السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِمَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ فَضَّلۡنَا بَعۡضَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ عَلَىٰ بَعۡضٖۖ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا} (55)

ولما أمرهم بأن ينسبوا الأعلمية بهم إليه تعالى أخبر بما هو أعم من ذلك قاصراً الخطاب على أعلم خلقه بقوله تعالى : { وربك } أي : المحسن إليك بأن جعلك أكمل الخلق { أعلم بمن في السماوات والأرض } فعلمه غير مقصور عليكم بل متعلق بجميع الموجودات والمعدومات ، ومتعلق بجميع ذات الأرضين والسماوات ، فيعلم تعالى حال كل أحد ، ويعلم ما يليق به من المفاسد والمصالح ، ويعلم اختلاف صورهم وأديانهم وأخلاقهم وأحوالهم وجميع ما هم عليه سبحانه وتعالى ، لا تخفى عليه خافية ، فيفضل بعض الناس على بعض على حسب إحاطة علمه وشمول قدرته ، وبعض النبيين على بعض كما قال تعالى : { ولقد فضلنا } بما لنا من العظمة { بعض النبيين } سواء كانوا رسلاً أم لا { على بعض } بعد أن جعلنا لكل فضلاً لتقوى كل منهم وإحسانه ، فخصصنا كلاً منهم بفضيلة كموسى بالكلام ، وإبراهيم بالخلة ، ومحمد صلى الله عليه وسلم بالإسراء ، فلا ينكر أحد من العرب ، أو بني إسرائيل أو غيرهم ، تفضيلنا لهذا النبي الكريم ، الذي صدرنا السورة بتفضيله على جميع الخلائق ، فإذا نفعل ما نشاء بما لنا من القدرة التامة والعلم الشامل . وقرأ نافع بالهمزة والباقون بالياء ، وورش على أصله يمد على الهمزة ويوسط ويقصر . { وآتينا } موسى التوراة و{ داود زبوراً } وعيسى الإنجيل ، فلم يبعد أيضاً أن نؤتي محمداً صلى الله عليه وسلم القرآن ، ولم يبعد أن نفضله على جميع الخلق . فإن قيل : ما السبب في تخصيص داود عليه السلام بالذكر هنا ؟ أجيب : بأوجه الأول أنه تعالى ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض ، ثم قال : { وآتينا داود زبوراً } يعني أنّ داود أوتي ملكاً عظيماً ، ثم إنه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك ، وذكر ما آتاه من الكتاب تنبيهاً على أنّ الفضل الذي ذكره قبل ذلك المراد منه التفضيل بالعلم والدين لا بالمال . الثاني : أنه تعالى كتب في الزبور أنّ محمداً خاتم الأنبياء ، وأنّ أمّة محمد خير الأمم قال تعالى : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون } [ الأنبياء ، 105 ] وهم محمد صلى الله عليه وسلم وأمّته . فإن قيل : هلا عرفه كقوله : { ولقد كتبنا في الزبور } ؟ أجيب : بأنّ التنكير هنا يدل على تعظيم حاله ؛ لأنّ الزبور عبارة عن المزبور ، فكان معناه الكتاب ، وكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتاباً ، ويجوز أنّ يكون زبوراً علماً ، فإذا دخلت عليه أل كقوله تعالى : { ولقد كتبنا في الزبور } كانت للمح الأصل كعباس ، والعباس وفضل والفضل الثالث أنّ كفار قريش ماكانوا أهل نظر وجدل بل كانوا يرجعون إلى اليهود في إستخراج الشبهات واليهود كانوا يقولون أنّه لا نبيّ بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة فنقض الله عليهم كلامهم بإنزال الزبور على داود .

وروى البخاري في التفسير عن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : «خفف على داود القرآن فكان يأمر بدوابه لتسرج فكان يقرأ قبل أن يفرغ » ، أي : القرآن قال البقاعي : ومن أعظم المناسبات لتخصيص داود عليه السلام وزبوره بالذكر هنا ، ذكر البعث الذي هذا مقامه فيه صريحاً ، وكذا ذكر النار مع خلو التوراة عن ذلك . أمّا البعث فلا ذكر له فيها أصلاً ، وأمّا النار فلم يذكر شيء مما يدل عليها إلا الجحيم في موضع واحد ، وأمّا الزبور فذكر فيه النار والهاوية والجحيم في غير موضع انتهى . وقرأ حمزة بضم الزاي والباقون بالفتح .