البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِمَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ فَضَّلۡنَا بَعۡضَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ عَلَىٰ بَعۡضٖۖ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا} (55)

ولما ذكر تعالى أنه أعلم بمن خاطبهم بقوله : { ربكم أعلم بكم } انتقل من الخصوص إلى العموم فقال مخاطباً لرسوله صلى الله عليه وسلم : { وربك أعلم بمن في السموات والأرض } ليبين أن علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلق بجميع من في السموات والأرض ، بأحوالهم ومقاديرهم وما يستأهل كل واحد منهم ، و { بمن } متعلق بأعلم كما تعلق بكم قبله بأعلم ولا يدل تعلقه به على اختصاص أعلميته تعالى بما تعلق به كقولك : زيد أعلم بالنحو لا يدل هذا على أنه ليس أعلم بغير النحو من العلوم .

وقال أبو عليّ : الباء تتعلق بفعل تقديره علم { بمن } قال لأنه لو علقها بأعلم لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك وهذا لا يلزم ، وأيضاً فإن علم لا يتعدى بالباء إنما يتعدّى لواحد بنفسه لا بواسطة حرف الجر أو لا يبين على ما تقرر في علم النحو .

ولما كان الكفار قد استبعدوا تنبئة البشر إذ فيه تفضيل الأنبياء على غيرهم أخبر تعالى بتفضيل الأنبياء على بعض إشارة إلى أنه لا يستبعد تفضيل الأنبياء على غيرهم إذ وقع التفضيل في هذا الجنس المفضل على الناس والله تعالى أعلم بما خص كل واحد من المزايا فهو يفضل من شاء منهم على من شاء إذ هو الحكيم فلا يصدر شيء إلاّ عن حكمته .

وفيه إشارة إلى أنه لا يستنكر تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء وخص { داود } بالذكر هنا لأنه تعالى ذكر في الزبور أن محمداً خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم .

وقال تعالى { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } وهم محمد وأمته ، وكانت قريش ترجع إلى اليهود كثيراً فيما يخبرون به مما في كتبهم ، فنبه على أن زبور داود تضمن البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم .

وفي ذلك إشارة رد على مكابري اليهود حيث قالوا : لا نبيّ بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة ، ونص تعالى هنا على إيتاء داود الزبور وإن كان قد آتاه مع ذلك الملك إشارة إلى أن التفضيل المحض هو بالعلم الذي آتاه ، والكتاب الذي أنزل عليه كما فضل محمد صلى الله عليه وسلم بما آتاه من العلم والقرآن الذي خصه به .

وتقدم تفسير { وآتينا داود زبوراً } في أواخر النساء وذكر الخلاف في ضم الزاي وفتحها .

وقال الزمخشري هنا : فإن قلت : هلا عرّف الزبور كما عرف في { ولقد كتبنا في الزبور } قلت : يجوز أن يكون الزبور وزبور كالعباس وعباس والفضل وفضل ، وأن يريد { وآتينا داود } بعض الزبور وهي الكتب وأن يريد ما ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الزبور ، فسُميِّ ذلك { زبوراً } لأنه بعض الزبور كما سُمي بعض القرآن قرآناً .