55- وربك أعلم بكل من في السماوات والأرض وبأحوالهم فيختار منهم لنبوته من يشاء ، وقد اختارك لرسالته فلا يصح أن يستكثروا عليك النبوة ، وهؤلاء الأنبياء ليسوا سواء في الفضل عنده - جل شأنه - بل بعضهم أفضل من بعض ، ولقد فضل بعض النبيين على بعض بالمعجزات وكثرة التابعين ، لا بالملك ، فَفَضَّل داود أنه أوتى الزبور ، لا لأنه أوتى الملك . فلا عجب أن تنال الفضل العظيم بما أوتيت من القرآن .
قوله تعالى : { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } أي : ربك العالم بمن في السماوات والأرض فجعلهم مختلفين في صورهم وأخلاقهم وأحوالهم ومللهم . { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } ، قيل جعل أهل السماوات والأرض مختلفين كما فضل بعض النبيين على بعض . قال قتادة في هذه الآية : اتخذ الله إبراهيم خليلاً ، وكلم موسى تكليماً ، وقال لعيسى : كن فيكون ، وآتى سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، وآتى داود زبوراً كما قال : { وآتينا داود زبوراً } ، والزبور : كتاب علمه الله داود ، يشتمل على مائة وخمسين سورة ، كلها دعاء وتمجيد وثناء على الله عز وجل ، وليس فيها حرام ولا حلال ولا فرائض ولا حدود . معناه : إنكم لم تنكروا تفضيل النبيين فكيف تنكرون فضل النبي صلى الله عليه وسلم وإعطاءه القرآن ؟ وهذا خطاب مع من يقر بتفضيل الأنبياء عليهم السلام من أهل الكتاب وغيرهم .
{ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } من جميع أصناف الخلائق فيعطي كلا منهم ما يستحقه تقتضيه حكمته ويفضل بعضهم على بعض في جميع الخصال الحسية والمعنوية كما فضل بعض النبيين المشتركين بوحيه على بعض بالفضائل والخصائص الراجعة إلى ما من به عليهم من الأوصاف الممدوحة والأخلاق المرضية والأعمال الصالحة وكثرة الأتباع ونزول الكتب على بعضهم المشتملة على الأحكام الشرعية والعقائد المرضية ، كما أنزل على داود زبورا وهو الكتاب المعروف .
فإذا كان تعالى قد فضل بعضهم على بعض وآتى بعضهم كتبا فلم ينكر المكذبون لمحمد صلى الله عليه وسلم ما أنزله الله عليه وما فضله به من النبوة والكتاب .
وقوله : { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : بمراتبهم في الطاعة والمعصية { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ } ، كَمَا قَالَ : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } [ البقرة : 253 ] .
وهذا لا ينافي ما [ ثبت ]{[17606]} في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تفضلوا بين الأنبياء " {[17607]} ؛ فإن المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية{[17608]} ، لا بمقتضى الدليل ، [ فإنه إذا دل الدليل ]{[17609]} على شيء وجب اتباعه ، ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء ، وأن أولي العزم منهم أفضلهم ، وهم الخمسة المذكورون نصا{[17610]} في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ] ، وفي الشورى [ في قوله ]{[17611]} : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى : 13 ] . ولا خلاف أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضلهم ، ثم بعده إبراهيم ، ثم موسى على المشهور ، وقد بسطنا هذا بدلائله في غير هذا الموضع ، والله الموفق .
وقوله : { وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } تنبيه على فضله وشرفه .
