286- إن الله لا يكلف عباده إلا ما يستطيعون تأديته والقيام به ، ولذلك كان كل مكلف مجزياً بعمله : إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، فاضرعوا إلى الله - أيها المؤمنون - داعين : ربنا لا تعاقبنا إن وقعنا في النسيان لما كلفتنا إياه ، أو تعرضنا لأسباب يقع عندها الخطأ ، ربنا ولا تُشدِّد علينا في التشريع كما شددت على اليهود بسبب تعنتهم وظلمهم ، ولا تكلفنا ما لا طاقة لنا به من التكاليف ، واعف عنا بكرمك ، واغفر لنا بفضلك ، وارحمنا برحمتك الواسعة . إنك مولانا ، فانصرنا يا رب - من أجل إعلاء كلمتك ونشر دينك - على القوم الجاحدين .
وسئل سفيان بن عيينة عن قوله عز وجل { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } . قال : إلا يسرها ولم يكلفها فوق طاقتها ، وهذا قول حسن لأن الوسع ما دون الطاقة .
قوله تعالى : { لها ما كسبت } . أي للنفس ما عملت من الخير ، لها أجره وثوابه .
قوله تعالى : { وعليها ما اكتسبت } . من الشر وعليها وزره .
قوله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا } . أي لا تعاقبنا .
قوله تعالى : { إن نسينا } . جعله بعضهم من النسيان الذي هو السهو ، قال الكلبي : كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئاً مما أمروا به ، أو أخطأوا عجلت لهم العقوبة ، فحرم عليهم من شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب ، فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك ، وقيل هو من النسيان الذي هو الترك كقوله تعالى : ( نسوا الله فنسيهم ) .
قوله تعالى : { أو أخطأنا } . قيل معناه القصد والعمد ، يقال : أخطأ فلان إذا تعمد ، قال الله تعالى ( إن قتلهم كان خطأً كبيراً ) قال عطاء : { إن نسينا أو أخطأنا } يعني : أن جهلنا أو تعمدنا ، وجعله الأكثرون من الخطأ الذي هو الجهل والسهو ، لأن ما كان عمداً من الذنب فغير معفو عنه بل هو في مشيئة الله ، والخطأ معفو عنه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .
قوله تعالى : { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } . أي عهداً ثقيلاً وميثاقا لا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقضه وتركه .
قوله تعالى : { كما حملته على الذين من قبلنا } . يعني اليهود ، فلم يقوموا به فعذبتهم ، هذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والسدي والكلبي وجماعة يدل عليه قوله تعالى ( وأخذتم على ذلكم إصري ) أي عهدي ، وقيل معناه : لا تشدد ولا تغلظ الأمر علينا كما شددت على من قبلنا من اليهود ، وذلك أن الله فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ، ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها ، ومن أصاب ذنباً أصبح وذنبه مكتوب على بابه ، ونحوها من الأثقال والأغلال ، وهذا يعني قول عثمان وعطاء ومالك بن أنس وأبي عبيدة وجماعة يدل عليه قوله تعالى : " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " وقيل : الإصر ذنب لا توبة له ، معناه أعصمنا من مثله ، والأصل في العقل والإحكام .
قوله تعالى : { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } . أي لا تكلفنا من الأعمال مالا نطيقه ، وقيل هو حديث النفس والوسوسة . حكي عن مكحول أنه قال : هو الغلمة ، قيل : الغلمة : شدة الشهوة ، وعن إبراهيم قال : هو الحب ، وعن محمد بن عبد الوهاب قال : العشق ، وقال ابن جريج : هو مسخ القردة والخنازير وقيل هو شماتة الأعداء ، وقيل : هو الفرقة والقطيعة نعوذ بالله منها .
قوله تعالى : { واعف عنا } . أي تجاوز وامح عنا ذنوبنا .
قوله تعالى : { واغفر لنا } . استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا .
قوله تعالى : { وارحمنا } . فإننا لا ننال العمل إلا بطاعتك ، ولا نترك معصيتك إلا برحمتك .
قوله تعالى : { أنت مولانا } . ناصرنا وحافظنا وولينا .
قوله تعالى : { فانصرنا على القوم الكافرين } . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل ( غفرانك ربنا ) قال الله تعالى قد غفرت لكم وفي قوله ( لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) قال : لا أوأخذكم ( ربنا ولا تحمل علينا إصراً ) قال : لا أحمل عليكم إصراً { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال : لا أحملكم { واعف عنا } إلى آخره قال قد عفوت عنكم ، وغفرت لكم ، ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين . وكان معاذ بن جبل إذا ختم سورة البقرة قال : آمين .
{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
لما نزل قوله تعالى { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } شق ذلك على المسلمين لما توهموا أن ما يقع في القلب من الأمور اللازمة والعارضة المستقرة وغيرها مؤاخذون به ، فأخبرهم بهذه الآية أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها أي : أمرا تسعه طاقتها ، ولا يكلفها ويشق عليها ، كما قال تعالى { ما جعل عليكم في الدين من حرج } فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس ، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان ، وحمية عن الضرر ، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا ، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل ، إما بإسقاطه عن المكلف ، أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم ، ثم أخبر تعالى أن لكل نفس ما كسبت من الخير ، وعليها ما اكتسبت من الشر ، فلا تزر وازرة وزر أخرى ولا تذهب حسنات العبد لغيره ، وفي الإتيان ب " كسب " في الخير الدال على أن عمل الخير يحصل للإنسان بأدنى سعي منه بل بمجرد نية القلب وأتى ب " اكتسب " في عمل الشر للدلالة على أن عمل الشر لا يكتب على الإنسان حتى يعمله ويحصل سعيه ، ولما أخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه وأن كل عامل سيجازى بعمله ، وكان الإنسان عرضة للتقصير والخطأ والنسيان ، وأخبر أنه لا يكلفنا إلا ما نطيق وتسعه قوتنا ، أخبر عن دعاء المؤمنين بذلك ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال : قد فعلت . إجابة لهذا الدعاء ، فقال { ربَّنا لا تؤاخذْنا إن نَّسينا أو أخطأنا } والفرق بينهما : أن النسيان : ذهول القلب عن ما أمر به فيتركه نسيانا ، والخطأ : أن يقصد شيئا يجوز له قصده ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله : فهذان قد عفا الله عن هذه الأمة ما يقع بهما رحمة بهم وإحسانا ، فعلى هذا من صلى في ثوب مغصوب ، أو نجس ، أو قد نسي نجاسة على بدنه ، أو تكلم في الصلاة ناسيا ، أو فعل مفطرا ناسيا ، أو فعل محظورا من محظورات الإحرام التي ليس فيها إتلاف ناسيا ، فإنه معفو عنه ، وكذلك لا يحنث من فعل المحلوف عليه ناسيا ، وكذلك لو أخطأ فأتلف نفسا أو مالا فليس عليه إثم ، وإنما الضمان مرتب على مجرد الإتلاف ، وكذلك المواضع التي تجب فيها التسمية إذا تركها الإنسان ناسيا لم يضر . { ربنا ولا تحمل علينا إصرا } أي : تكاليف مشقة { كما حملته على الذين من قبلنا } وقد فعل تعالى فإن الله خفف عن هذه الأمة في الأوامر من الطهارات وأحوال العبادات ما لم يخففه على غيرها { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } وقد فعل وله الحمد { واعف عنا واغفر لنا وارحمنا } فالعفو والمغفرة يحصل بهما دفع المكاره والشرور ، والرحمة يحصل بها صلاح الأمور { أنت مولانا } أي : ربنا ومليكنا وإلهنا الذي لم تزل ولايتك إيانا منذ أوجدتنا وأنشأتنا فنعمك دارة علينا متصلة عدد الأوقات ، ثم أنعمت علينا بالنعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ، وهي نعمة الإسلام التي جميع النعم تبع لها ، فنسألك يا ربنا ومولانا تمام نعمتك بأن تنصرنا على القوم الكافرين ، الذين كفروا بك وبرسلك ، وقاوموا أهل دينك ونبذوا أمرك ، فانصرنا عليهم بالحجة والبيان والسيف والسنان ، بأن تمكن لنا في الأرض وتخذلهم وترزقنا الإيمان والأعمال التي يحصل بها النصر ، والحمد لله رب العالمين . تم تفسير سورة البقرة بعون الله وتوفيقه وصلى الله على محمد وسلم .
ثم هي العقيدة التي تعترف بالإنسان إنسانا ، لا حيوانا ولا حجرا ، ولا ملكا ولا شيطانا . تعترف به كما هو ، بما فيه من ضعف وما فيه من قوة ، وتأخذه وحدة شاملة مؤلفة من جسد ذي نوازع ، وعقل ذي تقدير ، وروح ذي أشواق . . وتفرض عليه من التكاليف ما يطيق ؛ وتراعي التنسيق بين التكليف والطاقة بلا مشقة ولا إعنات ؛ وتلبي كل حاجات الجسد والعقل والروح في تناسق يمثل الفطرة . . ثم تحمل الإنسان - بعد ذلك - تبعة اختياره للطريق الذي يختار :
( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .
وهكذا يتصور المسلم رحمة ربه وعدله في التكاليف التي يفرضها الله عليه في خلافته للأرض ؛ وفي ابتلائه في أثناء الخلافة ؛ وفي جزائه على عمله في نهاية المطاف . ويطمئن إلى رحمة الله وعدله في هذا كله ؛ فلا يتبرم بتكاليفه ، ولا يضيق بها صدرا ، ولا يستثقلها كذلك ، وهو يؤمن أن الله الذي فرضها عليه أعلم بحقيقة طاقته ، ولو لم تكن في طاقته ما فرضها عليه . ومن شأن هذا التصور - فضلا عما يسكبه في القلب من راحة وطمأنينة وأنس - أن يستجيش عزيمة المؤمن للنهوض بتكاليفه ، وهو يحس أنها داخلة في طوقه ؛ ولو لم تكن داخلة في طوقه ما كتبها الله عليه ؛ فإذا ضعف مرة أو تعب مرة أو ثقل العبء عليه ، أدرك أنه الضعف لا فداحة العبء ! واستجاش عزيمته ونفض الضعف عن نفسه وهم همة جديدة للوفاء ، ما دام داخلا في مقدروه ! وهو إيحاء كريم لاستنهاض الهمة كلما ضعفت على طول الطريق ! فهي التربية كذلك لروح المؤمن وهمته وإرادته ؛ فوق تزويد تصوره بحقيقة إرادة الله به في كل ما يكلفه .
