التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{۞أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (19)

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها : ما رواه مسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر النبى - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه فقال رجل : ما أبالى لا أعمل عملا بعد الإِسلام إلا أن أسقى الحاج . وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبى - صلى الله عليه وسلم - وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستنفيته فيما اختلفتم فيه . فأنزل الله . تعالى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج . . . . } الآية .

وأخرج ابن جرير عن عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج } : أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك . فقال العباس : أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام . ونفك العانى ، ونحجب البيت ، ونسقى الحاج فأنزل الله . تعالى . : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج . . } .

وقال صاحب المنار ، بعد أن ساق عدداً من الروايات في سبب نزول هذه الآيات . والمعتمد في هذه الروايات حديث النعمان لصحة سنده ، وموافقة متنه لما دلت عليه الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجابه . من أعمال البر الهينة المسلتذلة . وبين الإِيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة وهى أشق العبادات البدنية والمالية .

والسقاية والعمارة : مصدران من سقى وعمر . يتخفيف الميم .

والمراد بسقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء ، وكان العباس . رضى الله عنه . هو الذي يتولى إدارة هذا العمل .

قال الجمل : السقاية هي المحل الذي يتخذ فيه الشراب في الموسم . كان يشترى الزبيب فينبذ في ماء زمزم ويسقى للناس ، وكان يليها العباس جاهلية وإسلاماً ، وأقرها النبى - صلى الله عليه وسلم - له . . ويظهر أن المراد بها هنا المصدر . أى إسقاء الحجاج وإعطاء الماء لهم .

والمراد بعمارة المسجد الحرام : ما يشمل العبادة فيه ، وإصلاح بنائه ، وخدمته ، وتنظيفه . . . كما سبق أن بينا .

والهمزة في قوله . { أَجَعَلْتُمْ } للاستفهام الإِنكارى المتضمن معنى النهى .

والكلام على حذف مضاف ، لأن العمارة والسقاية مصدران ولا يتصور تشبيههما بالأعيان ، فلا بد من تقدير مضاف في أحد الجانبين حتى يتأتى التشبيه والمعنى : أجلتم أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ، وجاهد في سبيل الله ؟ ويؤديه قراءة { أَجَعَلْتُمْ سُقَايَةَ الحاج } بضم السين . جمع ساق . { وعمرة المسجد الحرام } بفتح العين والميم جمع عامر .

وعلى هذا المعنى يكون التقدير في جانب الصفة ، ويجوز أن يكون التقدير في جانب الذات فيكون المعنى .

أجعلتموهما ، أى السقاية والعمارة . كإيمان من آمن وجهاد من جاهد ؟ والخطاب يشمل بعض المؤمنين الذين آثروا السقاية والعمارة على الجهاد كما جاء في حديث النعمان . كما يشمل المشركين الذين كانوا يتفاخرون بأنهم سقاة الحجيج ، وعمارة المسجد الحرام .

والمقصود من الجملة الكريمة إنكار التسوية بين العملين وبين الفريقين . وقد جاء هذا الانكار صريحاً في قوله تعالى . { لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله } .

أى : لا يساوى الفريق الأول الثانى في حكم الله ، إذ أن الفريق الثانى له بفضل إيمانه الصادق . وجهاده الخالص الأجر الجزيل عند الله .

فالجملة الكريمة مستأنفة لتقرير الانكار المذكور وتأكيده ثم ختم - سبحانه . الآية الكريمة بقوله . { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } .

أى . والله تعالى . لا يوفق القوم الظالمين إلى معرفة الحق ، وتمييزه من الباطل ، لأنهم قد آثروا الشر على الخير والضلالة على الهداية .