البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (19)

{ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل : ما أبالي أنْ لا أعمل عملاً بعد أن أسقي الحاج .

وقال الآخر : ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أعمرَ المسجد الحرام .

وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ، ولكني إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه ، فنزلت هذه الآية .

وذكر ابن عطية وقوله أقوالاً آخر في سبب النزول كلها تدل على الافتخار بالسقاية والعمارة .

وقرأ الجمهور : سقاية وعمارة وهما مصدران نحو الصيانة والوقاية وقوبلا بالذوات ، فاحتيج إلى حذف من الأول أي : أهل سقاية ، أو حذف من الثاني أي : كعمل من آمن .

وقرأ ابن الزبير والباقر وأبو حيوة : سقاة الحاج ، وعمرة المسجد ، جمع ساق وجمع عامر كرام ورماة وصانع وصنعة .

وقرأ ابن جبير كذلك ، إلا أنه نصب المسجد على إرادة التنوين في عمرة .

وقرأ الضحاك : سقاية بضم السين ، وعمرة بني الجمع على فعال كرخل ورخال ، وظئر وظؤار ، وكان المناسب أن يكون بغير هاء ، لكنه أدخل الهاء كما دخلت في حجارة .

وكانت السقاية في بني هاشم وكان العباس يتولاها ، ولما نزلت هذه الآية قال العباس : ما أراني إلا أترك السقاية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أقيموا عليها فهي لكم خير » وعمارة المسجد هي السدانة ، وكان في بني عبد الدار ، وشيبة وعثمان بن طلحة هما اللذان دفع إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة في ثامن يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعليّ ، وقال صلى الله عليه وسلم لعثمان وشيبة : « خذوها خالدة تالدة لا ينازعكما عليها إلا ظالم » يعني السدانة .

ومعنى الآية : إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة .

ولما نفى المساواة بينهما أوضح بقوله : والله لا يهدي القوم الظالمين ، من الراجح منهما وأنّ الكافرين بالله هم الظالمون ظلموا أنفسهم بترك الإيمان بالله ، وبما جاء به الرسول ، وظلموا المسجد الحرام إذ جعله الله متعبداً له فجعلوه متعبداً لأوثانهم .

وذكر في المؤمنين إثبات الهداية لهم بقوله :

{ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } وفي المشركين هنا نفى الهداية بقوله : والله يهدي القوم الظالمين .