120- ما كان يحل لأهل المدينة ، ومن يجاورونهم من سكان البوادي ، أن يتخلفوا عن الغزو مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ، ولا أن يضنوا بأنفسهم عما بذل الرسول فيه نفسه ، إذ أنهم لا يصيبهم في سبيل اللَّه ظمأ أو تعب أو جوع ، ولا ينزلون مكاناً يثير وجودهم فيه غيظ الكفار ، ولا ينالون من عدو غرضا كالهزيمة أو الغنيمة إلا حُسِب لهم بذلك عمل طيب يجزون عليه أحسن الجزاء ، وإن اللَّه لا يضيع أجر الذين أحسنوا في أعمالهم .
قوله تعالى : { ما كان لأهل المدينة } ظاهره خبر ، ومعناه نهي ، كقوله تعالى : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } [ الأحزاب -53 ] { ومن حولهم من الأعراب } ، سكان البوادي : مزينة ، وجهينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار . { أن يتخلفوا عن رسول الله } ، إذا غزا . { ولا يرغبوا } ، أي : ولا أن يرغبوا ، { بأنفسهم عن نفسه } ، في مصاحبته ومعاونته والجهاد معه . قال الحسن : لا يرغبوا بأنفسهم أن يصيبهم من الشدائد فيختاروا الخفض والدعة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مشقة السفر ومقاساة التعب . { ذلك بأنهم لا يصيبهم } ، في سفرهم ، { ظمأ } ، عطش ، { ولا نصب } ، تعب ، { ولا مخمصة } ، مجاعة ، { في سبيل الله ولا يطئون موطئا } ، أرضا ، { يغيظ الكفار } ، وطؤهم إياه { ولا ينالون من عدو نيلاً } ، أي : لا يصيبون من عدوهم قتلا أو أسرا أو غنيمة أو هزيمة ، { إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد ابن إسماعيل ، ثنا علي بن عبد الله ، ثنا الوليد بن مسلم ، ثنا يزيد بن أبي مريم ، ثنا عباية بن رفاعة قال : أدركني أبو عبس وأنا ذاهب إلى الجمعة فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار " . واختلفوا في حكم هذه الآية ، قال قتادة : هذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا غزا بنفسه لم يكن لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر ، فأما غيره من الأئمة والولاة لمن شاء من المسلمين أن يتخلف عنه إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة . وقال الوليد بن مسلم : سمعت الأوزاعي ، وابن المبارك ، وابن جابر ، وعمر بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية : إنها لأول هذه الأمة وآخرها . وقال ابن زيد : هذا حين كان أهل الإسلام قليلا ، فما كثروا نسخها الله تعالى وأباح التخلف لمن يشاء ، فقال : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } .
{ 120 - 121 } { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
يقول تعالى -حاثا لأهل المدينة المنورة من المهاجرين ، والأنصار ، ومن حولهم من الأعراب ، الذين أسلموا فحسن إسلامهم- : { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ } أي : ما ينبغي لهم ذلك ، ولا يليق بأحوالهم .
{ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ } في بقائها وراحتها ، وسكونه { عَنْ نَفْسِهِ } الكريمة الزكية ، بل النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فعلى كل مسلم أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم ، بنفسه ويقدمه عليها ، فعلامة تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته والإيمان التام به ، أن لا يتخلفوا عنه ، ثم ذكر الثواب الحامل على الخروج فقال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } أي : المجاهدين في سبيل اللّه { لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ } أي : تعب ومشقة { وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : مجاعة .
{ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّار } من الخوض لديارهم ، والاستيلاء على أوطانهم ، { وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا } كالظفر بجيش أو سرية أو الغنيمة لمال { إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } لأن هذه آثار ناشئة عن أعمالهم .
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } الذين أحسنوا في مبادرتهم إلى أمر الله ، وقيامهم بما عليهم من حقه وحق خلقه ، فهذه الأعمال آثار من آثار عملهم .
