نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِمَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ فَضَّلۡنَا بَعۡضَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ عَلَىٰ بَعۡضٖۖ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا} (55)

ولما أمرهم بأن ينسبوا الأعلمية بهم إليه سبحانه ، أخبر بما هو أعم من ذلك فقال تعالى عاطفاً على { ربكم } إعلاماً بأن علمه ليس مقصوراً عليهم ، بل هو محيط ، قاصراً الخطاب على أعلم الخلق به سبحانه إشارة إلى أنه لا يعلم هذا حق علمه غيره : { وربك } أي المحسن إليك بأن جعلك أكمل الخلق { أعلم } أي من كل عالم { بمن في السماوات } أي كلها { والأرض } منهم ومن غيرهم ، بأحوالهم ومقاديرهم وآجالهم وما يستأهل كل واحد منهم ، لأنه هو الذي خلقهم وفاوت بينهم في أخلاقهم وهيئاتهم فكيف يستبعدون أن يكون يتيم أبي طالب - على ما كانوا يقولون - نبياً ، وأن يكون أصحابه العراة الجياع أفضل منهم .

ولما كان قد فهم من هذا السياق تفضيل بعض الأشياء على بعض حتى تصير قابلة الروح الحياة بدءاً وإعادة ، بعد أن فهم من أول السورة وآخر التي قبلها اختصاص بعض الأنبياء بفضائل من روح العلم والحكمة لم يحزها غيره ، صرح بهذا هنا فقال تعالى عطفاً على ما أرشد إليه سياق الإخبار بالأعلمية ، ملتفتاً إلى مقام العظمة الداعي إليه الحال ، وهو الوصف بالأعلمية : { ولقد } أي فميزنا بينهم بالرذائل والفضائل تفضيلاً لبعضهم على بعض على حسب إحاطة علمنا بهم وشمول قدرتنا لهم في تأهلهم للسعادة والشقاوة ففضلنا بعض الناس على بعض ، ففضلنا العلماء على غيرهم ، وفضلنا النبيين منهم على غيرهم ، ولقد { فضلنا } أي بما لنا من العظمة { بعض النبيّن } أي سواء كانوا رسلاً أو لا { على بعض } بعد أن جعلنا الكل فضلاء لتقوى كل منهم وإحسانه ، فلا ينكر أحد من العرب أو بني إسرائيل أو غيرهم تفضيلنا لهذا النبي الكريم الذي صدرنا السورة بتفضيله على جميع الخلائق ، فإنا نفعل ما نشاء ، بما لنا من القدرة التامة والعلم الشامل ، والحاصل أن من أعظم ثمرات العمل التفضيل بإعطاء كل واحد بل كل شيء ما يستحقه ، وبذلك يستدل على تمام - حكمته في شمول علمه وكمال قدرته ، فلذلك ذكر التفضيل هنا بعد ذكر العلم المطلق ، وصرح بتفضيل أشرف الخلائق وطوى ذكر غيرهم ، كما ذكر التفضيل في الدنيا بعد إثبات العلم المقيد بالذنوب في قوله : { من كان يريد العاجلة - إلى قوله تعالى : انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } .

