اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِمَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ فَضَّلۡنَا بَعۡضَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ عَلَىٰ بَعۡضٖۖ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا} (55)

قوله تعالى : { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض } : في هذه الباءِ قولان :

أشهرهما : أنها تتعلق ب " أعْلَمُ " كما تعلَّقت الباء ب " أعْلَمُ " قبلها ، ولا يلزمُ من ذلك تخصيص علمه بمن في السماوات والأرض فقط .

والثاني : أنها متعلقة ب " يَعْلَمُ " مقدَّراً ، قاله الفارسيُّ ، محتجًّا بأنَّه يلزمُ من ذلك تخصيصُ علمه بمن في السماوات والأرض ، وهو وهمٌ ؛ لأنَّه لا يلزمُ من ذكر الشيء نفيُ الحكم عمَّا عداه ، وهذا هو الذي يقول الأصوليُّون : إنه مفهوم اللَّقبِ ، ولم يقل به إلاَّ أبو بكرٍ الدَّقَّاق في طائفة قليلة .

فصل

معنى الآية أنَّ علمه غير مقصورٍ عليكم ، ولا على أحوالكم ، بل علمه متعلِّق بجميع الموجودات والمعدومات ، وبجميع ذرَّات الأرضين ، والسَّموات ، فيعلم حال كلِّ أحد ، ويعلم ما يليقُ به من المصالح والمفاسد ، ولهذا جعلهم مختلفين في صورهم ، وأحوالهم ، وأخلاقهم ، وفضَّل بعض النبيين على بعضٍ ، وآتى موسى التوراة ، وداود الزَّبُور ، وعيسى الإنجيل ، ولم يبعد أيضاً أن يؤتي محمَّداً صلى الله عليه وسلم القرآن مع تفضيله على الخلق .

فإن قيل : ما السَّبب في تخصيص داود بالذكر هاهنا ؟ .

فالجواب من وجوهٍ :

الأول : أنَّه تعالى ذكر أنَّه فضَّل بعض النَّبيِّينَ على بعض ، ثم قال : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } يعني أنَّ داود آتاه ملكاً عظيماً ، ثم إنَّه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك ، وذكر ما آتاه من الكتب ؛ تنبيهاً على أنَّ التفضيل الذي ذكره قبل ذلك المراد منه التفضيل بالعلم والدِّين ، لا بالمال .

والثاني : أنَّ تخصيصه بالذِّكر أنَّه تعالى كتب في الزَّبور أن محمَّداً خاتم الأنبياء ، وأنَّ أمَّة محمد خيرُ الأمم - صلوات الله وسلامه عليه- .

قال تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] وهم محمد وأمته .

فإن قيل : هلا عرفه كقوله : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور } .

فالجواب أن التنكير ها هنا يدل على تعظيم حاله ؛ لأن الزبور عبارة عن المزبور ، فكان معناه الكتاب ، وكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتاباً .

ويجوز أن يكون " زبور " علماً ، فإذا دخلت عليه " أل " كقوله : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور } كانت للمْحِ الأصل كعبَّاس والعباس ، وفضل والفضل .

وقيل : نكَّره هنا دلالة على التبعيض ، أي : زبُوراً من الزُّبر ، أو زبوراً فيه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق على القطعة منه زبورٌ ، كما يطلق على بعض القرآن ، قرآن .

الثالث : أنَّ السَّبب في تخصيص داود - صلوات الله عليه - أنَّ كفار قريش ما كانوا أهل نظرٍ وجدلٍ ، بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشُّبهات ، واليهود كانوا يقولون : لا نبيَّ بعد موسى ، ولا كتاب بعد التَّوراة ، فنقض الله عليهم كلامهم بإنزالِ الزَّبور على داود ، وتقدَّم خلافُ القراء في الزبور في آخر سورة النساء .