ثم الشطر الثاني من هذا التصور :
( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .
فردية التبعة ، فلا تنال نفس إلا ما كسبت ؛ ولا تحمل نفس إلا ما اكتسبت . . فردية التبعة ، ورجعة كل إنسان إلى ربه بصحيفته الخاصة ، وما قيد فيها له أو عليه . فلا يحيل على أحد ، ولا ينتظر عون أحد . . ورجعة الناس إلى ربهم فرادى من شأنها - حين يستيقنها القلب - أن تجعل كل فرد وحدة إيجابية لا تنزل عن حق الله فيها لأحد من عباده إلا بالحق . وتقف كل إنسان مدافعا عن حق الله فيه تجاه كل إغراء ، وكل طغيان ، وكل إضلال ، وكل إفساد . فهو مسؤول عن نفسه هذه وعن حق الله فيها - وحق الله فيها هو طاعته في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه ، وعبوديتها له وحده شعورا وسلوكا - فإذا فرط في هذا الحق لأحد من العبيد تحت الإغراء والإضلال ، أو تحت القهر والطغيان - إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان - فما أحد من تلك العبيد بدافع عنه يوم القيامة ولا شافع له ؛ وما أحد من تلك العبيد بحامل عنه شيئا من وزره ولا ناصر له من الله واليوم الآخر . . ومن ثم يستأسد كل إنسان في الدفع عن نفسه والدفاع عن حق الله فيها ، ما دام هو الذي سيلقى جزاءه مفردا وحيدا ! ولا خوف من هذه الفردية - في هذا المقام - فمن مقتضيات الإيمان أن ينهض كل فرد في الجماعة بحق الجماعة عليه ، بوصفه طرفا من حق الله في نفسه . فهو مأمور أن يتكافل مع الجماعة في ماله وكسبه ، وفي جهده ونصحه ، وفي إحقاق الحق في المجتمع وإزهاق الباطل ، وفي تثبيت الخير والبر وإزاحة الشر والنكر . . وكل أولئك يحسب له أو عليه في صحيفته يوم يلقى الله فردا فيتلقى هنالك جزاءه !
وكأنما سمع المؤمنون هذه الحقيقة وأدركوها . . فها هو ذا ينطلق من قلوبهم دعاء خافق واجف ، يذكره النص القرآني بطريقة القرآن التصويرية ؛ فكأنما نحن أمام مشهد الدعاء ، وصفوف المؤمنين قائمة تردده في خشوع ؛ عقب إعلان حقيقة التكاليف وحقيقة الجزاء :
( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا . ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا . ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به . واعف عنا ، واغفر لنا ، وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) . .
وهو دعاء يصور حال المؤمنين مع ربهم ؛ وإدراكهم لضعفهم وعجزهم ، وحاجتهم إلى رحمته وعفوه ، وإلى مدده وعونه ؛ وإلصاق ظهورهم إلى ركنه ، والتجائهم إلى كنفه ، وانتسابهم إليه وتجردهم من كل من عداه ؛ واستعدادهم للجهاد في سبيله واستمدادهم النصر منه . . كل أولئك في نغمة وادعة واجفة تصور بإيقاعاتها وجيب القلب ورفرفة الروح . .
( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) .
فدائرة الخطأ والنسيان هي التي تحكم تصرف المسلم حين ينتابه الضعف البشري الذي لا حيلة له فيه . وفي مجالها يتوجه إلى ربه يطلب العفو والسماح . وليس هو التبجح إذن بالخطيئة أو الإعراض ابتداء عن الأمر ، أو التعالي عن الطاعة والتسليم ؛ أو الزيغ عن عمد وقصد . . ليس في شيء من هذا يكون حال المؤمن مع ربه ؛ وليس في شيء من هذا يطمع في عفوه أو سماحته . . إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينيب . . وقد استجاب الله لدعاء عباده المؤمنين في هذا ، فقال رسول الله [ ص ] : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه " .
( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) . .
وهو دعاء ينبعث من وراثة الأمة المسلمة لتراث الرسالة كله ، ومعرفتهم - كما علمهم ربهم في هذا القرآن - بما كان من سلوك الأمم التي جاءتها الرسالات قبلهم ؛ وما حملهم الله من الآصار والأثقال عقوبة لهم على بعض ما كان منهم . فقد حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات بعملهم . وفي آية الأنعام : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) . . وكتب عليهم قتل أنفسهم تكفيرا عن عبادتهم للعجل كما سبق في أول هذه السورة . وحرم عليهم( السبت )أن يبتغوا فيه تجارة أو صيدا . . وهكذا فالمؤمنون يدعون ربهم ألا يحمل عليهم أثقالا كالتي حملها على الذين من قبلهم ، وقد بعث الله النبي الأمي يضع عن المؤمنين به من البشر كافة : ( إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) . . فجاءت هذه العقيدة سمحة ميسرة ، هينة لينة ، تنبع من الفطرة وتتبع خط الفطرة ، وقيل للرسول [ ص ]( ونيسرك لليسرى ) .
على أن الإصر الأكبر الذي رفعه الله عن كاهل الأمة المسلمة ، والذي حمله الله على عاتق الأمم التي استخلفها في الأرض قبلهم فنقضت عهد الاستخلاف وحادت عنه . . هذا الإصر الأكبر هو إصر العبودية للبشر . عبودية العبد للعبد . ممثلة في تشريع العبد للعبد . وفي خضوع العبد للعبد لذاته أو لطبقته أو لجنسه . . فهذا هو الإصر الأكبر الذي أطلق الله عباده المؤمنين منه ، فردهم إلى عبادته وحده وطاعته وحده ، وتلقي الشريعة منه وحده . وحرر بهذه العبودية لله الواحد الأحد أرواحهم وعقولهم وحياتهم كلها من العبودية للعبيد !
إن العبودية لله وحده - متمثلة في تلقي الشرائع والقوانين والقيم والموازين منه وحده - هي نقطة الانطلاق والتحرر البشري . الانطلاق والتحرر من سلطان الجبارين والطغاة ، ومن سلطان السدنة والكهنة ، ومن سلطان الأوهام والخرافات ، ومن سلطان العرف والعادة ، ومن سلطان الهوى والشهوة . ومن كل سلطان زائف يمثل الإصر الذي يلوي اعناق البشر ويخفض جباههم لغير الواحد القهار .
ودعاء المؤمنون : ( ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) : يمثل شعورهم بنعمة الانطلاق والتحرر من العبودية للعبيد ؛ كما يمثل خوفهم من الارتداد إلى ذلك الدرك السحيق .
( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) . .
وهو دعاء يشي بحقيقة الاستسلام . فالمؤمنون لا ينوون نكولا عن تكليف الله أيا كان . ولكنهم فقط يتوجهون إليه راجين متطلعين أن يرحم ضعفهم فلا يكلفهم ما لا يطيقون . كي لا يعجزوا عنه ويقصروا فيه . . وإلا فهي الطاعة المطلقة والتسليم . . إنه طمع الصغير في رحمة الكبير . ورجاء العبد الضعيف في سماحة المالك المتصرف . وطلب ما هو من شأن الله في معاملته لعباده من كرم وبر وود وتيسير .
ثم الاعتراف بالضعف بعد ذلك والتوجس من التقصير ، الذي لا يمحو آثاره إلا فضل الله العفو الغفور :
( واعف عنا ، واغفر لنا وارحمنا ) .
فهذا هو الضمان الحقيقي لاجتياز الامتحان ، ونيل الرضوان . فالعبد مقصر مهما يحاول من الوفاء . ومنرحمة الله به أن يعامله بالعفو والمرحمة والغفران . . عن عائشة رضي الله عنها ، قال رسول الله [ ص ] : " لا يدخل أحدكم الجنة بعمله " . . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا . إلا أن يتغمدني الله برحمته " .
وهذا هو قوام الأمر في حس المؤمن : عمل بكل ما في الوسع . وشعور مع ذلك بالتقصير والعجز . . ورجاء - بعد ذلك - في الله لا ينقطع . وتطلع إلى العفو والمغفرة والسماح .
وأخيرا يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله ، وهم يهمون بالجهاد في سبيله ، لإحقاق الحق الذي إراده ، وتمكين دينه في الأرض ومنهجه ، ( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) . يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله الركين ؛ ويرفعون رايته على رؤوسهم فينتسبون إليه وحده . إذا انتسبت الجاهلية إلى شتى الشعارات والعنوانات ؛ ويطلبون نصره لأوليائه بما أنه هو مولاهم الوحيد ؛ وهم باسمه يقاتلون الكفار الخارجين :
( أنت مولانا ، فانصرنا على القوم الكافرين ) . .
إنه الختام الذي يلخص السورة . ويلخص العقيدة . ويلخص تصور المؤمنين ، وحالهم مع ربهم في كل حين . .
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( 286 )
قوله تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } خبر جزم نص على أنه لا يكلف العباد من وقت نزوله الآية عبادة من أعمال القلوب والجوارح إلا وهي في وسع المكلف ، وفي مقتضى إدراكه وبنيته ، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر ، وتأول من ينكر جواز تكليف ما لا يطاق هذه الآية بمعنى أنه لا يكلف ولا كلف وليس ذلك بنص في الآية ولا أيضاً يدفعه اللفظ ، ولذلك ساغ الخلاف( {[2869]} ) .
وهذا المعنى الذي ذكرناه في هذه الآية يجري مع معنى قوله تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] وقوله تعالى : { ما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] وقوله : { فاتقوا الله ما استطعتم }( {[2870]} ) [ التغابن : 16 ] .
واختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا بعد اتفاقهم . على أنه ليس واقعاً الآن في الشرع ، وأن هذه الآية آذنت بعدمه ، فقال أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً ولا يحرم ذلك شيئاً من عقائد الشرع ، ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف وقطعاً به( {[2871]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وينظر إلى هذا تكليف المصور أن يعقد شعيرة حسب الحديث( {[2872]} ) .
واختلف القائلون بجوازه( {[2873]} ) هل وقع في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ فقالت فرقة وقع في نازلة أبي لهب( {[2874]} ) لأنه حكم عليه بتب اليدين وصلي النار ، وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن ، وتكليف الشرع له الإيمان راتب( {[2875]} ) ، فكأنه كلف أن يؤمن وأن يكون في إيمانه أنه لا يؤمن لأنه إذا آمن فلا محالة أنه يؤمن بسورة { تبت يدا أبي لهب }( {[2876]} ) [ المسد : 1 ] ، وقالت فرقة لم يقع قط ، وقوله تعالى : { سيصلى ناراً }( {[2877]} ) [ المسد : 3 ] إنما معناه إن وافى على كفره .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وما لا يطاق ينقسم أقساماً : فمنه المحال عقلاً كالجمع بين الضدين ، ومنه المحال عادة ، كرفع الإنسان جبلاً ، ومنه ما لا يطاق من حيث هو مهلك كالاحتراق بالنار ونحوه ، ومنه ما لا يطاق للاشتغال بغيره ، وهذا إنما يقال فيه ما لا يطاق على تجوز كثير( {[2878]} ) ، و { يكلف } يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف تقديره «عبادة » أو شيئاً( {[2879]} ) ، وقرأ ابن أبي عبلة «إلا وَسِعها » بفتح الواو وكسر السين ، وهذا فيه تجوز لأنه مقلوب ، وكان وجه اللفظ إلا وسعته ، كما قال { وسع كرسيه السموات والأرض }( {[2880]} ) [ البقرة : 255 ] وكما قال { وسع كل شيء علماً }( {[2881]} ) [ طه : 98 ] ولكن يجيء هذا من باب أدخلت القلنسوة في رأسي ، وفمي في الحجر .
وقوله تعالى : { لها ما كسبت } يريد من الحسنات ، { وعليها ما اكتسبت } يريد من السيئات ، قاله السدي وجماعة من المفسرين ، لا خلاف في ذلك ، والخواطر ونحوها ليس من كسب الإنسان .
وجاءت العبارة في الحسنات ب { لها } من حيث هي مما يفرح الإنسان بكسبه ويسر بها فتضاف إلى ملكه ، وجاءت في السيئات ب { عليها } ، من حيث هي أوزار وأثقال ومتحملات صعبة ، وهذا كما تقول لي مال وعلي دين ، وكما قال المتصدق باللقطة : اللهم عن فلان فإن أبى فلي وعليَّ ، وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسناً لنمط الكلام . كما قال { فمهل الكافرين أمهلهم رويداً } [ الطلاق : 17 ] هذا وجه ، والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلف ، إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه ، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ويتخطاه إليها ، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازاً لهذا المعنى ، وقال المهدوي وغيره : وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد .
قال القاضي أبو محمد : وهذا صحيح في نفسه ، لكن من غير هذه الآية .
وقوله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا } معناه قولوا في دعائكم .
واختلف الناس في معنى قوله { نسينا أو أخطأنا } فذهب الطبري وغيره إلى أنه النسيان بمعنى الترك ، أي إن تركنا شيئاً من طاعتك وأنه الخطأ المقصود . قالوا وأما النسيان الذي يغلب المرء والخطأ الذي هو عن اجتهاد فهو موضع عن المرء ، فليس بمأمور في الدعاء بأن لا يؤاخذ به ، وذهب كثير من العلماء إلى أن الدعاء في هذه الآية إنما هو في النسيان الغالب والخطأ غير المقصود ، وهذا هو الصحيح عندي . قال قتادة في تفسير الآية بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تجاوز لأمتي عن نسيانها وخطأها . وقال السدي نزلت هذه الآية فقالوها ؛ قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : قد فعل الله ذلك يا محمد .
قال القاضي أبو محمد : فظاهر قوليهما ما صححته ، وذلك أن المؤمنين لما كشف عنهم ما خافوه في قوله تعالى : { يحاسبكم به الله } [ البقرة : 284 ] أمروا بالدعاء في دفع ذلك النوع الذي ليس من طاقة الإنسان دفعه ، وذلك في النسيان والخطأ ، «والإصر » الثقل وما لا يطاق على أتم أنواعه ، وهذه الآية على هذا القول تقضي بجواز تكليف ما لا يطاق ، ولذلك أمر المؤمنون بالدعاء في أن لا يقع هذا الجائز الصعب . ومذهب الطبري والزجاج أن تكليف ما لا يطاق غير جائز( {[2882]} ) ، فالنسيان عندهم المتروك من الطاعات . والخطأ هو المقصود من العصيان ، والإصر هي العبادات الثقيلة كتكاليف بني إسرائيل من قتل أنفسهم وقرض أبدانهم ومعاقباتهم على معاصيهم في أبدانهم حسبما كان يكتب على أبوابهم وتحميلهم العهود الصعبة . وما لا طاقة للمرء به هو عندهم على تجوز ، كما تقول لا طاقة لي على خصومة فلان ، ولغير ذلك من الأمر تستصعبه وإن كنت في الحقيقة تطيقه أو يكون ذلك { ما لا طاقة لنا به } من حيث هو مهلك لنا كعذاب جهنم وغيره( {[2883]} ) .
وأما لفظة «أخطأ » فقد تجيء في القصد ومع الاجتهاد ، قال قتادة : الإصر العهد والميثاق الغليظ( {[2884]} ) . وقاله مجاهد وابن عباس والسدي وابن جريج والربيع وابن زيد وقال عطاء : الإصر المسخ قردة وخنازير . وقال ابن زيد أيضاً : الإصر الذنب لا كفارة فيه ولا توبة منه . وقال مالك رحمه الله : الإصر : الأمر الغليظ الصعب .
قال القاضي أبو محمد : والآصرة في اللغة : الأمر الرابط من ذمام أوقرابة أو عهد ونحوه ، فهذه العبارات كلها تنحو نحوه ، والإصار الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها ، والِقُّد يضم عضدي الرجل( {[2885]} ) يقال أصر يأصر والإصر بكسر الهمزة من ذلك ، وفي هذا نظر( {[2886]} ) . وروي عن عاصم أنه قرأ أُصراً بضم الهمزة ، ولا خلاف أن الذين من قبلنا يراد به اليهود . قال الضحاك : والنصارى ، وأما عبارات المفسرين في قوله : { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } فقال قتادة لا تشدد علينا كما شددت على من كان قبلنا . وقال الضحاك : لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق ، وقال نحوه ابن زيد ، وقال ابن جريج : لا تمسخنا قردة وخنازير( {[2887]} ) ، وقال سلام بن سابور : الذي لا طاقة لنا به الُغَلَمة( {[2888]} ) ، وحكاه النقاش عن مجاهد وعطاء وعن مكحول ، وروي أن أبا الدرداء كان يقول في دعائه : وأعوذ بك في غلمة ليس لها عدة ، وقال السدي : هو التغليظ والأغلال التي كانت على بني إسرائيل من التحريم ، ثم قال تعالى فيما أمر المؤمنين بقوله : { واعف عنا } أي فيما واقعناه وانكشف { واغفر لنا } أي استر علينا ما علمت منا { وارحمنا } أي تفضل مبتدئاً برحمة منك لنا .
قال القاضي أبو محمد : فهي مناح للدعاء متباينة وإن كان الغرض المراد بكل واحد منها واحداً وهو دخول الجنة و { أنت مولانا } مدح في ضمنه تقرب إليه وشكر على نعمه ، ومولى هو من ولي فهو مفعل أي موضع الولاية ، ثم ختمت الدعوة( {[2889]} ) بطلب النصر على الكافرين الذي هو ملاك قيام الشرع وعلو الكلمة ووجود السبيل إلى أنواع الطاعات .
وروي أن جبريل عليه السلام أتى محمداً صلى الله عليه وسلم فقال : { قل ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ، فقالها ، فقال جبريل قد فعل ، فقال : قل كذا وكذا فيقولها فيقول جبريل : قد فعل إلى آخر السورة ، وتظاهرت بهذا المعنى أحاديث ، وروي عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال آمين( {[2890]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذا يظن به أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن كان ذلك فكمال ، وإن كان بقياس على سورة الحمد من حيث هناك دعاء وهنا دعاء فحسن ، وروى أبو مسعود عقبة بن عمرو( {[2891]} ) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ، »( {[2892]} ) يعني من قيام الليل ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما أظن أحداً عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «أوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن أحد قبلي »( {[2893]} ) .
الأظهر أنّه من كلام الله تعالى ، لا من حكاية كلام الرسول والمؤمنين ، فيكون اعتراضاً بين الجمل المحكية بالقول ، وفائدته إظهار ثمرة الإيمان ، والتسليم ، والطاعة ، فأعلمهم الله بأنّه لم يجعل عليهم في هذا الدين التكليف بما فيه مشقة ، وهو مع ذلك تبشير باستجابة دعوتهم الملقنة ، أو التي ألهموها : وهي { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ } إلى قوله { ما لا طاقة لنا به } قبل أن يحكي دعواتهم تلك .
ويجوز أن يكون من كلام الرسول والمؤمنين ، كأنّه تعليل لقولهم سمعنا وأطعنا أي علمنا تأويل قول ربنا : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } [ البقرة : 284 ] بأنّه يدخلها المؤاخذة بما في الوسع ، ممَّا أبدى وما أخفى ، وهو ما يظهر له أثر في الخارج اختياراً ، أو يعقد عليه القلب ، ويطمئنّ به ، إلاّ أنّ قوله : { لها ما كسبت } إلخ يبعد هذا ؛ إذ لا قبل لهم بإثبات ذلك .