قال البخاري : حدثنا إسحاق بن نصر ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمر ، عن هَمَّام ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خُفف على داود القرآن ، فكان يأمر بدابته لتُسْرج ، فكان يقرأ قبل أن يَفْرغ " . يعني القرآن{[17612]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَبّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضّلْنَا بَعْضَ النّبِيّينَ عَلَىَ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : وربك يا محمد أعلم بمن في السموات والأرض وما يصلحهم فإنه هو خالقهم ورازقهم ومدبرهم ، وهو أعلم بمن هو أهل للتوبة والرحمة ، ومن هو أهل للعذاب ، أهدى للحقّ من سبق له مني الرحمة والسعادة ، وأُضلّ من سبق له مني الشقاء والخذلان ، يقول : فلا يكبرنّ ذلك عليك ، فإن ذلك من فعلي بهم لتفضيلي بعض النبيين على بعض ، بإرسال بعضهم إلى بعض الخلق ، وبعضهم إلى الجميع ، ورفعي بعضهم على بعض درجات . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَرَبّكَ أعْلَمُ بِمَنْ في السّمَوَاتِ والأرْضِ وَلَقَدْ فَضّلْنا بَعْضَ النّبِيّينَ عَلى بَعْضٍ اتخذ الله إبراهيم خليلاً ، وكلّم موسى تكليما ، وجعل الله عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ، ثم قال له كن فيكون ، وهو عبد الله ورسوله ، من كلمة الله وروحه ، وآتى سليمان مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وآتى داود زبورا ، كنا نحدّث دعاء عُلّمه داود ، تحميد وتمجيد ، ليس فيه حلال ولا حرام ، ولا فرائض ولا حدود ، وغفر لمحمد ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج وَلَقَدْ فَضّلْنا بَعْض النّبِيّينَ عَلى بَعْضٍ قال : كلم الله موسى ، وأرسل محمدا إلى الناس كافّة .
{ وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } بأحوالهم فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء ، وهو رد لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبيا ، وان يكون العراة الجؤع أصحابه . { ولقد فضّلنا بعض النّبيين على بعض } بالفضائل النفسانية والتبري عن العلائق الجسمانية ، لا بكثرة الأموال والأتباع حتى داود عليه الصلاة والسلام فإن شرفه بما أوحى إليه من الكتاب لا بما أوتيه من الملك . قيل هو إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله : { وآتينا داود زبوراً } تنبيه على وجه تفضيله وهو أنه خاتم الأنبياء وأمته خير الأمم المدلول عليه بما كتب في الزبور من أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ، وتنكيره ها هنا وتعريفه في قوله تعالى : { ولقد كتبنا في الزبور } لأنه في الأصل فعول للمفعول كالحلوب ، أو المصدر كالقبول ويؤيده قراءة حمزة بالضم وهو كالعباس أو الفضل ، أو لأن المراد وآتينا داود بعض الزبر ، أو بعضا من الزبور فيه ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام .
ثم قال تبارك وتعالى لنبيه عليه السلام { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } وهو الذي فضل بعض الأنبياء على بعض بحسب علمه فيهم ، فهذه إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى استبعاد قريش أن يكون الرسول بشراً ، المعنى : لا تنكروا أمر محمد عليه السلام ، وإن أوتي قرآناً ، فقد فضل النبيون ، وأوتي داود زبوراً ، فالله أعلم حيث يجعل رسالاته ، وتفضيل بعض الرسل ، هو إما بهذا الإخبار المجمل دون أن يسمى المفضول وعلى هذا يتجه لنا أن نقول محمد أفضل البشر ، وقد نهى عليه السلام عن تعيين أحد منهم في قصة موسى ويونس ، وإما أن يكون التفضيل مقسماً فيهم : أعطي هذا التكليم ، وأعطيت هذه الخلفة ، ومحمد الخمس ، وعيسى الإحياء ، فكلهم مفضول على وجه فاضل على الإطلاق ، وقوله { بمن في السماوات } ، الباء متعلقة بفعل تقديره ، علم من في السماوات ذهب إلى هذا أبو علي لأنه لو علقها ب { أعلم } لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يلزم ويصح تعلقها ب { أعلم } ولا يلتفت لدليل الخطاب{[7603]} وقرأ الجمهور : «زَبوراً » بفتح الزاي ، وهو فَعول بمعنى مفعول ، وهو قليل لم يجىء إلا في قدوع وركوب وحلوب ، وقرأ حمزة ويحيى والأعمش «زُبوراً » بضم الزاي ، وله وجهان : أحدهما أن يكون جمع زبور بحذف الزائد{[7604]} ، كما قالوا في جمع ظريف ، ظروف ، والآخر ، أن يكون جمع زبور كأن ما جاء به داود ، جزىء أجزاء كل جزء منها زبر{[7605]} ، سمي بمصدر زبر يزبر ، ثم جمع تلك الأجزاء على زبور ، فكأنه قال : آتينا داود كتباً ، ويحتمل أن يكون جمع زبر الذي هو العقل وسداد النظر{[7606]} ، لأن داود أوتي من المواعظ والوصايا كثيراً ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم ، في آخر كتاب مسلم : «وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له »{[7607]} ، قال قتادة زبور داود مواعظ وحكم ودعاء ليس فيه حلال ولا حرام .