خلقكم - أيها الناس - من نفس واحدة - هو آدم أبو البشر - وخلق من هذه النفس زوجها حواء ، وأنزل لصالحكم ثمانية أنواع من الأنعام ذكراً وأنثى : وهي الإبل والبقر والضأن والماعز ، يخلقكم في بطون أمهاتكم طوراً من بعد طور في ظلمات ثلاث : هي ظلمة البطن والرحم والمشيمة ، ذلكم المنعم بهذه النعم هو الله مربيكم ومالك أمركم ، له - لا لغيره - الملك الخالص ، لا معبود بحق إلا هو ، فكيف يعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره ؟ .
قوله تعالى : { خلقكم من نفس واحدة } يعني : آدم . { ثم جعل منها زوجها } يعني حواء . { وأنزل لكم من الأنعام } معنى الإنزال هاهنا الإحداث والإنشاء . كقوله تعالى :{ أنزلنا عليكم لباساً يواري } ( الأعراف-26 ) . وقيل : إنه أنزل الماء الذي هو سبب نبات القطن الذي يكون منه اللباس ، وسبب النبات الذي تبقى به الأنعام ، وقيل :{ وأنزل لكم من الأنعام } جعلها لكم نزلاً ورزقاً { ثمانية أزواج } أصناف مر تفسيرها في سورة الأنعام . { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق } نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، كما قال الله تعالى :{ وقد خلقكم أطواراً } ( نوح-14 ) { في ظلمات ثلاث } قال ابن عباس : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة { ذلكم الله } أي : الذي خلق هذه الأشياء { ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون } عن طريق الحق بعد هذا البيان .
ومن عزته أن { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } على كثرتكم وانتشاركم ، في أنحاء الأرض ، { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } وذلك ليسكن إليها وتسكن إليه ، وتتم بذلك النعمة . { وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ } أي : خلقها بقدر نازل منه ، رحمة بكم . { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } وهي التي ذكرها في سورة الأنعام { ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين } { ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين }
وخصها بالذكر ، مع أنه أنزل لمصالح عباده من البهائم غيرها ، لكثرة نفعها ، وعموم مصالحها ، ولشرفها ، ولاختصاصها بأشياء لا يصلح غيرها ، كالأضحية والهدي ، والعقيقة ، ووجوب الزكاة فيها ، واختصاصها بالدية .
ولما ذكر خلق أبينا وأمنا ، ذكر ابتداء خلقنا ، فقال : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ } أي : طورا بعد طور ، وأنتم في حال لا يد مخلوق تمسكم ، ولا عين تنظر إليكم ، وهو قد رباكم في ذلك المكان الضيق { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ } ظلمة البطن ، ثم ظلمة الرحم ، ثم ظلمة المشيمة ، { ذَلِكُمْ } الذي خلق السماوات والأرض ، وسخر الشمس والقمر ، وخلقكم وخلق لكم الأنعام والنعم { اللَّهُ رَبُّكُمْ } أي : المألوه المعبود ، الذي رباكم ودبركم ، فكما أنه الواحد في خلقه وتربيته لا شريك له في ذلك ، فهو الواحد في ألوهيته ، لا شريك له ، ولهذا قال : { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } .
وقوله : { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي : خلقكم مع اختلاف أجناسكم وأصنافكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة ، وهو آدم عليه السلام { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ، وهي حواء ، عليهما السلام ، كقوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً } [ النساء : 1 ] .
وقوله : { وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } أي : وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية ، أزواج وهي المذكورة في سورة الأنعام : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } [ الأنعام : 143 ] ، { وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ } [ الأنعام : 144 ] .
وقوله : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ } أي : قدركم في بطون أمهاتكم { خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ } أي : يكون أحدكم أولا نطفة ، ثم يكون علقة ، ثم يكون مضغة ، ثم يخلق فيكون لحما وعظما وعصبا وعروقا ، وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر ، { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [ المؤمنون : 14 ] .
وقوله : { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ } يعني : ظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة التي هي كالغشاوة والوقاية على الولد - وظلمة البطن . كذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأبو مالك ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد وغيرهم .