فعلى أنّه من كلام الله فهو نسخ لقوله : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } وهذا مروي في « صحيح مسلم » عن أبي هريرة وابن عباس{[203]} أنّه قال : لما نزلت { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } [ البقرة : 284 ] اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله فأتوه وقالوا : لا نطيقها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا : " سمعنا وأطعنا وسلمنا " فألقى الله الإيمان في قلوبهم ، فلمّا فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } ، وإطلاق النسخ على هذا اصطلاح للمتقدّمين ، والمراد البيانُ والتخصيص لأنّ الذي تطمئنّ له النفس : أنّ هذه الآيات متتابعة النظم ، ومع ذلك يجوز أن تكون نزلت منجّمة ، فحدَث بين فترة نزولها ما ظنّه بعض المسلمين حرجاً .
والوسع في القراءة بضم الواو ، في كلام العرب مثلّث الواو وهو الطاقة والاستطاعة ، والمراد به هنا ما يطاق ويستطاع ، فهو من إطلاق المصدر وإرادة المفعول . والمستطاع هو ما اعتادَ الناسُ قدرتَهم على أن يفعلوه إن توجّهت إرادتهم لفعله مع السلامة وانتفاء الموانع .
وهذا دليل على عدم وقوع التكليف بما فوق الطاقة في أديان الله تعالى لعموم ( نفساً ) في سياق النفي ، لأنّ الله تعالى ما شرع التكليف إلاّ للعمل واستقامة أحوال الخلق ، فلا يكلّفهم ما لا يطيقون فعله ، وما ورد من ذلك فهو في سياق العقوبات ، هذا حكم عام في الشرائع كلّها .
وامتازت شريعة الإسلام باليسر والرفق ، بشهادة قوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] وقوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ، ولذلك كان من قواعد الفقه العامة « المشقّةُ تجلب التيسير » . وكانت المشقة مظنّة الرخصة ، وضبط المشاقّ المسقطة للعبادة مذكور في الأصول ، وقد أشبعت القول فيه في كتابي المسمّى « مقاصد الشريعة » وما ورد من التكاليف الشاقّة فأمر نادر ، في أوقات الضرورة ، كتكليف الواحد من المسلمين بالثباتِ للعشرة من المشركين ، في أول الإسلام ، وقلّة المسلمين .
وهذه المسألة هي المعنونة في كتب الأصلين بمسألة التكليف بالمحَال ، والتكليف بما لا يطاق ، وهي مسألة أرنَّت بها كتب الأشاعرة والمعتزلة ، واختلفوا فيها اختلافاً شهيراً ، دعا إليه التزام الفريقين للوازم أصولهم وقواعدهم فقالت الأشاعرة : يجوز على الله تكليف ما لا يطاق بناء على قاعدتهم في نفي وجوب الصلاح على الله ، وأنّ ما يصدر منه تعالى كلّه عدل لأنّه مالك العباد ، وقاعدتهم في أنّه تعالى يخلق ما يشاء ، وعلى قاعدتهم في أنّ ثمرة التكليف لا تختص بقصد الامتثال بل قد تكون لقصد التعجيز والابتلاء وجعل الامتثال علامة على السعادة ، وانتفائه علامة على الشقاوة ، وترتّب الإثم لأنّ لله تعالى إثابَة العاصي ، وتعذيبَ المطيع ، فبالأوْلى تعذيب من يأمره بفعل مستحيل ، أو متعذّر ، واستدلّوا على ذلك بحديث تكليف المصوّر بنفخ الروحِ في الصورة وما هو بنافخ ، وتكليف الكاذب في الرؤيا بالعقد بين شعيرتين وما هو بفاعل . ولا دليل فيه لأنّ هذا في أمور الآخرة ، ولأنّهما خبرَا آحاد لا تثبت بمثلها أصول الدين . وقالت المعتزلة : يمتنع التكليف بما لا يطاق بناء على قاعدتهم في أنّه يجب الله فعل الصلاح ونفي الظلم عنه ، وقاعدتهم في أنّه تعالى لا يخلق المنكرات من الأفعال ، وقاعدتهم في أنّ ثمرة التكليف هو الامتثال وإلاّ لصار عبثاً وهو مستحيل على الله ، وأنّ الله يستحيل عليه تعذيب المطيع وإثابة العاصي .
واستدلّوا بهذه الآية ، وبالآيات الدالة على أصولِها : مثل { ولا يظلم ربك أحداً } [ الكهف : 49 ] { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] { قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء } [ الأعراف : 28 ] إلخ .
والتحقيق أنّ الذي جرّ إلى الخوض في المسألة هو المناظرة في خلق أفعال العباد ، فإنّ الأشعري لما نفى قدرة العبد ، وقال بالكسب ، وفسّره بمقارنة قدرة العبد لحصول المقدورِ دون أن تكون قدرته مؤثرّة فيه ، ألزمهم المعتزلة القول بأنّ الله كلّف العباد بما ليس في مقدورهم ، وذلك تكليف بما لا يطاق ، فالتزم الأشعري ذلك ، وخالف إمام الحرمين والغزالي الأشعريّ في جواز تكليف ما لا يطاق والآية لا تنهض حجة على كلا الفريقين في حكم إمكان ذلك .
ثم اختلف المجوّزون : هل هو واقع ، وقد حكى القرطبي الإجماع على عدم الوقوع وهو الصواب في الحكاية ، وقال إمام الحرمين في « البرهان » : « والتكاليف كلّها عند الأشعري من التكليف بما لا يطاق ، لأنّ المأمورات كلّها متعلّقة بأفعال هي عند الأشعري غير مقدورة للمكلّف ، فهو مأمور بالصلاة وهو لا يقدر عليها ، وإنّما يُقْدِره الله تعالى عند إرادة الفعل مع سلامة الأسباب والآلات » وما ألزمُه إمام الحرمين الأشعريّ إلزام باطل ؛ لأنّ المراد بما لا يطاق ما لا تتعلّق به قدرة العبد الظاهرة ، المعبّر عنها بالكسب ، للفرق البيِّن بين الأحوال الظاهرة ، وبين الحقائق المستورة في نفس الأمر ، وكذلك لا معنى لإدخال ما عَلِمَ الله عدمَ وقوعه ، كأمر أبي جهل بالإيمان مع عِلم الله بأنّه لا يؤمن ، في مسألة التكليف بما لا يطاق ، أو بالمحال ؛ لأنّ علم الله ذلك لم يطّلع عليه أحد .
وأورد عليه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا لهب إلى الإسلام وقد علم الله أنّه لا يسلم لقوله تعالى : { تبت يدا أبي لهب وتب إلى قوله سيصلى ناراً ذات لهب } [ المسد : 1 ، 3 ] فقد يقال : إنّه بعد نزول هذه الآية لم يخاطَب بطلب الإيمان وإنّما خوطب قبل ذلك ، وبذلك نسلم من أن نقول : إنّه خارج عن الدعوة ، ومن أن نقول : إنّه مخاطب بعد نزول الآية .
وهذه الآية تقتضي عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في الشريعة ، بحسب المتعارف في إرادة البشر وقُدَرِهم ، دون ما هو بحسب سرّ القَدَر ، والبحث عن حقيقة القدرة الحادثة ، نعم يؤخذ منها الرد على الجبرية .
وقوله : { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } حال من « نَفَسا » لبيان كيفية الوسع الذي كلفت به النفس : وهو أنّه إن جاءت بخير كان نفعه لها وإن جاءت بشرّ كان ضُرّه عليها . وهذا التقسيم حاصل من التعليق بواسطة « اللاّم » مرة وبواسطة ( علَى ) أخرى . وأما كسبت واكتسبت فبمعنى واحد في كلام العرب ؛ لأنّ المطاوعة في اكتسب ليست على بابها ، وإنّما عبّر هنا مرة بكَسَبت وأخرى باكتسبت تفنّناً وكراهيةَ إعادة الكلمة بعينها ، كما فعل ذو الرمة في قوله :
ومُطعَمِ الصيد هَبَّال لبُغيته *** ألفَى أباه بذاك الكَسْب مُكتسِبا{[204]}
* فحملت بَرّةَ واحتَمَلْتَ فجارِ *
وابتدُىء أولاً بالمشهور الكثير ، ثم أعيد بمطاوعه ، وقد تَكون ، في اختيار الفعل الذي أصله دَالٌ على المطاوعة ، إشارةٌ إلى أنّ الشرور يأمر بها الشيطان ، فتأتمر النفس وتطاوعه وذلك تبْغيض من الله للناس في الذنوب . واختير الفعل الدال على اختيار النفس للحسنات ، إشارة إلى أنّ الله يسوق إليها الناس بالفطرة ، ووقع في « الكشاف » أنْ فعل المطاوعة لدلالته على الاعتمال ، وكان الشرّ مشتهًى للنفس ، فهي تَجِدُّ تحصيله ، فعبّر عن فعلها ذلك بالاكتساب .
والمراد بما اكتسبت الشرور ، فمن أجل ذلك ظنّ بعض المفسرين أنّ الكسب هو اجتناء الخير ، والاكتساب هو اجتناء الشر ، وهو خلاف التحقيق ؛ ففي القرآن { ولا تكسب كلّ نفس إلاّ عليها } [ الأنعام : 164 ] ثم قيل للذين ظلموا { ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلاّ بما كنتم تكسبون } [ يونس : 52 ] وقد قيل : إنّ اكتسب إذا اجتمع مع كسب خُصّ بالعمل الذي فيه تكلّف . لكن لم يرد التعبير باكتسبت في جانب فعل الخير .
وفي هذه الآية مأخذ حسن لأبي الحسن الأشعري في تسميته استطاعة العبد كسبا واكتساباً ؛ فإنّ الله وصف نفسه بالقدرة .