يعاتب تعالى المتخلّفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تَبُوك ، من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب ، ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل من المشقة ، فإنهم نَقَصُوا أنفسهم من الأجر ؛ لأنهم{[13989]} { لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ } وهو : العطش { وَلا نَصَبٌ } وهو : التعب { وَلا مَخْمَصَةٌ } وهي : المجاعة{[13990]} { وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ } أي : ينزلون منزلا{[13991]} يُرهبُ عدوهم { وَلا يَنَالُونَ } منه ظفرًا وغلبة عليه إلا كتب الله لهم بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرتهم ، وإنما هي ناشئة عن أفعالهم ، أعمالا صالحة وثوابا جزيلا { إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } كما قال تعالى : { إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا } [ الكهف : 30 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الأعْرَابِ أَن يَتَخَلّفُواْ عَن رّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نّيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : لم يكن لأهل المدينة ، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن حولهم من الأعراب سكان البوادي ، الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، وهم من أهل الإيمان به أن يتخلفوا في أهاليهم ولا دارهم ، ولا أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه في صحبته في سفره والجهاد معه ومعاونته على ما يعانيه في غزوه ذلك . يقول : إنه لم يكن لهم هذا بأنهم من أجل أنهم وبسبب أنهم لا يصيبهم في سفرهم إذا كانوا معه ظمأ وهو العطش ولا نصب ، يقول : ولا تعب ، وَلا مَخْمَصَة فِي سَبِيلِ اللّهِ يعني : ولا مجاعة في إقامة دين الله ونصرته ، وهدم منار الكفر . وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئا يعني أرضا ، يقول : ولا يطئون أرضا يغيظ الكفار وطؤهم إياها . وَلا يَنالُونَ منْ عَدُوّ نَيْلاً يقول ولا يصيبون من عدوّ الله وعدوّهم شيئا في أموالهم وأنفسهم وأولادهم إلا كتب الله لهم بذلك كله ثواب عمل صالح قد ارتضاه . إنّ اللّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ يقول : إن الله لا يدع محسنا من خلقه أحسن في عمله فأطاعه فيما أمره وانتهى عما نهاه عنه ، أن يجازيه على إحسانه ويثيبه على صالح عمله فلذلك كتب لمن فعل ذلك من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ما ذكر في هذه الآية الثواب على كل ما فعل فلم يضيع له أجر فعله ذلك .
وقد اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية ، فقال بعضهم : هي محكمة ، وإنما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، لم يكن لأحد أن يتخلف إذا غزا خلافه فيقعد عنه إلا من كان ذا عذر ، فأما غيره من الأئمة والولاة فإن لمن شاء من المؤمنين أن يتخلف خلافه إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ ولا يَرْغَبُوا بأنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِه هذا إذا غزا نبيّ الله بنفسه ، فليس لأحد أن يتخلف . ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «لَوْلا أنْ أشُقّ على أُمّتِي ما تَخَلّفْتُ خَلْفَ سَرِيّة تَغْزُو في سَبِيلِ اللّهِ ، لكِنّي لا أجِدُ سَعَةً فانْطَلِقْ بِهِمْ مَعِي ، وَيَشُقّ عَليّ أو أكْرَهُ أنْ أدَعَهُمْ بَعْدِي » .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : سمعت الأوزاعي ، وعبد الله بن المبارك ، والفزاري ، والسبيعي ، وابن جابر ، وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية : ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ . . . إلى آخر الآية . إنها لأوّل هذه الأمة وآخرها من المجاهدين في سبيل الله .
وقال آخرون : هذه الآية نزلت وفي أهل الإسلام قلة ، فلما كثروا نسخها الله وأباح التخلف لمن شاء ، فقال : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ما كانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ فقرأ حتى بلغ : ليَجْزِيَهُمُ اللّهُ أحْسَنَ ما كانُوا يعْمَلُونَ قال : هذا حين كان الإسلام قليلاً ، فلما كثر الإسلام بعد قال : وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَة مِنْهُمْ طائِفَةٌ . . . إلى آخر الآية .