وقوله : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ } أي : هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وخلقكم وخلق آباءكم ، هو الرب له الملك والتصرف في جميع ذلك ، { لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي : الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده ، { فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } أي : فكيف تعبدون معه غيره ؟ أين يُذْهَبُ بعقولكم ؟ ! .
«النفس الواحدة » المرادة في الآية هي نفس آدم عليه السلام ، قاله قتادة وغيره . ويحتمل أن يكون اسم الجنس .
وقوله تعالى : { ثم جعل } ظاهر اللفظ يقتضي أن جعل الزوجة من النفس هو بعد أن خلق الخلق منها ، وليس الأمر كذلك .
واختلف الناس في تأويل هذا الظاهر ، فقالت فرقة قوله : { خلقكم من نفس واحدة } هو أخذ الذرية من ظهر آدم وذلك شيء كان قبل خلق حواء ، وقالت فرقة : إنما هي لترتيب الأخبار لا لترتيب المعاني . كأنه قال : ثم كان من أمره قبل ذلك أن جعل منها زوجها ، وفي نحو هذا المعنى ينشد هذا البيت [ أبو النواس ] : [ الخفيف ]
قل من ساد ثم ساد أبوه*** ثم قد ساد قبل ذلك جدُّه
وقالت فرقة قوله : { خلقكم من نفس واحدة } عبارة عن سبق ذلك في علم الله تعالى ، فلما كان ذلك أمراً حتماً واقعاً ولا بد ، حسن أن يخبر عن تلك الحال التي كانت وثيقة ، ثم عطف عليها حالة جعل الزوجة منها ، فجاءت معان مترتبة وإن كان خروج خلق العالم من آدم إلى الوجود إنما يجيء بعد ذلك ، وزوج آدم حواء عليهما السلام ، وخلقت من ضلعه القصيري فيما روي ، ويؤيد هذا الحديث الذي فيه : ( أن المرأة خلقت من ضلع ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ) . وقالت فرقة : خلقت حواء من بقية طين آدم والأول أصح ، وقد تقدم شرح ذلك ، وقوله تعالى : { وأنزل لكم } قيل معناه : أن المخلوق الأول من هذه الأنعام خلق في السماء وأهبط إلى الأرض ، وقالت فرقة : بل لما نزل الأمر بخلقه وإيجاده من عند الله ، وكانت العادة في نعم الله ورحمته وأمطاره وغير ذلك أن يقال فيها إنها من السماء عبر عن هذه ب { أنزل } ، وقالت فرقة : لما كانت الأمطار تنزل وكانت الأعشاب والنبات عن المطر ، وكانت هذه الأنعام عن النبات في سمنها ومعاشها ، قال في هذه { أنزل } فهو على التدريج كما قال الراجز :
أسنمة الآبال في ربابه . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكما قال الشاعر [ عمرو بن حبان ] : [ الطويل ]
تعالى الندى في متنه وتحدرا*** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وجعلها { ثمانية } ، لأن كل واحد فيه زوج للذكر من فرعه ، وهي الضأن والمعز والبقر والإبل .
وقوله تعالى : { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث } قال ابن زيد ، معناه : يخلقكم في البطون خلقاً من بعد خلق آخر في ظهر آدم وظهور الآباء . وقال مجاهد وعكرمة والسدي : يخلقكم في البطون رتباً خلقاً من بعد خلق على المضغة والعلقة وغير ذلك .
وقرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف : { يخلقكم } بإدغام القاف في الكاف في جميع القرآن . وقرأ الجمهور : { أُمهاتكم } بضم الهمزة . وقرأ يحيى بن وثاب : بكسرها وهي لغتان .
وقوله : { في ظلمات ثلاث } قالت فرقة : الأولى هي ظهر الأب ، ثم رحم الأم ، ثم المشيمة في البطن . وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : هي المشيمة والرحم والبطن ، وهذه الآيات كلها هي معتبر وتنبيه لهم على الخالق الصانع الذي لا يستحق العبادة غيره ، وهذا كله في رد أمر الأصنام والإفساد لها . ثم قال تعالى لهم : { ذلكم الله ربكم } وقد قامت على ذلك البراهين واتسقت الأدلة { فأنى تصرفون } ، أي من أي جهة تضلون وبأي سبب ؟