قوله تعالى :{ أجعلتم سقاية الحاج } .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، ثنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، ثنا عبد الله بن حامد بن محمد الوزان ، ثنا أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله المعافري ، ثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، ثنا أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي ، ثنا معاوية بن سلام ، عن زيد بن سلام ، عن أبي سلام ، ثنا النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج . وقال الآخر : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام . وقال الآخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتما ، فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يوم الجمعة ، ولكن إذا صليت دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه ، ففعل فأنزل الله عز وجل : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام } ، إلى قوله : { والله لا يهدي القوم الظالمين } . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : قال العباس حين أسر يوم بدر : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد ، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي الحاج ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأخبر أن عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على السقاية لا ينفعهم مع الشرك بالله ، والإيمان بالله والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم خير مما هم عليه . وقال الحسن ، والشعبي ، ومحمد بن كعب القرظي ، نزلت في علي بن أبي طالب ، والعباس بن عبد المطلب ، وطلحة بن شيبة ، افتخروا فقال طلحة : أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه ، وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ، وقال علي : ما أدري ما تقولون لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية : { أجعلتم سقاية الحاج } . وسقاية : مصدر كالرعاية والحماية .
قوله تعالى : { وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر } ، فيه اختصار تقديره : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله وجهاد من جاهد في سبيل الله ؟ . وقيل : السقاية والعمارة بمعنى الساقي والعامر . وتقديره : أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ، وهذا كقوله تعالى : { والعاقبة للتقوى } أي : للمتقين ، يدل عليه قراءة عبد الله بن الزبير . وأبي بن كعب أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام على جمع الساقي والعامر . كمن آمن بالله واليوم الآخر .
قوله تعالى : { وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني إسحاق بن إبراهيم ، ثنا أبو أسامة ، ثنا يحيى بن مهلب ، عن حسين ، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى ، فقال العباس : يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها ، فقال : اسقني ، فقال : يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه ، قال : اسقني ، فشرب منه ، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها ، فقال : اعملوا فإنكم على عمل صالح ، ثم قال : لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه ، وأشار إلى عاتقه " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد ، ثنا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، عن مسلم بن الحجاج ، حدثني محمد بن منهال الضرير ، ثنا يزيد بن زريع ، ثنا حميد الطويل عن بكر بن عبد الله المزني قال : كنت جالسا مع ابن عباس عند الكعبة فأتاه أعرابي فقال : مالي لا أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ أمن حاجة بكم ؟ أم من بخل ؟ فقال ابن عباس : الحمد لله ما بنا حاجة ولا بخل ، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامه فاستسقى ، فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة ، وقال : " أحسنتم وأجملتم كذا فاصنعوا " ، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ 19 - 22 ْ } { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
لما اختلف بعض المسلمين ، أو بعض المسلمين وبعض المشركين ، في تفضيل عمارة المسجد الحرام ، بالبناء والصلاة والعبادة فيه وسقاية الحاج ، على الإيمان باللّه والجهاد في سبيله ، أخبر اللّه تعالى بالتفاوت بينهما ، فقال : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ } أي : سقيهم الماء من زمزم كما هو المعروف إذا أطلق هذا الاسم ، أنه المراد { وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ }
فالجهاد والإيمان باللّه أفضل من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام بدرجات كثيرة ، لأن الإيمان أصل الدين ، وبه تقبل الأعمال ، وتزكو الخصال .
وأما الجهاد في سبيل اللّه فهو ذروة سنام الدين ، الذي به يحفظ الدين الإسلامي ويتسع ، وينصر الحق ويخذل الباطل .
وأما عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج ، فهي وإن كانت أعمالا صالحة ، فهي متوقفة على الإيمان ، وليس فيها من المصالح ما في الإيمان والجهاد ، فلذلك قال : { لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : الذين وصفهم الظلم ، الذين لا يصلحون لقبول شيء من الخير ، بل لا يليق بهم إلا الشر .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ } .
وهذا توبيخ من الله تعالى ذكره لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت ، فأعلمهم جلّ ثناؤه أن الفخر في الإيمان بالله واليوم الاَخر والجهاد في سبيله لا في الذي افتخروا به من السدانة والسقاية . وبذلك جاءت الاَثار وتأويل أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو الوليد الدمشقي أحمد بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : ثني معاوية بن سلام ، عن جده أبي سلام الأسود ، عن النعمان بن بشير الأنصاريّ ، قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه ، فقال رجل منهم : ما أبالي ألاّ أعمل عملاً بعد الإسلام ، إلا أن أسقي الحاج وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستفتيته فيما اختلفتم فيه قال : ففعل ، فأنزل الله تبارك وتعالى : أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ . . . إلى قوله : وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كمَنْ آمَنَ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ قال العباس بن عبد المطلب حين أُسر يوم بدر : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد ، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي الحاجّ ، ونفك العاني قال الله : أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ . . . إلى قوله : الظّالِمِينَ . يعني أن ذلك كان في الشرك ، ولا أقْبَلُ ما كان في الشرك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ . . . إلى قوله : الظّالِمِينَ وذلك أن المشركين قالوا : عمارة بيت الله وقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره . فذكر الله استكبارهم وإعراضهم ، فقال لأهل الحرم من المشركين : قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ على أعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرا تَهْجُرُونَ يعني أنهم يستكبرون بالحرم ، وقال : «به سامرا » لأنهم كانوا يسمرون ويهجرون القرآن والنبيّ صلى الله عليه وسلم . فخير الإيمان بالله والجهاد مع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم على عمران المشركين البيت وقيامهم على السقاية . ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به أن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه ، قال الله : لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ يعني : الذين زعموا أنهم أهل العمارة ، فسماهم الله «ظالمين » بشركهم فلم تغن عنهم العمارة شيئا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن النعمان بن بشير ، أن رجلاً قال : ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاجّ وقال آخر : ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم . فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صلى الجمعة دخلنا عليه . فنزلت : أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ . . . إلى قوله : لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّهِ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عمرو ، عن الحسن ، قال : نزلت في عليّ وعباس وعثمان وشيبة ، تكلموا في ذلك فقال العباس : ما أراني إلا تارك سقايتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أقِيمُوا على سِقايَتِكُمْ فإنّ لَكُمْ فِيها خَيْرا » .
قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن إسماعيل ، عن الشعبيّ ، قال : نزلت في عليّ والعباس ، تكلما في ذلك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرت عن أبي صخر ، قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار ، وعباس بن عبد المطلب ، وعليّ بن أبي طالب ، فقال طلحة : أنا صاحب البيت معي مفتاحه ، لو أشاء بتّ فيه وقال عباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ، ولو أشاء بتّ في المسجد وقال عليّ : ما أدري ما تقولان ، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله : أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ . . . الآية كلها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، قال : لما نزلت أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ قال العباس : ما أراني إلا تارك سقايتنا ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أقِيمُوا على سِقايَتِكُمْ فإنّ لَكُمْ فِيها خَيْرا » .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كمَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ وَجاهَد فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَوُونَ عنْد اللّهِ قال : افتخر عليّ وعباس وشيبة بن عثمان ، فقال العباس : أنا أفضلكم ، أنا أسقي حجاج بيت الله وقال شيبة : أنا أعمر مسجد الله وقال علي : أنا هاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأجاهد معه في سبيل الله فأنزل الله : الّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ . . . إلى : نَعِيمٌ مُقِيمٌ .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ . . . الآية ، أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أُسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك ، فقال العباس : أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونفك العاني ، ونحجب البيت ، ونسقي الحاجّ فأنزل الله : أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجّ . . . الآية .
فتأويل الكلام إذن : أجعلتم أيها القوم سقاية الحاجّ ، وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الاَخر وجاهد في سبيل الله ، لا يستوون هؤلاء وأولئك ، ولا تعتدل أحوالهما عند الله ومنازلهما لأن الله تعالى لا يقبل بغير الإيمان به وباليوم الاَخر عملاً . واللّهُ لا يَهْدِي القَوْم الظّالِمِينَ يقول : والله لا يوفق لصالح الأعمال من كان به كافرا ولتوحيده جاحدا . ووضع الاسم موضع المصدر في قوله : كمَنْ آمَنَ باللّهِ إذ كان معلوما معناه ، كما قال الشاعر :
لَعَمْرُكَ ما الفِتْيانُ أنْ تَنْبُتَ اللّحَى *** وَلَكِنّما الفِتْيانُ كُلّ فَتىً نَدِي
فجعل خبر الفتيان «أن » ، وهو كما يقال : إنما السخاء حاتم والشعر زهير .
{ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله } السقاية والعمارة مصدر أسقى وعمر فلا يشبهان بالجثث بل لا بد من إضمار تقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن ، أو أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن . ويؤيد الأول قراءة من قرأ " سقاة الحاج وعمرة المسجد " والمعنى إنكار أن يشبه المشركون وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة ثم قرر ذلك بقوله : { لا يستوُون عند الله } وبين عدم تساويهم بقوله : { والله لا يهدي الظالمين } أي الكفرة ظلمة بالشرك ومعاداة الرسول عليه الصلاة والسلام منهمكون في الضلالة فكيف يساوون الذين هداهم الله ووفقهم للحق والصواب ، وقيل المراد بالظالمين الذين يسوون بينهم وبين المؤمنين .
وقرأ الجمهور «أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام » وقرأ ابن الزبير{[5560]} وأبو وجزة{[5561]} ومحمد بن علي وأبو جعفر القاري{[5562]} «أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام »{[5563]} ، وقرأها كذلك ابن جبير إلا أنه نصب «المسجدَ » على إرادة التنوين في «عمرة » وقرأ الضحاك وأبو وجزة وأبو جعفر القاري «سُقاية الحاج » بضم السين{[5564]} «وعمرة » ، فأما من قرأ «سقاية وعمارة » ففي الكلام عنده محذوف إما في أوله وإما في آخره فإما أن يقدر «أجعلتم أهل سقاية » وإما أن يقدر كفعل من آمن بالله . وأما من قرأ «سقاة » و «عمرة » فنمط قراءته مستو ، وأما قراءة الضحاك فجمع ساق إلا أنه ضم أوله كما قالوا عرف وعُراف وظئر وظُؤار{[5565]} ، وكان قياسه أن يقال سقاء وإن أنث كما أنث من الجموع حجارة وغيره . فكان القياس سقية من أول مرة على التأنيث قاله ابن جني ، و { سقاية الحاج } كانت في بني هاشم وكان العباس يتولاها ، قال الحسن : ولما نزلت هذه الآية قال العباس : ما أراني إلا أترك السقاية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أقيموا عليها فإنها لكم خير »{[5566]} ، { وعمارة المسجد } قيل هي حفظه من الظلم فيه ويقال هجراً ، وكان ذلك إلى العباس ، وقيل هي السدانة خدمة البيت خاصة ، وكانت في بني عبد الدار وكان يتولاها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الدار ، وشيبة بن عثمان بن أبي طلحة المذكور هذان هما اللذان دفع إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة في ثاني يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعلي رضي الله عنهما ، وقال صلى الله عليه وسلم لعثمان وشيبة :
«يوم وفاء وبر خذوها خالدة تالدة لا ينازعكموها إلا ظالم »{[5567]} .
قال القاضي أبو محمد : يعني السدانة واختلف الناس في سبب نزول هذه الآية فقيل إن كفار قريش قالوا لليهود إنَّا نسقي الحجيج ونعمر البيت ، أفنحن أفضل أم محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ؟ فقالت لهم أحبار اليهود بل أنتم ، فنزلت الآية في ذلك ، وقيل إن الكفار افتخروا بهذه الأشياء فنزلت الآية في ذلك ، وأسند الطبري إلى النعمان بن بشير أنه قال : كنت عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه ، فقال أحدهم ما أتمنى بعد الإسلام إلا أن أكون ساقي الحاج ، وقال الآخر إلا أن أكون خادم البيت وعامره ، وقال الثالث إلا أن أكون مجاهداً في سبيل الله ، فسمعهم عمر بن الخطاب فقال : اسكتوا حتى أدخل على النبي صلى الله ليه وسلم فأستفتيه فدخل عليه فاستفتاه فنزلت الآية في ذلك{[5568]} ، وقال ابن عباس والضحاك : إن المسلمين عيروا أسرى بدر بالكفر فقال العباس بل نحن سقاة الحاج وعمرة البيت فنزلت الآية في ذلك{[5569]} ، وقال مجاهد : أمروا بالهجرة فقال العباس أنا أسقي الحاج وقال عثمان بن طلحة أنا حاجب للكعبة فلا نهاجر فنزلت { أجعلتم سقاية الحاج } إلى قوله { حتى يأتي الله بأمره } ، {[5570]} وقال مجاهد وهذا كله قبل فتح مكة ، وقال محمد بن كعب : إن العباس وعلياً وعثمان بن طلحة تفاخروا فقال العباس أنا ساقي الحاج وقال عثمان أنا عامر البيت ولو شئت بت فيه وقال علي أنا صاحب جهاد الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم والذي آمنت وهاجرت قديما ، فنزلت الآية في ذلك{[5571]} .