ولم يصف العباد بالقدرة ، ولا أسند إليهم فعل قَدَر وَإنّما أسند إليهم الكسب ، وهو قول يجمع بين المتعارضات ويفي بتحقيق إضافة الأفعال إلى العباد ، مع الأدب في عدم إثبات صفة القدرة للعباد ، وقد قيل : إنّ أول من استعمل كلمة الكسب هو الحسين بن محمد النجار ، رأس الفرقة النجارية من الجبرية ، كان معاصِراً للنظام في القرن الثالث ، ولكن اشتهر بها أبو الحسن الأشعري حتى قال الطلبة في وصف الأمر الخفي : « أدقُّ مِن كَسْب الأشعريّ » .
وتعريف الكسب ، عند الأشعري : هو حالة للعبد يقارنها خَلْقُ الله فعلاً متعلَّقاً بها . وعرّفه الإمام الرازي بأنّه صفة تَحصلُ بقدرة العبد لفعله الحاصل بقدرة الله . وللكسب تعاريف أخر .
وحاصل معنى الكسب ، وما دعا إلى إثباته : هو أنّه لما تقرر أنّ الله قادر على جميع الكائنات الخارجة عن اختيار العبد ، وجب أن يقرّر عموم قدرته على كلّ شيء لئلاّ تكون قدرة الله غير متسلّطة على بعض الكائنات ، إعمالاً للأدلة الدالة على أنّ الله على كلّ شيء قدير ، وأنّه خالق كلّ شيء ، وليس لعموم هذه الأدلة دليل يخصّصه ، فوجب إعمال هذا العموم . ثم إنّه لما لم يجز أن يُدّعى كون العبد مجبوراً على أفعاله ، للفرق الضروري بين الأفعال الاضطرارية ، كحركة المرتعش ، والأفعالِ الاختيارية ، كحركة الماشي والقاتِل ، ورعيا لحقيّة التكاليف الشرعية للعباد لئلاّ يكون التكليف عبثاً ، ولحقيّة الوعد والوعيد لئلاّ يكون باطلاً ، تعيّن أن تكون للعبد حالة تمكِّنه من فعل ما يريد فعله ، وتركِ ما يريد تركه ، وهي ميله إلى الفعل أو الترك ، فهذه الحالة سمّاها الأشعري الاستطاعة ، وسمّاها كسباً . وقال : إنّها تتعلّق بالفعل فإذا تعلّقت به خلق الله الفعل الذي مال إليه على الصورة التي استحضرها ومال إليها .
وتقديم المجروريْن في الآية : لقصد الاختصاص ، أي لا يلحق غيرها شيء ولا يلحقها شيء من فعل غيرها ، وكأنّ هذا إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية : من اعتقاد شفاعة الآلهة لهم عند الله .
وتمسّك بهذه الآية من رأى أنّ الأعمال لا تقبل النيابة في الثواب والعقاب ، إلاّ إذا كان للفاعل أثر في عمل غيره ؛ ففي الحديث : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث : صدقة جارية وعلم بثّه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له " وفي الحديث : " ما من نفس تُقتل ظلماً إلاّ كان على ابن آدم الأول كِفل من دمها ذلك لأنّه أول من سنّ القتل " وفي الحديث : " من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سنّ سنة سيِّئَة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " .
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ أَنتَ مولانا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } .
يجوز أن يكون هذا الدعاء محكيّاً من قول المؤمنين : الذين قالوا : { سمعنا وأطعنا } [ البقرة : 285 ] ، بأن اتّبعوا القبول والرضا ، فتوجّهوا إلى طلب الجزاء ومناجاة الله تعالى . واختيارُ حكاية هذا عنهم في آخر السورة تكملة للإيذان بانتهائها . ويجوز أن يكون تلقينا من جانب الله تعالى إياهم : بأن يقولوا هذا الدعاء ، مثل ما لقّنوا التحميد في سورة الفاتحة فيكون التقدير ، قولوا : { ربنا لا تؤاخذنا } إلى آخر السورة ؛ إنّ الله بعد أن قرر لهم أنّه لا يكلّف نفساً إلاّ وسعها ، لقّنهم مناجاة بدعوات هي من آثار انتفاء التكليف بما ليس في الوسع . والمراد من الدعاء به طلب الدوام على ذلك لئلا يُنسخ ذلك من جراء غضب الله كما غضب على الذين قال فيهم : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } [ النساء : 160 ] .
والمؤاخذة مشتقّة من الأخذ بمعنى العقوبة ، كقوله : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة } [ هود : 102 ] والمفاعلة فيه للمبالغة أي لا تأخذنا بالنسيان والخطأ .
والمراد ما يترتّب على النسيان والخطأ من فِعل أو ترك لا يرضيان الله تعالى .
فهذه دعوة من المؤمنين دعوها قبل أن يعلموا أنّ الله رفع عنهم ذلك بقوله : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وفي رواية : " وضع " رواه ابن ماجه وتكلم العلماء في صحته ، وقد حسّنه النووي ، وأنكره أحمد ، ومعناه صحيح في غير ما يرجع إلى الخطاب الوضع . فالمعنى رفع الله عنهم المؤاخذة فبقيت المؤاخذة بالإتلاف والغرامات ولذلك جاء في هذه الدعوة « لا تؤاخذنا » أي لا تؤاخذنا بالعقاب على فعلٍ : نسيانٍ أو خطأ ، فلا يرد إشكال الدعاء بما عُلم حصوله ، حتى نحتاج إلى تأويل الآية بأنّ المراد بالنسيان والخطأ سببهما وهو التفريط والإغفال كما في « الكشاف » .
وقوله : { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } إلخ فصلّ بين الجملتين المتعاطفتين ، بإعادة النداء ، مع أنّه مستغنى عنه : لأنّ مخاطبة المنادى مغنِيَة عن إعادَة النداء لكن قصد من إعادته إظهار التذلّل . والحمل مجاز في التكليف بأمر شديد يثقل على النفس ، وهو مناسب لاستعارة الإصر .
وأصل معنى الإصر ما يُؤصَر به أي يُربط ، وتعقد به الأشياء ، ويقال له : الإصار بكسر الهمزة ثم استعمل مجازاً في العهد والميثاق المؤكّد فيما يصعب الوفاء به ، ومنه قوله في آل عمران ( 81 ) : { قال آقررتم وأخذتم على ذلكم إصري } وأطلق أيضاً على ما يثقل عمله ، والامتثالُ فيه ، وبذلك فسّره الزجاج والزمخشري هنا وفي قوله ، في سورة الأعراف ( 157 ) :
{ ويضع عنهم إصرهم } وهو المقصود هنا ، ومن ثم حسنت استعارة الحَمْل للتكليف ، لأنّ الحمل يناسب الثِقَل فيكون قوله : { ولا تحمِلْ } ترشيحاً مستعاراً لملائم المشبّه به وعن ابن عباس : { ولا تحمل علينا إصراً } عهداً لا نفي به ، ونعذّب بتركه ونقضه » .
وقوله : { كما حملته على الذين من قبلنا } صفة ل { إصراً } أي عهداً من الدين ، كالعهد الذي كلّف به من قبلنا في المشقة ، مثل ما كلّف به بعض الأمم الماضية من الأحكام الشاقّة مثل أمر بني إسرائيل بتيه أربعين سنة ، وبصفات في البقرة التي أمروا بذبحها نادرة ونحو ذلك ، وكل ذلك تأديب لهم على مخالفات ، وعلى قلة اهتبال بأوامر الله ورسوله إليهم ، قال تعالى في صفة محمد صلى الله عليه وسلم " ويضع عنهم إصرهم " .
وقوله : { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } أي ما لا نستطيع حمله من العقوبات . والتضعيف فيه للتعدية . وقيل : هذا دعاء بمعافاتهم من التكاليف الشديدة ، والذي قبله دعاء بمعافاتهم من العقوبات التي عوقبت بها الأمم . والطاقة في الأصل الإطاقة خفّفت بحذف الهمزة كما قالوا : جابة وإجابة وطاعة وإطاعة .
والقول في هذين الدعاءين كالقول في قوله : { ربنا لا تؤاخذنا } .
وقوله : { واعف عنا واغفر لنا } لم يؤت مع هذه الدعوات بقوله ربّنا ، إمّا لأنّه تكرّر ثلاث مرات ، والعرب تكره تكرير اللفظ أكثر من ثلاث مرات إلاّ في مقام التهويل ، وإمّا لأنّ تلك الدعوات المقترنة بقوله : { ربنا } فروع لهذه الدعوات الثلاث ، فإذا استجيب تلك حصلت إجابة هذه بالأوْلى ؛ فإنّ العفو أصل لعدم المؤاخذة ، والمغفرةَ أصل لرفع المشقة والرحمة أصل لعدم العقوبة الدنيوية والأخروية ، فلمّا كان تعميماً بعد تخصيص ، كان كأنّه دعاء واحد .
وقوله : { أنت مولانا } فصله لأنّه كالعلّة للدعوات الماضية : أي دعوناك ورجونا منك ذلك لأنّك مولانا ، ومن شأن المولى الرفقُ بالمملوك ، وليكون هذا أيضاً كالمقدمة للدعوة الآتية .
وقوله : { فانصرنا على القوم الكافرين } جيء فيه بالفاء للتفريع عن كونه مولى ، لأنّ شأن المولى أن ينصر مولاه ، ومن هنا يظهر موقع التعجيب والتحسير في قول مرة بن عداء الفقعسي :
رأيتُ مَوَالِيّ الألَى يخذلونني *** على حدثَانِ الدّهْرِ إذْ يَتَقلّب
وفي التفريع بالفاء إيذان بتأكيد طلب إجابة الدعاء بالنصر ، لأنّهم جعلوه مرتّباً على وصف محقّق ، وهو ولاية الله تعالى المؤمنين ، قال تعالى : { اللَّه ولي الذين آمنوا } [ البقرة : 257 ] وفي حديث يوم أحد لَمَّا قال أبو سفيان : « لَنا العُزّى ولا عُزَّى لكم » قال النبي صلى الله عليه وسلم أجيبوه " الله مولانا ولا مولَى لكم " . ووجه الاهتمام بهذه الدعوة أنّها جامعة لخيري الدنيا والآخرة ؛ لأنّهم إذا نصروا على العدوّ ، فقد طاب عيشهم وظهر دينهم ، وسلموا من الفتنة ، ودخل الناس فيه أفواجاً .
