ النيران في ذلك الوقت زالت وصارت برداً ، ويؤيد ذلك أنَّ النار اسم للماهية ، فر بُدّ وأنْ يحصل هذا البرد في الماهية ويلزم منه عمومه في كل أفراد الماهية وقيل : بل اختصت بتلك النار ، لأنّ الغرض إنما تعلق ببرد تلك النار ، وفي النار منافع للخلق فلا يجوز تعطيلها ، والمراد خلاص إبراهيم لا إيصال الضرر إلى سائر الخلق .

فإن قيل : أفيجوز ما روي من أنه لو لم يقل «وَسَلاَماً » لأتى البرد عليه . قال ابن الخطيب : ذلك بعيد ، لأنَّ برد النار لم يحصل منها وإنما حصل من جهة الله تعالى{[28962]} فهو القادر على الحر والبرد ، فلا يجوز أن يقال : كان البرد يعظم لولا قوله : «سَلاَماً »{[28963]} .


[28952]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/188-189.
[28953]:في النسختين كلام. والصواب ما أثبته.
[28954]:من قوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82].
[28955]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/189.
[28956]:في ب: الحديد.
[28957]:انظر الفخر الرازي 22/189.
[28958]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/189.
[28959]:في الأصل: فرط.
[28960]:في الأصل: وانتفع به.
[28961]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/189.
[28962]:تعالى: سقط من الأصل.
[28963]:الفخر الرازي:22/189.