والصواب من القول في ذلك عندي ، أَن الله عني بها الذين وصفهم بقوله : وجاءَ المُعَذّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ . . . الآية ، ثم قال جلّ ثناؤه : ما كان لأهل المدينة الذين تخلفوا عن رسول الله ولا لمن حولهم من الأعراب الذين قعدوا عن الجهاد معه أن يتخلفوا خلافه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ندب في غزوته تلك كلّ من أطاق النهوض معه إلى الشخوص إلا من أذن له أو أمره بالمقام بعده ، فلم يكن لمن قدر على الشخوص التخلف ، فعدّد جلّ ثناؤه من تخلف منهم ، فأظهر نفاق من كان تخلفه منهم نفاقا وعذر من كان تخلفه لعذر ، وتاب على من كان تخلفه تفريطا من غير شكّ ولا ارتياب في أمر الله إذ تاب من خطأ ما كان منه من الفعل . فأما التخلف عنه في حال استغنائه فلم يكن محظورا إذا لم يكن عن كراهته منه صلى الله عليه وسلم ذلك ، وكذلك حكم المسلمين اليوم إزاء إمامهم ، فليس بفرض على جميعهم النهوض معه إلا في حال حاجته إليهم لما لا بدّ للإسلام وأهله من حضورهم واجتماعهم واستنهاضه إياهم فيلزمهم حينئذ طاعته . وإذا كان ذلك معنى الآية لم تكن إحدى الاَيتين اللتين ذكرنا ناسخة للأخرى ، إذ لم تكن إحداهما نافية حكم الأخرى من كلّ وجوهه ، ولا جاء خبر يوجه الحجة بأن إحداهما ناسخة للأخرى .
وقد بيّنا معنى المخمصة وأنها المجاعة بشواهده ، وذكرنا الرواية عمن قال ذلك في موضع غير هذا ، فأغني ذلك عن إعادته ههنا .
وأما النيل : فهو مصدر من قول القائل : نالني ينالني ، ونلت الشيء : فهو منيل ، وذلك إذا كنت تناله بيدك ، وليس من التناول ، وذلك أن التناول من النوال ، يقال منه : نلت له أنول له من العطية . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول : النيل مصدر من قول القائل : نالني بخير ينولني نوالاً ، وأنالني خيرا إنالة وقال : كأنّ النيل من الواو أبدلت ياء لخفتها وثقل الواو . وليس ذلك بمعروف في كلام العرب ، بل من شأن العرب أن تصحح الواو من ذوات الواو إذا سكنت وانفتح ما قبلها ، كقولهم : القَوْل ، والَعْول ، والحَوْل ، ولو جاز ما قال لجاز القَيْل .
استئناف ابتدائي لإيجاب الغزو على أهل المدينة ومن حولهم من أهل باديتها الحافّين بالمدينة إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو . فهذا وجوب عيني على هؤلاء شرفهم الله بأن جعلهم جند النبي صلى الله عليه وسلم وحَرَس ذاته .
والذين هم حول المدينة من الأعراب هم : مُزينة ، وأشجع ، وغِفار ، وجُهينة ، وأسلم .
وصيغة { ما كان لأهل المدينة } خبر مستعمل في إنشاء الأمر على طريق المبالغة ، إذ جعل التخلف ليس مما ثبت لهم ، فهم برآء منه فيثبت لهم ضده وهو الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا .
فيه ثناء على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب لما قاموا به من غزو تبوك ، فهو يقتضي تحريضهم على ذلك كما دل عليه قوله : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ } الخ .
وفيه تعريض بالذين تخلفوا من أهل المدينة ومن الأعراب . وذلك يدل على إيجاب النفير عليهم إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو . وقال قتادة وجماعة : هذا الحكم خاص بخروج النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الخلفاء والأمراء فهو مُحكم غير منسوخ . وبذلك جزم ابن بَطال من المالكية . قال زيد بن أسلم وجابر بن زيد : كان هذا حكماً عاماً في قلة الإسلام واحتياجه إلى كثرة الغزاة ثم نسخ لما قوي الإسلام بقوله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } [ التوبة : 122 ] فصار وجوب الجهاد على الكفاية . وقال ابن عطية : هذا حكم من استنفرهم الإمام بالتعيين لأنه لو جاز لهؤلاء التخلف لتعطل الخُروج . واختاره فخر الدين .
والتخلف : البقاء في المكان بعدَ الغير ممن كان معه فيه ، وقد تقدم عند قوله : { فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله } [ التوبة : 81 ] .