وفي « الصحيح » ، عن أبي مسعود الأنصاري البدري : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة ، في ليلة ، كفتاه " وهما من قوله تعالى : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } إلى آخر السورة . قيل معناه كفتاه عن قيام الليل ، فيكون معنى من قرأ من صلَى بهما ، وقيل معناه كفتاه بركة وتعوّذا من الشياطين والمضارّ ، ولعلّ كلا الاحتمالين مراد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}: لا يكلفها من العمل إلا ما أطاقت. {لها ما كسبت} من الخير وما عملت أو تظلمت به. {وعليها ما اكتسبت} من الإثم.
ثم علم جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يقول: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}: إن جهلنا عن شيء أو أخطأنا، فتركنا أمرك، قال الله عز وجل: ذلك لك.
{ربنا ولا تحمل علينا إصرا}: عهدا، {كما حملته على الذين من قبلنا} ما كان حرم عليهم من لحوم الإبل، وشحوم الغنم، ولحوم كل ذي ظفر، يقول: لا تفعل ذلك بأمتي بذنوبها كما فعلته ببني إسرائيل، فجعلتهم قردة وخنازير، قال الله تعالى: ذلك لك...
{ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا}: واعف عنا من ذلك. {واغفر لنا}: وتجاوز عنا، عن ذنوبنا من ذلك كله واغفر.
{وارحمنا أنت مولانا}: أنت ولينا. {فانصرنا على القوم الكافرين}: كفار مكة وغيرها إلى يوم القيامة. قال الله تعالى: ذلك لك، فاستجاب الله عز وجل له، ذلك فيما سأل وشفعه في أمته، وتجاوز لها عن الخطايا والنسيان وما استكرهوا عليه، فلما نزلت قرأهن النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، وأعطاه الله عز وجل هذه الخصال كلها في الآخرة، ولم يعطها أحدا من الأمم الخالية...
{ولا تحمل علينا إصرا} [البقرة: 286]. 203- ابن جرير: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألته، -يعني مالكا- عن قوله: {ولا تحمل علينا إصرا}، قال: الإصر: الأمر الغليظ. {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} [البقرة: 286]. 204- ابن رشد: سئل مالك عن الرجل يتوضأ ثم يطأ الموضع القذر الجاف قال: لا بأس بذلك، إن الله وسع على هذه الأمة، ثم تلا: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} [البقرة: 286]...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها}: فيتعبدها إلا بما يسعها، فلا يضيق عليها، ولا يجهدها. وقد بينا فيما مضى قبل أن الوسع اسم من قول القائل: وسعني هذا الأمر...عن ابن عباس قوله: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها} قال: هم المؤمنون، وسع الله عليهم أمر دينهم، فقال الله جل ثناؤه: {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقال: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} وَقالَ: {اتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ}.
القول في تأويل قوله تعالى: {لَهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ}: للنفس التي أخبر أنه لا يكلفها إلا وسعها، يقول: لكل نفس ما اجترحت وعملت من خير¹، "وعليها": وعلى كل نفس "ما اكتسبت": ما عملت من شرّ. فتأويل الآية إذا: لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها، فلا يجهدها، ولا يضيق عليها في أمر دينها، فيؤاخذها بهمة إن همت، ولا بوسوسة إن عرضت لها، ولا بخطرة إن خطرت بقلبها.
{رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطأْنا}: وهذا تعليم من الله عزّ وجلّ عباده المؤمنين دعاءه كيف يدعونه، وما يقولون في دعائهم إياه. ومعناه: قولوا: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا شيئا فرضت علينا عمله فلم نعمله، أو أخطأنا في فعل شيء نهيتنا عن فعله ففعلناه، على غير قصد منا إلى معصيتك، ولكن على جهالة منا به وخطأ.
إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن يؤاخذ الله عزّ وجلّ عباده بما نسوا أو أخطئوا فيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك؟ قيل: إن النسيان على وجهين: أحدهما: على وجه التضييع من العبد والتفريط¹، والاَخر: على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ، ووكل به وضعف عقله عن احتماله، فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط، فهو ترك منا لما أمر بفعله، فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عزّ وجلّ في تركه مؤاخذته به، وهو النسيان الذي عاقب الله عزّ وجل به آدم صلوات الله عليه، فأخرجه من الجنة، فقال في ذلك: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما} وهو النسيان الذي قال جلّ ثناؤه: {فالْيَوْمُ نَنْسَاهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} فرغبة العبد إلى الله عزّ وجلّ بقوله: {رَبّنا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا} فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على هذا الوجه الذي وصفنا ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطا منه فيه وتضييعا، كفرا بالله عزّ وجلّ، فإن ذلك إذا كان كفرا بالله فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة به غير جائزة، لأن الله عزّ وجلّ قد أخبر عباده أنه لا يغفر لهم الشرك به، فمسألته فعل ما قد أعلمهم أنه لا يفعله خطأ، وإنما يكون مسألته المغفرة فيما كان من مثل نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه، وعن قراءته، ومثل نسيانه صلاة أو صياما، باشتغاله عنهما بغيرهما حتى ضيعهما. وأما الذي العبد به غير مؤاخذ لعجز بنيته عن حفظه، وقلة احتمال عقله ما وكل بمراعاته، فإن ذلك من العبد غير معصية، وهو به غير آثم، فذلك الذي لا وجه لمسألة العبد ربه أن يغفره له، لأنه مسألة منه له أن يغفر له ما ليس له بذنب، وذلك مثل الأمر يغلب عليه، وهو حريص على تذكره وحفظه، كالرجل يحرص على حفظ القرآن بجدّ منه، فيقرأه، ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه، ولكن بعجز بنيته عن حفظه وقلة احتمال عقله، ذكر ما أودع قلبه منه، وما أشبه ذلك من النسيان، فإن ذلك مما لا يجوز مسألة الربّ مغفرته، لأنه لا ذنب للعبد فيه، فيغفر له باكتسابه. وكذلك للخطأ وجهان: أحدهما: من وجه ما نهي عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة، فذلك خطأ منه، وهو به مأخوذ، يقال منه: خطئ فلان وأخطأ فيما أتى من الفعل، وأثم إذا أتى ما يتأثم فيه وركبه، وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه، إلا ما كان من ذلك كفرا. والاَخر منهما: ما كان عنه على وجه الجهل به والظنّ منه، بأن له فعله، كالذي يأكل في شهر رمضان ليلاً، وهو يحسب أن الفجر لم يطلع، أو يؤخر صلاة في يوم غيم وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها فيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لم يدخل، فإن ذلك من الخطأ الموضوع عن العبد الذي وضع الله عزّ وجلّ عن عباده الإثم فيه، فلا وجه لمسألة العبد ربه أن يؤاخذه به، وقد زعم قوم أن مسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه بما نسي أو أخطأ، إنما هو فعل منه لما أمره به ربه تبارك وتعالى، أو لما ندبه إليه من التذلل له والخضوع بالمسألة، فأما على وجه مسألته الصفح، فما لا وجه له عندهم.
{رَبّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا}: قولوا: ربنا لا تحمل علينا إصرا: يعني بالإصر: العهد، كما قال جل ثناؤه: {قال أأقْرَرْتُمْ وأخَذْتُمْ عَلى ذَلِكُمْ إصْرِي}. وإنما عنى بقوله: {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا}: ولا تحمل علينا عهدا، فنعجز عن القيام به ولا نستطيعه. {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا}: على اليهود والنصارى الذين كلفوا أعمالاً وأخذت عهودهم ومواثيقهم على القيام بها، فلم يقوموا بها، فعوجلوا بالعقوبة. فعلم الله عزّ وجلّ أمة محمد صلى الله عليه وسلم الرغبة إليه بمسألته أن لا يحملهم من عهوده ومواثيقه على أعمال إن ضيعوها أو أخطأوا فيها أو نسوها مثل الذي حمل من قبلهم، فيحلّ بهم بخطئهم فيه وتضييعهم إياه مثل الذي أحلّ بمن قبلهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تحمل علينا ذنوبا وإثما كما حملت ذلك على من قبلنا من الأمم، فتمسخنا قردة وخنازير كما مسختهم... لا تحمل علينا ذنبا ليس فيه توبة ولا كفارة.
وقال آخرون: معنى الإصر بكسر الألف: الثقل... الإصر: الأمر الغليظ.
{رَبّنَا وَلاَ تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ}: وقولوا أيضا: ربنا لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به لثقل حمله علينا... تشديد يشدّد به كما شدّد على من كان قبلكم.
وإنما قلنا: إن تأويل ذلك: ولا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به على نحو الذي قلنا في ذلك، لأنه عقيب مسألة المؤمنين ربهم أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخْطَأُوا، وأن لا يحمل عليهم إصرا كما حمله على الذين من قبلهم، فكان إلحاق ذلك بمعنى ما قبله من مسألتهم في الدين أولى مما خالف ذلك المعنى.
{وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا}: وفي هذا أيضا من قول الله عزّ وجلّ خبرا عن المؤمنين من مسألتهم إياه ذلك الدلالة الواضحة أنهم سألوه تيسير فرائضه عليهم بقوله: {وَلا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} لأنهم عقبوا ذلك بقولهم: {وَاعْفُ عَنّا} مسألة منهم ربهم أن يعفو لهم عن تقصير إن كان منهم في بعض ما أمرهم به من فرائضه، فيصفح لهم عنه، ولا يعاقبهم عليه، وإن خفّ ما كلفهم من فرائضه على أبدانهم...
واستر علينا زلة إن أتيناها فيما بيننا وبينك، فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها.
