إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قُلۡنَا يَٰنَارُ كُونِي بَرۡدٗا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ} (69)

{ قُلْنَا يا نار كُونِي بَرْداً وسلاما على إبراهيم } أي كوني ذاتَ بردٍ وسلامٍ أي ابرُدي برداً غيرَ ضارّ وفيه مبالغات : جعلُ النارِ المسخرةِ لقدرته تعالى مأمورةً مطاوِعةً وإقامةَ كوني ذاتَ بردٍ مقامَ ابردي ، ثم حذفُ المضافِ وإقامةُ المضاف إليه مُقامَه ، وقيل : نصب سلاماً بفعله أي وسلمنا عليه . روي أن الملائكة أخذوا بضَبْعَي{[540]} إبراهيمَ وأقعدوه على الأرض فإذا عينُ ماءٍ عذبٍ ووردٌ أحمرُ ونرجسٌ ولم تحرِق النارُ إلا وَثاقه ، وروي أنه عليه السلام مكث فيها أربعين يوماً أو خمسين وقال : ما كنت أطيبَ عيشاً مني إذ كنت فيها ، قال ابن يسار : وبعث الله تعالى ملَكَ الظل فقعد إلى جنبه يؤنسه ، فنظر نمرودُ من صَرْحه فأشرف عليه فرآه جالساً في روضة مُونِقة ومعه جليسٌ على أحسن ما يكون من الهيئة والنارُ محيطةٌ به ، فناداه : يا إبراهيمُ هل تستطيع أن تخرج منها ؟ قال : نعم ، قال : فقم فاخرُج ، فقام يمشي فخرج منها فاستقبله نمرودُ وعظّمه وقال : مَن الرجلُ الذي رأيته معك ؟ قال : ذلك ملَك الظلّ أرسله ربي ليؤنسني ، فقال : إني مقرِّبٌ إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك ، فقال عليه السلام : لا يقبل الله منك ما دمت على دينك هذا ، قال : لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبح له أربعةَ آلافِ بقرة ، فذبحها وكف عن إبراهيم عليه السلام وكان إذا ذاك ابنَ ستَّ عشْرةَ سنة . وهذا كما ترى من أبدع المعجزات فإن انقلابَ النار هواء طيباً وإن لم يكن بدعاً من قدرة الله عز وجل لكن وقوعَ ذلك على هذه الهيئة مما يخرِق العاداتِ ، وقيل : كانت النار على حالها لكنه تعالى دفع عنه عليه السلام أذاها كما تراه في السَّمَنْدل{[541]} كما يشعر به ظاهرُ قوله تعالى : { على إبراهيم } .


[540]:الضبع: ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاها، وهما ضبعان.
[541]:السمندل: طائر بالهند زعموا أن النار لا تحرقه. وقال بعضهم: إنه معرب سمندور، وهو مركب من سام أي نار، ومن اندرون أي داخل.