البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُلۡنَا يَٰنَارُ كُونِي بَرۡدٗا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ} (69)

البرد : مصدر برد ، يقال : برد الماء حرارة الجوف يبردها .

قال الشاعر :

وعطل قلوصي في الركاب فإنها *** ستبرد أكباداً وتبكي بواكيا

وروي أنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتاً كالحظيرة بكوثى واختلفوا في عدة حبسه وفي عرض الحظيرة وطولها ، ومدة جمع الحطب ، ومدة الإيقاد ، ومدة سنه إذ ذاك ، ومدة إقامته في النار وكيفية ما صارت أماكن النار اختلافاً متعارضاً تركنا ذكره واتخذوا منجنيقاً .

قيل : بتعليم إبليس إذ كان لم يصنع قبل فشد إبراهيم رباطاً ووضع في كفة المنجنيق ورمى به فوقع في النار .

وروي أن جبريل عليه السلام جاءه وهو في الهواء فقال : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا ، وذكر المفسرون أشياء صدرت من الوزغ والبغل والخطاف والضفدع والعضرفوط الله أعلم بذلك .

وعن ابن عباس : إنما نجا بقوله حسبي الله ونعم الوكيل .

قيل : وأطل نمروذ من الصرح فإذا إبراهيم في روضة ومعه جليس له من الملائكة فقال إني مقرب إلى آلهك فذبح أربعة آلاف بقرة .

وكف عن إبراهيم ، وكان إبراهيم إذ ذاك ابن ست عشرة سنة ، وقد أكثر الناس في حكاية ما جرى لإبراهيم والذي صح هو ما ذكره تعالى من أنه ألقي في النار فجعلها الله عليه { برداً وسلاماً } وخرج منها سالماً فكانت أعظم آية والظاهر أن القائل { قلنا يا نار } هو الله تعالى .

وقيل : جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى .

وعن ابن عباس : لو لم يقل : { وسلاماً } لهلك إبراهيم من البرد ، ولو لم يقل على إبراهيم لما أحرقت نار بعدها ولا اتقدت انتهى .

ومعنى { وسلاماً } سلامة ، وأبعد من ذهب إلى أنها هنا تحية من الله ولو كانت تحية لكان الرفع أولى بها من النصب .

والمعنى ذات برد وسلام فبولغ في ذلك كان ذاتها برد وسلام ، ولما كانت النار تنفعل لما أراده الله منها كما ينفعل من يعقل عبر عن ذلك بالقول لها والنداء والأمر .

قال الزمخشري : فإن قلت : كيف بردت النار وهي نار ؟ قلت : نزع الله عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق وأبقاها على الإضاءة والإشراق والاشتعال ، كما كانت والله على كل شيء قدير ، ويجوز أن يدفع بقدرته عن جسم إبراهيم أدنى حرها ويذيقه فيها عكس ذلك كما يفعل بخزنة جهنم ، ويدل عليه قوله { على إبراهيم } انتهى .

وروي أنهم قالوا هي نار مسجورة لا تحرق فرموا فيها شيخاً منهم فاحترق