{وَارْحَمْنَا}: تغمدنا منك برحمة تنجينا بها من عقابك، فإنه ليس بناج من عقابك أحد إلا برحمتك إياه دون عمله، وليست أعمالنا منجيتنا إن أنت لم ترحمنا، فوفقنا لما يرضيك عنا.
{أنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا على القَوْمِ الكافِرِينَ}:أنت ولينا بنصرك دون من عاداك وكفر بك، لأنا مؤمنون بك ومطيعوك فيما أمرتنا ونهيتنا، فأنت وليّ من أطاعك، وعدوّ من كفر بك فعصاك، فانصرنا لأنا حزبك، على القوم الكافرين الذي جحدوا وحدانيتك، وعبدوا الاَلهة والأنداد دونك، وأطاعوا في معصيتك الشيطان.
وقد ذكر أن الله عزّ وجلّ لما أنزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، استجاب الله له في ذلك كله.
عن سعيد بن جبير: {لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها لَهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا} قال: ويقول قد فعلت، {رَبّنا وَلا تَحْمِل عَلَيْنا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا} قال: ويقول قد فعلت. فأعطيت هذه الأمة خواتيم سورة البقرة، ولم تعطها الأمم قبلها...
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق: أن معاذا كان إذا فرغ من هذه السورة: {وَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرِينَ} قال: آمين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} فيه دلالة أن الله تعالى إنما يأمر عبيده، وينهي لمنافع لهم ولضرر يلحقهم، لا لمنافع تكون له في الأمر، أو لضرر يلحقه، فينهى عن ذلك، فيكون في الأمر جار منفعة، وفي النهي دافع مضرة كما يكون في الشاهد أن من أمر آخر بشيء إنما يأمر لمنفعة يأمر فيه، وينهي عن شيء لدفع ضرر يخافه. وتعالى الله عن ذلك.
وقوله تعالى: {ربنا لا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قيل فيه بوجهين: قيل: {إن نسينا} يعني تركنا كقوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67] وكقوله:
{ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي} [طه: 115] أي ترك...
وقوله تعالى: {أخطأنا} يعني ارتكبنا ما انتهينا، وقيل: إنه على حقيقة النسيان والخطأ، كأنه على الإضمار أن قوله: {ربنا لا تؤاخذنا} الآية...
وأما الأصل عندنا في هذا [فإنه في وجوه؛
أحدها: أنه جائز في الحكمة أن يعاقب على النسيان والخطأ ليجتهدوا في حفظ حقوقه وحدوده وحرماته لئلا ينسوا. ألا ترى أن الله أوجب على قاتل الخطأ الكفارة، ثم قال: {توبة من الله} [النساء: 92]. فلو [كان لا يجوز أن يعاقب على النسيان والخطأ] لم يكن لوجوب الكفارة عليه والتوبة معنى. دل أنه جائز في الحكمة المؤاخذة به.
والثاني: قوله جل وعلا: {وما أنسانيه إلا الشيطان} [الكهف: 63]، وفعل الشيطان مما يتقى، ويحذر. لذلك كان ما ذكر، والله أعلم؛ لأنه لو اجتهد عن فعل السهو والنسيان؛ سلم منه. فجائز أن يسأل منهما؛ إذ بالجهد يسلم منه...
والثالث: ما ذكرنا أن النسيان، هو الترك، والخطأ، هو ارتكاب المنهي، والتارك لأمر الله والمرتكب لنهيه، يستوجب العقاب عليه، والله أعلم. فيصبح الدعاء على ذلك لئلا يلحقهم العذاب بترك ذلك الأمر وارتكابه المنهي...
وأما الأمر بالاستغفار فهو يخرج على وجهين:
أحدهما: ما روي: (المؤذن يغفر له بمد صوته) [أحمد 2/132] فهو على استحباب أولئك المغفرة به. فعلى ذلك استغفاره ليغفر به لبعض أمته.
والثاني: أن المغفرة في اللغة هي التغطية والستر، وكأنه يسأل الستر عليه بعد التجاوز عنه...
وقوله تعالى: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} يحتمل وجهين:
يحتمل أن {و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به} من القتل والهلاك؛ إذ في ذلك إفناؤهم، وفي الفناء ذهاب طاقتهم. قال الشيخ، رحمه الله تعالى: أي ما نشتغل عما أمرتنا، فيكون كالدعاء بالعصمة، والله أعلم.
ويحتمل أن يراد به طاقة الفعل، وهي لا تتقدم عندنا الفعل، والله أعلم.
وقوله تعالى: {واعف عنا}؛ قيل: اتركنا على ما نحن عليه، ولا تعذبنا، وقوله تعالى: {واغفر لنا} أي استر لنا، والغفر [هو] الستر، ولذلك تسمى المغفرة مغفرة لأنه يستر، وستر الذنب هو أعظم النعم.
وقوله تعالى: {وارحمنا} أي تغمدنا برحمتك، لأنه ينجو أحد إلا برحمتك.
وقوله تعالى: {أنت مولانا}؛ قيل: أنت أولى بنا، وقيل: أنت حافظنا، وقيل: أنت ولينا وناصرنا...
وقوله تعالى: {فانصرنا على القوم الكافرين} يحتمل المعروفين، ويحتمل الشياطين، أي انصرنا عليهم...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
المسألة الأولى: كل فرض كلفه الله تعالى الإنسان فإن قدر عليه لزمه، وإن عجز عن جميعه سقط عنه، وإن قوي على بعضه وعجز عن بعضه سقط عنه ما عجز عنه ولزمه ما قدر عليه منه سواء أقله أو أكثره. برهان ذلك: قول الله عز وجل {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". وبالله تعالى التوفيق.
المسألة الثانية : كل ما كلفنا الله تعالى فهو يسر وتخفيف بالإضافة إلى ما هو أشد مما حمله من كان قبلنا كما قال تعالى أمرا لنا أن ندعوه فنقول {ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به}...
ونص تعالى أنه قد حمل من كان قبلنا الإصر وهو الثقل لا يطاق، وأمرنا أن ندعوه بألا يحمل ذلك علينا...
وكما نص تعالى أنه وضع بنبيه صلى الله علينا وسلم الإصر الذي كان عليهم، والأغلال التي كانوا يطوقونها، إذ يقول تعالى {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}. فهذا هو عين اليسر وعين التخفيف وإسقاط الحرج، وأن يقع ما كلفناه نحن مما كلفه بعض قوم موسى، من قتل أنفسهم بأيديهم، فكل شيء كلفناه يهون عند هذا، وكذلك ما في شرائع اليهود من أنه خطر على ميت تنجس يوما إلى الليل، وسائر الثقائل التي كلفوا، وحرم عليهم، وخفف عنا ذلك كله. ولله الحمد والمنة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}: لكمال رحمته بهم وقفهم على حد وسعهم ودون ذلك بكثير، كل ذلك رِفق منه وفضل.
{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}؛ كان إذا وقعت حاجة كلَّموه بلسان الواسطة. قالوا: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الأعراف: 134] وهذه الأمة قال لهم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. وكانت الأمم السالفة إذا أذنبوا احتاجوا إلى مضي مدة لقبول التوبة، وفي هذه الأمة قال صلى الله عليه وسلم:"الندم توبة". وكانت الأمم السالفة منهم من قال اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، وهذه الأمة اختصت بإشراق أنوار توحيدهم، وخصائصُهم أكثر من أن يأتي عليه الشرح.
{وَاعْفُ عَنَّا}: في الحال. {وَاغْفِرْ لَنَا}: في المآل. {وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ}: في جميع الأحوال إذ ليس لنا أحد سواك، فأنت مولانا فاجعل النصرة لنا على ما يشغلنا عنك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الوسع: ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، أي لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود. وهذا إخبار عن عدله ورحمته كقوله تعالى: { يريد الله بكم اليسر} الكهف: 185 لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من الشهر، ويحج أكثر من حجة.
{ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} ينفعها ما كسبت من خير، ويضرها ما اكتسبت من شر، لا يؤاخذ بذنبها غيرها،ولا يثاب غيرها بطاعتها...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}: خبر جزم نص على أنه لا يكلف العباد من وقت نزوله الآية عبادة من أعمال القلوب والجوارح إلا وهي في وسع المكلف، وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر... وهذا المعنى الذي ذكرناه في هذه الآية يجري مع معنى قوله تعالى {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] وقوله تعالى: {ما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78] وقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]...
{لها ما كسبت} يريد من الحسنات، {وعليها ما اكتسبت} يريد من السيئات... وجاءت العبارة في الحسنات ب {لها} من حيث هي مما يفرح الإنسان بكسبه ويسر بها فتضاف إلى ملكه، وجاءت في السيئات ب {عليها}، من حيث هي أوزار وأثقال ومتحملات صعبة...
وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسناً لنمط الكلام. كما قال {فمهل الكافرين أمهلهم رويداً} [الطلاق: 17] هذا وجه، والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ويتخطاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازاً لهذا المعنى.
واختلف الناس في معنى قوله {نسينا أو أخطأنا}... [ف] ذهب كثير من العلماء إلى أن الدعاء في هذه الآية إنما هو في النسيان الغالب والخطأ غير المقصود، وهذا هو الصحيح عندي. قال قتادة في تفسير الآية بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تجاوز لأمتي عن نسيانها وخطأها...
«والإصر»: الثقل وما لا يطاق على أتم أنواعه...
وما لا طاقة للمرء به هو عندهم على تجوز، كما تقول لا طاقة لي على خصومة فلان، ولغير ذلك من الأمر تستصعبه وإن كنت في الحقيقة تطيقه أو يكون ذلك {ما لا طاقة لنا به} من حيث هو مهلك لنا كعذاب جهنم وغيره.
وأما لفظة «أخطأ» فقد تجيء في القصد ومع الاجتهاد...
ولا خلاف أن الذين من قبلنا يراد به اليهود. قال الضحاك: والنصارى، وأما عبارات المفسرين في قوله: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به}...
قال سلام بن سابور: الذي لا طاقة لنا به الغُلْمة، وحكاه النقاش عن مجاهد وعطاء وعن مكحول، وروي أن أبا الدرداء كان يقول في دعائه: وأعوذ بك في غلمة ليس لها عدة...
