قوله تعالى : { قال } الله تعالى
قوله تعالى : { فإنها محرمة عليهم } ، قيل : هاهنا تم الكلام معناه : تلك البلدة محرمة عليهم أبداً ، لم يرد به تحريم تعبد ، وإنما أراد تحريم منع ، فأوحى الله تعالى إلى موسى : لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع وكالب ، ولأتيهنهم في هذه البرية .
قوله تعالى : { أربعين سنة } يتيهون مكان كل يوم من الأيام التي تجسسوا فيها سنة ، ولألقين جيفهم في هذه القفار ، وأما بنوهم الذين لم يعلموا الشر فيدخلونها ، فذلك قوله تعالى : { فإنها محرمة عليهم أربعين سنة } .
قوله تعالى : { يتيهون في الأرض } . يتحيرون .
قوله تعالى : { فلا تأس على القوم الفاسقين } ، أي لا تحزن على مثل هؤلاء القوم ، فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ ، وهم ستمائة ألف مقاتل ، وكانوا يسيرون كل يوم جادين ، فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا عنه . وقيل : إن موسى وهارون عليهما السلام لم يكونا فيهم ، والأصح أنهما كانا فيهم ، ولم يكن لهما عقوبة ، إنما كانت العقوبة لأولئك القوم ، ومات في التيه كل من دخلها ممن جاوز عشرين سنة غير يوشع وكالب ، ولم يدخل أريحاء أحد ممن قالوا { إنا لن ندخلها أبداً } فلما هلكوا وانقضت الأربعون سنة ، ونشأت النواشئ من ذراريهم ، ساروا إلى حرب الجبارين . واختلفوا فيمن تولى تلك الحرب ، وعلى يدي من كان الفتح ، فقال قوم : إنما فتح موسى أريحاء ، وكان يوشع على مقدمته ، فسار موسى عليه السلام إليهم فيمن بقي من بني إسرائيل ، فدخلها يوشع ، فقاتل الجبابرة ، ثم دخلها موسى عليه السلام ، فأقام فيها ما شاء الله تعالى ، ثم قبضه الله تعالى إليه ، ولا يعلم قبره أحد ، هذا أصح الأقاويل لاتفاق العلماء أن عوج بن عنق قتله موسى عليه السلام . وقال الآخرون : إنما قاتل الجبارين يوشع ، ولم يسر إليهم إلا بعد موت موسى عليه السلام ، وقالوا : مات موسى وهارون جميعاً في التيه .
قال السدي : أوحى الله عز وجل إلى موسى أني متوفي هارون فأت به جبل كذا وكذا ، فانطلق موسى وهارون عليهما السلام نحو ذلك الجبل ، فإذا هما بشجرة لم ير مثلها ، وإذا ببيت مبني وفيه سرير عليه فرش ، وإذا فيه ريح طيبة ، فلما نظر هارون إلى ذلك أعجبه ، فقال : يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال : فنم عليه ، فقال : إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب علي ، قال له موسى : لا ترهب ، إني أكفيك أمر رب هذا البيت فنم ، قال : يا موسى نم أنت معي ، فإن جاء رب البيت غضب علي وعليك جميعاً ، فلما ناما أخذ هارون الموت ، فلما وجد مسه قال : يا موسى خدعتني ، فلما قبض رفع البيت ، وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير به إلى السماء ، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل وليس معه هارون قالوا : إن موسى قتل هارون ، وحسده لحب بني إسرائيل له ، فقال موسى عليه السلام : ويحكم ! كان أخي ، فكيف أقتله ! فلما أكثروا عليه قام ، فصلى ركعتين ، ثم دعا الله تعالى ، ونزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : صعد موسى وهارون عليهما السلام الجبل فمات هارون ، فقالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام : أنت قتلته ، فآذوه ، فأمر الله الملائكة فحملوه ، حتى مروا به على بني إسرائيل ، وتكلمت الملائكة بموته ، حتى عرف بنو إسرائيل أنه قد مات ، فبرأه الله تعالى مما قالوا ، ثم إن الملائكة حملوه ، ودفنوه ، فلم يطلع على موضع قبره أحد إلا الرخم ، فجعله الله أصم وأبكم . وقال عمرو بن ميمون : مات هارون قبل موسى عليه السلام في التيه ، وكانا قد خرجا إلى بعض الكهوف ، فمات هارون ، ودفنه موسى ، وانصرف إلى بني إسرائيل ، فقالوا : قتله لحبنا إياه ، وكان محبباً في بني إسرائيل ، فتضرع موسى عليه السلام إلى ربه عز وجل ، فأوحى الله إليه : أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه ، فانطلق بهم إلى قبره ، فناداه موسى ، فخرج من قبره ينفض رأسه ، فقال : أنا قتلتك ؟ قال : لا ، ولكني مت . قال : فعد إلى مضجعك ، وانصرفوا .
