ثم قال تعالى ذكره : { قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم }[ 68 ] .
في الكلام حذف ، والتقدير : فأوقدوا له نارا{[46083]} ، وألقوه فيها ، فقلنا يا نار كوني بردا وسلاما .
قال السدي{[46084]} : حبسوه في بيت ، وجمعوا له حطبا ، حتى إن كانت المرأة{[46085]} لتمرض ، فتقول : إن عافاني الله ، لأجمعن حطبا لإبراهيم . فلما جمعوا وأكثروا ، بنوا بنيانا وأوقدوا النار حتى أن الطير لتمر بها فتحترق من شدة وهجها وحرها . ثم عمدوا إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم ، فَرَفعوه على رأس البنيان ، فرفع إبراهيم عليه السلام رأسه إلى السماء فقالت السماء والأرض والجبال والملائكة : ربنا إبراهيم يحرق فيك . فقال جل عز : أنا أعلم به ، وإن دعاكم فأغيثوه{[46086]} . وقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين رفع رأسه إلى/السماء : اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس في الأرض من يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل . فقذفوه في النار فناداها ( يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) . فكان جبريل ، هو الذي ناداها ) .
وقال أرقم{[46087]} ( إن{[46088]} إبراهيم عليه السلام حين جعلوا يوثقونه ليلقوه في النار قال : لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين ، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ) .
قال كعب : ( ما انتفع أحد من أهل الأرض ، يومئذ بنار ، ولا أحرقت النار يومئذ شيئا إلا وثاق إبراهيم عليه السلام{[46089]} .
قال ابن عباس : ( لو لم يتبع{[46090]} بدرها سلاما لمات إبراهيم من بردها . فلم تبق يومئذ نار في الأرض{[46091]} إلا طفئت ظنت أنها هي تعنى{[46092]} . فلما طفئت النار ، نظروا إلى إبراهيم عليه السلام ، فإذا هو ورجل آخر معه ، وإذا رأس إبراهيم صلى الله عليه وسلم في حجره يمسح عن وجهه العرق . وذكر{[46093]} أن ذلك الرجل هو ملك الظل . وأنزل الله تعالى نارا فانتفع بها بنو آدم وأخرجوا إبراهيم صلى الله عليه وسلم فأدخلوه على الملك نمرود ولم يكن قبل ذلك دخل عليه ){[46094]} .
قال كعب : ما أحرقت النار منه إلا وثاقه{[46095]} .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( لولا أنه قال : ( وسلاما ) لقتله بردها ){[46096]} .
قال بكر بن عبد الله{[46097]} : لما أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار ، قالت الخليقة : يا رب ، خليلك يلقى في النار ؟ فأذن لنا حتى ننصره . فقال الله عز وجل : هو خليلي ، ليس لي خليل غيره . وأنا إلهه ليس له إله غيري{[46098]} ، فإن استغاث بكم فأغيثوه . فجاء ملك القطر فقال : يا رب ، إئذن لي فلأطفينها عنه . فقال الله عز وجل هو خليلي ليس لي خليل غيره ، وأنا إلهه ، ليس له إله{[46099]} غيري إن استغاث بك فأغثه . فقال الله عز وجل : { قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم } . فما أحرقت ذلك اليوم عراكا{[46100]} .
وقال قتادة : ( كانت الدواب كلها تطفئ عن إبراهيم النار إلا الوزغ ){[46101]} .
وروي{[46102]} عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما كنت أياما قط أنعم مني{[46103]} من الأيام التي كنت فيها في النار .
ولما رفع عن إبراهيم الطبق{[46104]} ورآه والده{[46105]} يرشح جبينه ، قال عند ذلك : نعم الرب ربك يا إبراهيم ، فكان ذلك أحسن شيء قاله : أبو إبراهيم{[46106]} .
قال{[46107]} : ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين ، وكان مذبحه من بيت إيليا على ميلين ولما علمت سارة بما أراد بإسحاق بطنت{[46108]} يومين وماتت في اليوم الثالث{[46109]} .
وروى معتمر بن سليمان{[46110]} أن جبريل صلى الله عليه وسلم لما جاء إبراهيم وهو يوثق ويقمط{[46111]} ليلقى في النار . قال يا إبراهيم : ألك حاجة ؟ قال : أما إليك ، فلا .