والرغبة تُعدّى بحرف ( في ) فتفيد معنى مودة تحصيل الشيء والحرص فيه ، وتُعدى بحرف ( عن ) فتفيد معنى المجافاة للشيء ، كما تقدم في قوله تعالى : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم } [ البقرة : 130 ] وهي هنا معداة ب ( عن ) . أريد برغبتهم عن نفسه محبتهم أنفسهم وحرصهم على سلامتها دون الحرص على سلامة نفس الرسول ، فكأنهم رغبوا عن نفسه إذ لم يخرجوا معه مُلاَبسين لأنفسهم ، أي محتفظين بها لأنهم بمقدار من يتخلف منهم يزداد تعرض نفس الرسول من التلف قرباً ، فتخلف واحد منهم عن الخروج معه عون على تقريب نفس الرسول عليه الصلاة والسلام من التلف فلذلك استعير لهذا التخلف لفظ الرغبة عنه .
والباء في قوله : { بأنفسهم } للملابسة وهي في موضع الحال . نزل الضن بالأنفس والحذر من هلاكها بالتلبس بها في شدة التمكن فاستعمل له حرف باء الملابسة . وهذه ملابسة خاصة وإن كانت النفوس في كل حال متلبساً بها . وهذا تركيب بديع الإيجاز بالغ الإعجاز .
قال في « الكشاف » : « أمروا أن يُلَقُّوا أنفسَهم من الشدائد ما تلقاه نفسه علماً بأنها أعَز نفس عند الله وأكرمها عليه فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهول وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له » اه .
وهذا نهي بليغ وتوبيخ لهم وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية .
والإشارة ب { ذلك } إلى نفي كون التخلف عن الرسول ثابتاً لهم ، أي أن ما ينالونه من فضل وثواب وأجر عظيم يقضي بأنه ما يكون لهم أن يتخلفوا عن رسول الله .
والباء في { بأنهم } للسببية . والظَّمأ : العطش ، والنصَب : التعب ، والمخمصة : الجوع . وتقدم في قوله : { فمن اضطر في مخمصة } في سورة العقود ( 3 ) .
والوطء : الدوس بالأرجل . والمَوْطىء : مصدر ميمي للوطء . والوطء في سبيل الله هو الدوس بحوافر الخيل وأخفاف الإبل وأرجل الغزاة في أرض العدو ، فإنه الذي يغيظ العدو ويغضبه لأنه يأنف من وطء أرضه بالجيش ، ويجوز أن يكون الوطء هنا مستعاراً لإذلال العدو وغلبته وإبادته ، كقول الحارث بن وَعْلة الذُهْلي من شعراء الحماسة :
ووطئتَنَا وَطئاً على حنق *** وَطْء المُقَيّد نابِتَ الهَرْم
والنيل : مصدر ( ينالون ) . يقال : نال منه إذا أصابه برزء . وبذلك لا يقدَّر له مفعول . وحرف ( من ) مستعمل في التبعيض المجازي المتحقق في الرزية . ورزءُ العدو يكون من ذوات الأعداء بالأسر ، ويكون من متاعهم وأموالهم بالسبي والغنم .
والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال . فجملة : كتب لهم به عمل صالح } في موضع الحال ، وأغنى حرف الاستثناء عن اقترانها بقد . والضمير في ( به ) عائد على ( نصَب ) وما عطف عليه إما بتأويل المذكور وإما لأن إعادة حرف النفي جعلت كل معطوف كالمستقل بالذكر ، فأعيد الضمير على كل واحد على البدل كما يعاد الضمير مفرداً على المتعاطفات ب ( أو ) باعتبار أن ذلك المتعدد لا يكون في نفس الأمر إلا واحد منه . ومعنى : { كتب لهم به عمل صالح } أن يكتب لهم بكل شيء من أنواع تلك الأعمال عمل صالح ، أي جعَل الله كل عمل من تلك الأعمال عملاً صالحاً وإن لم يقصِد به عاملوه تقرباً إلى الله فإن تلك الأعمال تصدر عن أصحابها وهم ذاهلون في غالب الأزمان أو جميعها عن الغاية منها فليست لهم نيات بالتقرب بها إلى الله ولكن الله تعالى بفضله جعلها لهم قربات باعتبار شرف الغاية منها . وذلك بأن جعل لهم عليها ثواباً كما جعل للأعمال المقصود بها القربة ، كما ورد أن نوم الصائم عبادة .
وقد دل على هذا المعنى التذييل الذي أفاد التعليل بقوله : { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } . ودل هذا التذييل على أنهم كانوا بتلك الأعمال محسنين فدخلوا في عموم قضية { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } بوجه الإيجاز .