وأما وفاة موسى عليه السلام ، قال ابن إسحاق : كان موسى عليه الصلاة والسلام قد كره الموت وأعظمه ، فأراد الله أن يحبب إليه الموت ، فنبأ يوشع بن نون ، فكان يغدو ويروح عليه ، قال : فيقول له موسى عليه السلام : يا نبي الله ، ما أحدث الله إليك ؟ فيقول له يوشع : يا نبي الله ، ألم أصحبك كذا وكذا سنة ؟ فهل كنت أسألك شيئاً مما أحدث الله إليك حتى تكون أنت الذي تبتدئ به وتذكره ؟ ولا يذكر له شيئاً ، فلما رأى ذلك موسى كره الحياة ، وأحب الموت .
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن همام بن منبه ، قال : أخبرنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جاء ملك الموت إلى موسى بن عمران ، فقال له : أجب ربك ، قال : فلطم موسى عليه السلام عين ملك الموت ففقأها ، قال : فرجع ملك الموت إلى الله تعالى فقال : إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني ، قال : فرد الله إليه عينه ، وقال : ارجع إلى عبدي فقل له : الحياة تريد ؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور ، فما وارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة ، قال : ثم مه ؟ قال : ثم تموت . قال : فالآن من قريب ، رب أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر " .
وقال وهب : خرج موسى لبعض حاجته ، فمر برهط من الملائكة يحفرون قبراً لم ير شيئاً قط أحسن منه ، ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة ، فقال لهم : يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر ؟ قالوا : لعبد كريم على ربه ، فقال : إن هذا العبد لمن الله له بمنزلة ، ما رأيت كاليوم مضجعاً ، فقالت الملائكة : يا صفي الله ، تحب أن يكون لك ؟ قال : وددت ، قالوا : فانزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربك ، قال فاضطجع فيه ، وتوجه إلى ربه ثم تنفس أسهل تنفس ، فقبض الله تبارك وتعالى روحه ، ثم سوت عليه الملائكة . وقيل : إن ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها ، فقبض روحه . وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة ، فلما مات موسى عليه السلام وانقضت الأربعون سنة بعث الله يوشع نبياً ، فأخبرهم أن الله قد أمره بقتال الجبابرة ، فصدقوه وتابعوه ، فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحاء ومعه تابوت الميثاق ، فأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر ، فلما كان السابع نفخوا في القرون ، وضج الشعب ضجة واحدة ، فسقط سور المدينة ودخلوا ، فقاتلوا الجبارين وهزموهم ، وهجموا عليهم يقتلونهم ، وكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها حتى يقطعوها ، فكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية ، وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت ، فقال : اللهم اردد الشمس عليّ وقال للشمس : إنك في طاعة الله سبحانه وتعالى وأنا في طاعته ، فسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقيم ، حتى ينتقم من أعداء الله تعالى قبل دخول السبت ، فردت عليه الشمس وزيدت في النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين ، وتتبع ملوك الشام ، فاستباح منهم أحداً وثلاثين ملكاً حتى غلب على جميع أرض الشام ، وصارت الشام كلها لبني إسرائيل وفرق عماله في نواحيها ، وجمع الغنائم ، فلم تنزل النار ، فأوحى الله إلى يوشع أن فيها غلولاً فمرهم فليبايعوك ، فبايعوه ، فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال : هلم ما عندك ؟ فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل باليواقيت والجواهر كان قد غله ، فجعله في القربان ، وجعل الرجل معه ، فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان ، ثم مات يوشع ودفن في جبل إفراثيم ، وكان عمره مائة وستاً وعشرين سنة ، وتدبيره أمر بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام سبعاً وعشرين سنة .