ويروى أن إبراهيم كان في زمان نمرود ، فلما كسر إبراهيم صلى الله عليه وسلم أصنامهم كما قص{[46112]} الله علينا في كتابه بنى نمرود بناء طوله ثمانون ذراعا في عرضه أربعون{[46113]} ذراعا ، وأوقد فيه النيران ، ثم جعل إبراهيم في منجنيق فقذف به في النار ، فقال الله جل ذكره للنار كوني بردا وسلاما على إبراهيم فبردت ذلك اليوم ، فلم ينتفع بها أحد . ولولا ما قال تعالى { وسلاما } لآذت إبراهيم ببردها .
وروي{[46114]} أن جبريل عليه السلام أتى إبراهيم وهو في المنجنيق ، فقال يا إبراهيم ، سلني حوائجك ، إن كنت تريد أن أجعل الأرض عليهم عاليها سافلها فعلت . فقال إبراهيم عليه السلام : إني رفعت حوائجي إلى الله ، ولست أسأل أحدا غيره . فقال جبريل صلى الله عليه وسلم : لو كان ينبغي لله أن يتخذ خليلا ، لاتخذك خليلا . فاتخذ الله إبراهيم خليلا ، فلما رمي إبراهيم في النار ، أشرف نمرود ينظر إلى النار فرأى فيها عدة يذهبون ويجيئون ، فدعا حاجبه ، وفتح بابه ، وأدخل عليه أشراف قومه فقال لهم : كم طرحتم في النار ؟ فقالوا : إبراهيم وحده . قال فهو هذا معه عدة{[46115]} قد صار الجحيم عليهم مثل الأرض ، فركب نمرود حتى أتى النار فصاح : يا إبراهيم ، فقال إبراهيم{[46116]} : ما تشاء . قال : إنك لحي ، قال نعم والحمد لله . قال : فمن هؤلاء النفر معك ؟ قال : ملائكة ربي . قال : تقدر أن تخرج ؟ قال : نعم . قال : فاخرج . فانفرج/له الجحيم فخرج صلى الله عليه وسلم وقد زاده الله جمالا ونورا . فقال نمرود : إنك لكريم على ربك . فقال إبراهيم : كذا هو لمن{[46117]} أطاعه . فقال نمرود : أتراني إن تقربت{[46118]} إليه بقربان يقبله مني ؟ فقال إبراهيم : إنما يتقبل الله من المتقين . فذبح نمرود أربعة آلاف كبش . فأكل الناس منها حتى أكل الطير{[46119]} والسباع والهوام . ثم قال يا إبراهيم أرني جند ربك الذي{[46120]} تهددني بهم فقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم : اللهم أره أضعف جندك . فنزلت سحابة فقال إبراهيم : في هذه جند ربي فقال : أرينهم . فانتشر منها بعوض فما برح نمرود حتى رأى عظام من حضر من أصحابه ، وعظام{[46121]} خيلهم قد أكلتهم البعوض إلا العظام .
ثم وقعت واحدة في شفة نمرود السفلى فصاح حتى أمر بها فقطعت ، فارتفعت إلى شفته العليا ، فاستغاث فقطعت ، ثم دخلت في منخره ، فما كان يهدأ ليلا ولا نهارا . وكان يضرب رأسه بمرزبة من حديد ، فأقام في ذلك أربع مائة سنة .
وقال الحسن : لما ألقي إبراهيم صلى الله عليه وسلم في النار ، لم يؤذه حرها ، فقالوا : سحرها فما لها حر .
ويروى أنهم بنوا له بنيانا ارتفاعه أربعون ذراعا وطوله على وجه الأرض ثمانون ذراعا ، فأوقدوا فيه النار ، ووضعوا إبراهيم عليه السلام في المنجنيق وألقوه في الجحيم ، فقال الله تعالى للنار : كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، ولو لم يقل تعالى ذكره ( وسلاما ) لمات إبراهيم من البرد في وسط النار ، فكان إبراهيم جالسا في النار على زرابية من الجنة .
قال الحسن : فلما رأوه لا يؤذيه حرها ، قالوا : سحرها . فقال لهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم : جربوها برجل منكم . فألقوا{[46122]} فيها رجلا فأكلته .
ويروى عنه أنه قال : لما أوثقوه ليلقوه في النار ، قال : لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك .
وذكر الشعبي عن عبد الله بن عمر أنه قال : لما ألقي{[46123]} إبراهيم في البنيان والنار ، قال حسبي الله ونعم الوكيل . فقال الله : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم .
وقال زيد بن أسلم : قال إبراهيم حين أرادوا أن يلقوه في النار : اللهم أنت{[46124]} إلهي ، الواحد في السماء وأنا عبدك الواحد في الأرض حسبي الله ونعم الوكيل . فقال الله تعالى للنار : كوني بردا وسلاما على إبراهيم .