التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِمَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ فَضَّلۡنَا بَعۡضَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ عَلَىٰ بَعۡضٖۖ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا} (55)

{ ورَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ ولَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا 55 } [ 55 ] .

لم يرو المفسرون رواية في مناسبة هذه الآية . وهي معطوفة على ما سبقها . وقد بدئت بما بدئت به الآية السابقة حيث يسوغ هذا القول إنها استمرار للسياق . وقد تضمنت الآية السابقة لها تقرير كون الله تعالى كما هو أعلم بما في ضمائر الكفار فيرحم بمشيئته من يكون أهلا للرحمة ويعذب من يكون أهلا للعذاب ، فجاءت هذه الآية بعدها لتقرر أن الله أعلم بكل من في السماوات والأرض ، وقد فضل نتيجة لذلك بعض النبيين على بعض وآتى نتيجة لذلك داود الزبور . وهذا الشرح الذي يلهم الآية يوثق الصلة بين الآية وسابقاتها موضوعا أيضا .

وقد قال بعض المفسرين{[1313]} : إن في الآية ردّا على الذين كانوا ينكرون فضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر النبيين . ومع أن فضل النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد في آيات ومظاهر عديدة منها أنه خاتم الأنبياء ، وأن القرآن مهيمن على الكتب السابقة ، وأن الله قد أرسله بالهدى ودين الحق ووعد بأن يظهر دينه على سائر الأديان ، فإننا نتحفظ في كون الآية قد تضمنت ما قاله المفسرون .

والزبور هو على الأرجح المزامير التي تعزى إلى داود عليه السلام في سفر من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم . وعددها في هذا السفر مئة وخمسون ، وفيها تمجيد وتسبيح وابتهالات لله تعالى بليغة المبنى والمعنى ، فيها كثير من المواعظ والأمثال والحكم . واسم داود مذكور في نصفها ويرافقه عبارة لإمام ( الغناء ) في بعضها والنصف الثاني غفل من الأسماء أو مذكور فيه أسماء أخرى وصفوا في بعضها بنفس العبارة . وظاهرها أنها من إنشاء من ذكرت أسمائهم فيها . وهذا لا يتعارض مع جملة { وآتينا داود زبورا } ولا مع كون ما عزي إلى داود منها هو من وحي الله تعالى وإلهامه .

ويقول البغوي في سياق تفسير الآية : إن الزبور كتاب علّمه الله داود ويشتمل على مائة وخمسين سورة ( وهذا عدد المزامير في السفر ) كلها تمجيد ودعاء وثناء على الله عز وجل . ليس فيها حرام ولا حلال ولا فرائض ولا حدود . وقد يفيد هذا أن سفر المزامير كان مترجما وأن المفسر قد اطلع عليه . ووفاة هذا المفسر كانت عام 516 ه .

تعليق في صدد تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض

لقد ذكر المفسرون في صدد تفضيل بعض النبيين على بعض أن من مظاهر ذلك اتخاذ الله تعالى إبراهيم خليلا . وهو ما ذكرته آية النساء [ 125 ] وتكليمه لموسى مباشرة وخلقه عيسى بدون أب ، وجعله محمدا خاتم النبيين ، وإيتائه موسى ومحمدا كتبا فيها تشريعات وأحكام في حين لم يكن في زبور داود مثل ذلك واختصاصه نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى مع النبي بالذكر والميثاق في بعض الآيات مثل آية الشورى [ 13 ] المكية وآية الأحزاب المدنية [ 7 ] وتأييده عيسى بروح القدس في بعض الآيات مثل آيات سورة البقرة [ 87 و 253 ] وإنطاق عيسى في المهد كما جاء في آيات آل عمران [ 46 ] والمائدة [ 110 ] ومريم [ 14 23 ] وفي هذا وجاهة ظاهرة . ولقد نبّه ابن كثير في سياق هذا الموضوع والآية إلى أنه ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تفضّلوا بين الأنبياء " ثم قال : إن هذا النهي هو بسبيل النهي عن التفضيل لمجرد التشهّي والعصبية ؛ لأنه لا خلاف في فضل بعضهم على بعض وفي فضل الرسل على الأنبياء من غير الرسل وفي فضل النبي محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء . وهذا أيضا وجيه سديد يدعمه النص القرآني في الآية التي نحن في صددها وفي آية سورة البقرة هذه { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ ورَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ . . . } [ 253 ] ويدعمه بالنسبة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم نعت القرآن له بأنه خاتم النبيين آية الأحزاب [ 40 ] وكون دينه مرشحا للظهور على سائر الأديان آية الفتح حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة قال : " قال النبي صلى الله عليه وسلم إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلاّ موضع لبنة من زاوية فجعل النّاس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلاّ وضعت هذه اللبنة ، قال : فأنا اللبنة وأنا خاتم النّبيين " {[1314]} وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة كنت إمام النّبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر " {[1315]} .


[1313]:انظر تفسير الآية في الطبرسي والخازن والكشاف والقاسمي مثلا.
[1314]:التاج ج 3 ص 204 و 206 وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما أوردناه.
[1315]:التاج ج 3 ص 204 و 206 وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما أوردناه.