{ قَالَ } الله مجيبا لدعوة موسى : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ } أي : إن من عقوبتهم أن نحرم عليهم دخول هذه القرية التي كتبها الله لهم ، مدة أربعين سنة ، وتلك المدة أيضا يتيهون في الأرض ، لا يهتدون إلى طريق ولا يبقون مطمئنين ، وهذه عقوبة دنيوية ، لعل الله تعالى كفر بها عنهم ، ودفع عنهم عقوبة أعظم منها ، وفي هذا دليل على أن العقوبة على الذنب قد تكون بزوال نعمة موجودة ، أو دفع نقمة قد انعقد سبب وجودها أو تأخرها إلى وقت آخر .
ولعل الحكمة في هذه المدة أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة ، الصادرة عن قلوب لا صبر فيها ولا ثبات ، بل قد ألفت الاستعباد لعدوها ، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها ، ولتظهر ناشئة جديدة تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء ، وعدم الاستعباد ، والذل المانع من السعادة .
ولما علم الله تعالى أن عبده موسى في غاية الرحمة على الخلق ، خصوصا قومه ، وأنه ربما رق لهم ، واحتملته الشفقة على الحزن عليهم في هذه العقوبة ، أو الدعاء لهم بزوالها ، مع أن الله قد حتمها ، قال : { فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } أي : لا تأسف عليهم ولا تحزن ، فإنهم قد فسقوا ، وفسقهم اقتضى وقوع ما نزل بهم لا ظلما منا .
وقوله تعالى : { [ قَالَ ]{[9566]} فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ [ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ]{[9567]} } لما دعا عليهم موسى ، عليه السلام ، حين نكَلُوا عن الجهاد حكم الله عليهم بتحريم دخولها قدرًا مدة أربعين سنة ، فوقعوا في التيه يسيرون دائمًا لا يهتدون للخروج منه ، وفيه كانت أمور عجيبة ، وخوارق كثيرة ، من تظليلهم بالغَمام وإنزال المن والسلوى عليهم ، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء تحمل{[9568]} معهم على دابة ، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة{[9569]} عينا تجري لكل شعب عين ، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران . وهناك أنزلت التوراة ، وشرعت لهم الأحكام ، وعملت قبة العهد ، ويقال لها : قبة الزمان .
قال يزيد بن هارون ، عن أصبغ بن زيد{[9570]} عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير : سألت ابن عباس عن قوله : { فَإِنَّهَا{[9571]} مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ } الآية . قال : فتاهوا في الأرض أربعين سنة ، يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار ، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه ، وأنزل عليهم المن والسلوى وهذا قطعة من حديث " الفتون " ، ثم كانت وفاة هارون ، عليه السلام ، ثم بعده بمدة ثلاثة سنين مات موسى الكليم ، عليه السلام ، وأقام الله فيهم " يوشع بن نون " عليه السلام ، نبيا خليفة عن موسى بن عمران ، ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة ، ويقال : إنه لم يبق منهم أحد سوى " يوشع " و " كالب " ، ومن هاهنا قال بعض المفسرين في قوله : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } هذا وقف تام ، وقوله : { أَرْبَعِينَ سَنَةً } منصوب بقوله : { يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ } فلما انقضت المدة خرج بهم " يوشع بن نون " عليه السلام ، أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني ، فقصد{[9572]} بهم بيت المقدس فحاصرها ، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر ، فلما تَضَيَّفَتِ الشمس للغروب ، وخَشي دخول السبت عليهم قال{[9573]} " إنك مأمورة وأنا مأمور ، اللهم احبسها عليَّ " ، فحبسها الله تعالى حتى فتحها ، وأمر الله " يوشع بن نون " أن يأمر بني إسرائيل ، حين يدخلون بيت المقدس ، أن يدخلوا بابها سُجّدا ، وهم يقولون : حطّة ، أي : حط عنا ذنوبنا ، فبدلوا ما أمروا به ، فدخلوا{[9574]} يزحفون على أستاههم ، وهم يقولون : حَبَّة في شَعْرة ، وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي عمر العَدَنِيُّ ، حدثنا سفيان ، عن أبي سعيد ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قوله : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ } قال : فتاهوا أربعين سنة ، فهلك موسى وهارون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة ، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم " يوشع بن نون " ، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى ، وهو الذي افتتحها ، وهو الذي قيل له : " اليوم يوم الجمعة " فهَمُّوا بافتتاحها ، ودنت{[9575]} الشمس للغروب ، فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا ، فنادى الشمس : " إني مأمور وإنك مأمورة " فوقفت حتى افتتحها ، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط ، فقربوه إلى النار فلم تأت فقال : فيكم الغلول ، فدعا رءوس الأسباط ، وهم اثنا عشر رجلا فبايعهم ، والتصقت يد رجل منهم بيده ، فقال : الغلول عندك ، فأخرجه فأخرج رأس بقرة من ذهب ، لها عينان من ياقوت ، وأسنان من لؤلؤ ، فوضعه مع القربان ، فأتت النار فأكلتها .