ولما كان القصد إلى بني إسرائيل في هذه السورة سابقها ولاحقها ظاهراً ، والتعريض بهم في كثير منها بيناً ، وكان داود عليه السلام هو المؤسس للمسجد الأقصى الذي وقع الإسراء إليه ، وكان قد خص بأن ألين له الحديد الذي أمر المشركون أن يكونوه ، لاستبعادهم الإعادة ، وكان - مع كونه ملكاً - من أشد الناس تواضعاً ، وأكثرهم بكاء ، وأبعدهم من المرح في الأرض ، قال تعالى : { وءاتينا } أي بما لنا من العظمة { داود } أي الذي هو من أتباع موسى الذي آتيناه الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا يتخذوا من دوني وكيلاً { زبوراً * } لأنهم قاطعون بأن من بين موسى وعيسى من أنبياء بني إسرائيل دون موسى في الرتبة ، وكل منهم داعٍ إلى شريعته ، عامل بحكم التوراة التي شرفه الله بها ، غير خارج عن شيء من سنتها ، فكان القياس يقتضي أن يكونوا في الفضيلة سواء ، فلم يجر ذلك على مقتضى عقول الناس ، بل فاوت سبحانه بينهم على حسب علمه بأحوالهم حتى في الوحي ، فخص من بينهم داود عليه السلام بكتاب كله مواعظ ، والمواعظ أشد شيء منافاة للمشي في الأرض مرحاً ، ونهياً عنه ، وأعظم شيء أمراً بالقول الذي هو أحسن من الإخلاص والمراقبة والإحسان ، هذا إلى ما ذكر فيه من التسبيح من كل شيء الذي هو من أعظم مقاصد السورة كما تقدم نص الزبور به قريباً ، فكان ذكر تفضيله به هنا أنسب شيء لهذا المقام ، وفي ذلك أعظم إشارة وأجل تنبيه على فضل بيت المقدس الذي جعله سبباً لتفضيل الأنبياء تارة بالهجرة إليه كإبراهيم عليه السلام وتارة بقصد تطهيره من الشرك وتنويره بالتوحيد كموسى عليه السلام ، وتارة بتأسيس بنيانه وتشييد أركانه كداود عليه السلام ، وتارة بالإسراء إليه والإمامة بالأنبياء عليهم السلام به والعروج منه إلى سدرة المنتهى والمقام الأعلى ، وأما تفضيله وتفضيل ابنه سليمان - على نبينا محمد وعليهما الصلاة والسلام - بالملك وسعة الأمر فدخل في قوله تعالى : { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } وروى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خفف على داود القراءة فكان يأمر بدوابه لتسرج ، فكان يقرأ قبل أن يفرغ - يعني القرآن ، ومن أعظم المناسبات لتخصيص داود عليه السلام وزبوره بالذكر هنا ذكر البعث الذي هذا مقامه فيه صريحاً ، وكذا ذكر النار مع خلو التوراة عن ذلك ، أما البعث فلا ذكر له فيها أصلاً ، وأما النار فلم يذكر شيء مما يدل عليها إلا الجحيم في موضع واحد ، وأما الزبور فذكر فيه النار والهاوية والجحيم في غير موضع ، وأما البعث فصرح به ، وهو ظاهر في كونه بالروح والجسد ، قال في المزمور الثالث بعد المائة : نفسي تبارك الرب ، الرب إلهي عظيم جداً ، لبس المجد ، وعظيم البهاء ، وتجلل بالنور كالرداء ، ومد السماء كالخباء ، جعل الماء أساسها ، واستوى على السحاب ، ومشى على أجنحة الرياح ، خلق ملائكته أرواحاً وخدمه ناراً واقدة ، وتجلل بالغمر كالرداء ، وعلى الجبال تقف المياه ، ومن رجزك قهرت ، ومن صوت رعدك تجزع الجبال عالية ، والبقاع منهبطة في الأماكن التي أسست ، جعلت حداً لا تتجاوزه ، لا تعود تغطي الأرض ، أرسل الماء عيوناً في الأودية ، وبين الجبال تجري المياه لتسقي حيوان البر ، وتروي عطاش الوحوش ، يقع عليها طائر السماء إلى أن قال : وكل بحكمة صنعت ، امتلأت الأرض من خليقتك ، هذا البحر العظيم السعة فيه حيتان لا تحصى كبار وصغار ، وفيه تسلك السفن ، وهذا التنين الذي خلقته ليتعجب منه ، والكل إياك يرجون لتعطيهم طعامهم في حينه ، فإذا أنت أعطيتهم يعيشون ، وعند بسط يدك بالطيبات يشبعون ، وحين تصرف وجهك يجزعون ، تنزع أرواحهم فيموتون ، وإلى التراب يرجعون ، ترسل روحك فيخلقون ، وتجدد وجه الأرض دفعة أخرى ، ويكون مجد الرب إلى الأبد - انتهى .

فكأن ذلك جواب لقول من لعله يقول للعرب من اليهود : إن الأمر كما تقولون في أنه لاقيامة - كما يقوله بعض زنادقتهم كما ذكر عنهم في نص الإنجيل وكما نقل عنهم في سورة النساء أنهم قالوا : أنتم أهدى سبيلاً ، ودينكم خير من دين محمد ، وفي الزبور - كما تقدم في أول السورة عن توراة موسى عليه الصلاة والسلام - ألا تتخذوا من دون الله وكيلاً ، وذلك من أعظم مقاصد السورة ، قال في المزمور الخامس والأربعين بعد المائة : لا تتوكلوا على الرؤساء ولا على بني البشر الذين ليس عندهم خلاص ، فإن أرواحهم تفارقهم ويعودون إلى ترابهم ، في ذلك اليوم تبطل أعمالهم .