وهذا السياق له شاهد في الصحيح . وقد اختار ابن جرير أن قوله : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } هو العامل في " أربعين سنة " ، وأنهم مَكَثوا لا يدخلونها أربعين سنة ، وهم تائهون في البرية لا يهتدون لمقصد . قال : ثم خرجوا مع موسى ، عليه السلام ، ففتح بهم بيت المقدس . ثم احتج على ذلك قال : بإجماع علماء أخبار الأولين أن{[9576]} عوج بن عنق " قتله موسى ، عليه السلام ، قال : فلو كان قتله إياه قبل التيه لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق ، فدل على أنه كان بعد التيه . قال : وأجمعوا على أن " بلعام بن باعورا " أعان الجبارين بالدعاء على موسى ، قال : وما ذاك إلا بعد التيه ؛ لأنهم كانوا قبل التيه لا يخافون من موسى وقومه هذا استدلاله ، ثم قال :
حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن عطية ، حدثنا قَيْس ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت عصا موسى عشرة أذرع ، ووثبته عشرة أذرع ، وطوله عشرة أذرع ، فوثب فأصاب كعب " عوج " فقتله ، فكان جسرًا لأهل النيل سنة . {[9577]}
وروي أيضا عن محمد بن بَشّار ، حدثنا مُؤَمَّل ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نَوْف البِكالي قال : كان سرير " عوج " ثمانمائة{[9578]} ذراع ، وكان طول موسى عشرة أذرع ، وعصاه عشرة أذرع ، ووثب في السماء عشرة أذرع ، فضرب " عوجا " فأصاب كعبه ، فسقط ميتا ، وكان جسْرًا للناس يمرون عليه . {[9579]}
وقوله تعالى : { فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } تسلية لموسى ، عليه السلام ، عنهم ، أي : لا تتأسف ولا تحزن عليهم فمهما{[9580]} حكمت عليهم ، به فإنهم يستحقون ذلك .
وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود وبيان فضائحهم ، ومخالفتهم لله ولرسوله ونكولهم عن طاعتهما ، فيما{[9581]} أمرهم{[9582]} به من الجهاد ، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ، ومقاتلتهم ، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان ، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم ، هذا ؛ وقد شاهدوا ما أحل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم ، وهم ينظرون لتَقَرَّ به أعينهم وما بالعهد من قدم ، ثم ينكلون عن مقاتلة{[9583]} أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدّة أهلها وعُدَدهم ، فظهرت{[9584]} قبائح صنيعهم للخاص والعام ، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ، ولا يسترها الذيل ، هذا وهم في{[9585]} جهلهم يعمهون ، وفي غَيِّهم يترددون ، وهم البُغَضَاء إلى الله وأعداؤه ، ويقولون مع ذلك : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] فقبح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود ، وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود ، ويقضي لهم فيها بتأبيد الخلود ، وقد فعل وله الحمد من{[9586]} جميع الوجود .
{ قال فإنها محرمة } المعنى قال الله ، وأضمر الفاعل في هذه الأفعال كلها إيجازاً لدلالة معنى الكلام على المراد ، وحرم الله تعالى على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة { أربعين سنة } وتركهم خلالها { يتيهون في الأرض } أي في أرض تلك النازلة ، وهو فحص التيه وهو على ما يحكى طول ثمانين ميلاً في عرض ستة فراسخ ، وهو ما بين مصر والشام ، ويروى أنه اتفق أن مات كل من كان قال إنّا لن ندخلها أبداً ، ولم يدخل المدينة أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالوث ، ويروى أن هارون عليه السلام مات في فحص التيه في خلال هذه المدة ولم يختلف في هاذا ، وروي أن «موسى » عليه السلام مات فيه بعد هارون بثمانية أعوام ، وقيل بستة أشهر ونصف ، وأن يوشع نبيء بعد كمال «الأربعين سنة » وخرج ببني إسرائيل وقاتل الجبارين وفتح المدينة ، وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين{[4506]} ، وروي أن «موسى » عليه السلام عاش حتى كملت الأربعون وخرج بالناس وحارب الجبارين ويوشع وكالب على مقدمته ، وأنه فتح المدينة وقتل بيده عوج بن عناق ، يقال كان في طول «موسى » عشرة أذرع وفي طول عصاه عشرة أذرع ، وترامى من الأرض في السماء عشرة أذرع ، وحينئذ لحق كعَب عوج فضربه بعصاه في كعبه فخر صريعاً ، ويروى أن عوجاً اقتلع صخرة ليطرحها على عسكر بني إسرائيل فبعث الله هدهداً بحجر الماس فأداره على الصخرة فتقورت ودخلت في عنق عوج ، وضربه «موسى » فمات ، وحكى الطبري أن طول عوج ثمانمائة ذراع ، وحكي عن ابن عباس أنه قال : لما خر كان جسراً على النيل سنة .
قال القاضي أبو محمد : والنيل ليس في تلك الأقطار وهذا كله ضعيف والله أعلم ، وحكى الزجاج عن قوم أن «موسى » وهارون لم يكونا في التيه ، والعامل في { أربعين } يحتمل أن يكون { محرمة } ، أي حرمت عليهم { أربعين سنة ويتيهون في الأرض } هذه المدة ثم تفتح عليهم ، أدرك ذلك من أدركه ومات قبله من مات . وخطأ أبو إسحاق أن يكون العامل { محرمة } ، وذلك منه تحامل ، ويحتمل أن يكون العامل { يتيهون } مضمراً يدل عليه { يتيهون } المتأخر ، ويكون قوله إنها محرمة إخبار مستمر تلقوا منه أن المخاطبين لا يدخلونها أبداً ، وأنهم مع ذلك «يتيهون في الأرض أربعين سنة » يموت فيها من مات .
قال القاضي أبو محمد : كأنه لم يعش المكلفون ، أشار إلى ذلك الزجاج ، والتيه : الذهاب في الأرض إلى غير مقصد معلوم{[4507]} ، ويروى أن بني إسرائيل كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع في تحليق ونحوه من التردد وقلة استقامة السير ، حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي كانوا فيه أول الليل ، وقال مجاهد وغيره كانوا يسيرون النهار أحياناً والليل أحياناً فيمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا ، وذلك في مقدار ستة فراسخ .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة وقلة اجتماع الرأي ، وإن الله تعالى رماهم بالاختلاف وعلموا أنها قد حرمت عليهم «أربعين سنة » . فتفرقت منازلهم في ذلك الفحص ، وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع ، حتى كملت هذه المدة وأذن الله بخروجهم وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر . والآخر الذي ذكر مجاهد إنما هو خرق عادة وعجب من قدرة الله تعالى ، وفي ذلك التيه ظلل عليهم الغمام ورزقوا المن والسلوى إلى غير ذلك مما روي من ملابسهم ، وقد مضى ذلك في سورة البقرة . وقوله تعالى : { فلا تأس على القوم الفاسقين } معناه فلا تحزن يقال أسى : الرجل يأسى أسى إذا حزن ومنه قول امرىء القيس :
وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيهم . . . يقولون لا تهلك أسى وتجمل
فقلت لهم إن الأسى يبعث الأسى . . . دعوني فهذا كله قبر مالك
والخطاب بهذه الآية لموسى عليه السلام ، قال ابن عباس ندم «موسى » على دعائه على قومه وحزن عليهم ، فقال له الله : { فلا تأس على القوم الفاسقين } وقال قوم من المفسرين الخطاب بهذه الألفاظ لمحمد صلى الله عليه وسلم ويراد ب { الفاسقين } معاصروه ، أي هذه أفعال اسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك ، وردهم عليك ، فإنه سجية خبيثة موروثة عندهم .