ثم قال تعالى فيما أمر المؤمنين بقوله: {واعف عنا} أي فيما واقعناه وانكشف {واغفر لنا} أي استر علينا ما علمت منا {وارحمنا} أي تفضل مبتدئاً برحمة منك لنا. قال القاضي أبو محمد: فهي مناح للدعاء متباينة وإن كان الغرض المراد بكل واحد منها واحداً وهو دخول الجنة و {أنت مولانا} مدح في ضمنه تقرب إليه وشكر على نعمه، ومولى هو من ولي فهو مفعل أي موضع الولاية، ثم ختمت الدعوة بطلب النصر على الكافرين الذي هو ملاك قيام الشرع وعلو الكلمة ووجود السبيل إلى أنواع الطاعات...
روى أبو مسعود عقبة بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه،» يعني من قيام الليل، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما أظن أحداً عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا}. هَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الدِّينِ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ شَرِيعَةِ الْمُسْلِمِينَ شَرَّفَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْأُمَمِ بِهَا، فَلَمْ يُحَمِّلْنَا إصْرًا وَلَا كَلَّفَنَا فِي مَشَقَّةٍ أَمْرًا، وَقَدْ كَانَ مَنْ سَلَفَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا أَصَابَ الْبَوْلُ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ بِالْمِقْرَاضِ، فَخَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ إلَى وَظَائِفِ عَلَى الْأُمَمِ حَمَلُوهَا، وَرَفَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ»
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}... وَالْآيَةُ إنَّمَا جَاءَتْ لِرَفْعِ الْإِثْمِ الثَّابِتِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فَأَمَّا أَحْكَامُ الْعِبَادِ وَحُقُوقُ النَّاسِ فَثَابِتَةٌ حَسَبَ مَا يُبَيَّنُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ...
المسألة الأولى: قوله {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} يحتمل أن يكون ابتداء خبر من الله ويحتمل أن يكون حكاية عن الرسول والمؤمنين على نسق الكلام في قوله {وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285] وقالوا {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} ويؤيد ذلك ما أردفه من قوله {ربنا لا تؤاخذنا} فكأنه تعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل الصالح وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها...
المسألة الثانية: في كيفية النظم: إن قلنا إن هذا من كلام المؤمنين فوجه النظم أنهم لما قالوا {سمعنا وأطعنا} فكأنهم قالوا: كيف لا نسمع ولا نطيع، وأنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا...
المسألة الثالثة: يقال: كلفته الشيء فتكلف، والكلف اسم منه، والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، قال الفراء: هو اسم كالوجد والجهد، وقال بعضهم: الوسع دون المجهود في المشقة، وهو ما يتسع له قدرة الإنسان...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
ختم السورة بهذه الخاتمة العظيمة، التي هي من كنز تحت عرشه. والشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه. وفيها من العلوم والمعارف وقواعد الإسلام وأصول الإيمان، ومقامات الإحسان ما يستدعي بيانه كتابا مفردا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما مُنّوا بالإيمان في سؤال الغفران عللوا السؤال بقولهم: {لا يكلف الله} أي الملك الأعظم الرحيم الأكرم الذي له جميع صفات الكمال {نفساً إلا وسعها} أي ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه، وذلك هو الممكن لذاته الذي يتعلق اختيار العبد بفعله، ولم يخبر الله تعالى بأنه لا يقع لا المحال لذاته ولا الممكن لذاته سواء [أكان] مما لا مدخل للإنسان في اختياره كالنوم [أم] كان له مدخل فيه وقد تعلق العلم الأزلي بعدم وقوعه وأخبر سبحانه وتعالى بعدم وقوعه معيناً لصاحبه، فهذا لا يقع التكليف به ويجوز التكليف به؛ وهذا الكلام من جملة دعائهم على وجه الثناء طلباً للوفاء بما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم عنه سبحانه وتعالى خوفاً من أن يكلفوا بما لله سبحانه وتعالى كما دلت عليه الآية وقول المؤمنين عند نزولها وجواب النبي صلى الله عليه وسلم لهم أن يكلف به من المؤاخذة بالوساوس التي لا يقع العزم عليها لأنه مما تخفيه النفوس ولا طاقة على دفعه.
ولما كان الإنسان قد يتعمد الذنب لشهوة تدعوه إليه وغرض يحمله عليه أتبعوا ذلك دعاء عاماً فقالوا: {واعف عنا} أي ارفع عنا عقاب الذنوب كلها {واغفر لنا} أي ولا تذكرها لنا أصلاً، فالأول العفو عن عقاب الجسم، والثاني العفو عن عذاب الروح.
قال الحرالي: ولما كان قد يلحق من يعفى عنه ويغفر له قصور في الرتبة عن منال الحظ من الرحمة ألحق تعالى المعفو عنه المغفور له بالمرحوم ابتداء بقوله: {وارحمنا} أي حتى يستوي المذنب التائب والذي لم يذنب قط في منال الرحمة...
وقد بان بذكر المنزل والإيمان به والنصرة على الكفار بعد تفصيل أمر النفقة والمال الذي ينفق منه رد مقطعها على مطلعها وآخرها على أولها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم هي العقيدة التي تعترف بالإنسان إنسانا، لا حيوانا ولا حجرا، ولا ملكا ولا شيطانا. تعترف به كما هو، بما فيه من ضعف وما فيه من قوة، وتأخذه وحدة شاملة مؤلفة من جسد ذي نوازع، وعقل ذي تقدير، وروح ذي أشواق.. وتفرض عليه من التكاليف ما يطيق؛ وتراعي التنسيق بين التكليف والطاقة بلا مشقة ولا إعنات؛ وتلبي كل حاجات الجسد والعقل والروح في تناسق يمثل الفطرة.. ثم تحمل الإنسان -بعد ذلك- تبعة اختياره للطريق الذي يختار: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}. وهكذا يتصور المسلم رحمة ربه وعدله في التكاليف التي يفرضها الله عليه في خلافته للأرض؛ وفي ابتلائه في أثناء الخلافة؛ وفي جزائه على عمله في نهاية المطاف. ويطمئن إلى رحمة الله وعدله في هذا كله؛ فلا يتبرم بتكاليفه، ولا يضيق بها صدرا، ولا يستثقلها كذلك، وهو يؤمن أن الله الذي فرضها عليه أعلم بحقيقة طاقته، ولو لم تكن في طاقته ما فرضها عليه. ومن شأن هذا التصور -فضلا عما يسكبه في القلب من راحة وطمأنينة وأنس- أن يستجيش عزيمة المؤمن للنهوض بتكاليفه، وهو يحس أنها داخلة في طوقه؛ ولو لم تكن داخلة في طوقه ما كتبها الله عليه؛ فإذا ضعف مرة أو تعب مرة أو ثقل العبء عليه، أدرك أنه الضعف لا فداحة العبء! واستجاش عزيمته ونفض الضعف عن نفسه وهم همة جديدة للوفاء، ما دام داخلا في مقدروه! وهو إيحاء كريم لاستنهاض الهمة كلما ضعفت على طول الطريق! فهي التربية كذلك لروح المؤمن وهمته وإرادته؛ فوق تزويد تصوره بحقيقة إرادة الله به في كل ما يكلفه. ثم الشطر الثاني من هذا التصور: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}. فردية التبعة، فلا تنال نفس إلا ما كسبت؛ ولا تحمل نفس إلا ما اكتسبت.. فردية التبعة، ورجعة كل إنسان إلى ربه بصحيفته الخاصة، وما قيد فيها له أو عليه. فلا يحيل على أحد، ولا ينتظر عون أحد.. ورجعة الناس إلى ربهم فرادى من شأنها -حين يستيقنها القلب- أن تجعل كل فرد وحدة إيجابية لا تنزل عن حق الله فيها لأحد من عباده إلا بالحق. وتقف كل إنسان مدافعا عن حق الله فيه تجاه كل إغراء، وكل طغيان، وكل إضلال، وكل إفساد. فهو مسؤول عن نفسه هذه وعن حق الله فيها -وحق الله فيها هو طاعته في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه، وعبوديتها له وحده شعورا وسلوكا- فإذا فرط في هذا الحق لأحد من العبيد تحت الإغراء والإضلال، أو تحت القهر والطغيان -إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان- فما أحد من تلك العبيد بدافع عنه يوم القيامة ولا شافع له؛ وما أحد من تلك العبيد بحامل عنه شيئا من وزره ولا ناصر له من الله واليوم الآخر.. ومن ثم يستأسد كل إنسان في الدفع عن نفسه والدفاع عن حق الله فيها، ما دام هو الذي سيلقى جزاءه مفردا وحيدا! ولا خوف من هذه الفردية -في هذا المقام- فمن مقتضيات الإيمان أن ينهض كل فرد في الجماعة بحق الجماعة عليه، بوصفه طرفا من حق الله في نفسه. فهو مأمور أن يتكافل مع الجماعة في ماله وكسبه، وفي جهده ونصحه، وفي إحقاق الحق في المجتمع وإزهاق الباطل، وفي تثبيت الخير والبر وإزاحة الشر والنكر.. وكل أولئك يحسب له أو عليه في صحيفته يوم يلقى الله فردا فيتلقى هنالك جزاءه!... وكأنما سمع المؤمنون هذه الحقيقة وأدركوها.. فها هو ذا ينطلق من قلوبهم دعاء خافق واجف، يذكره النص القرآني بطريقة القرآن التصويرية؛ فكأنما نحن أمام مشهد الدعاء، وصفوف المؤمنين قائمة تردده في خشوع؛ عقب إعلان حقيقة التكاليف وحقيقة الجزاء: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا. ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به. واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}.. وهو دعاء يصور حال المؤمنين مع ربهم؛ وإدراكهم لضعفهم وعجزهم، وحاجتهم إلى رحمته وعفوه، وإلى مدده وعونه؛ وإلصاق ظهورهم إلى ركنه، والتجائهم إلى كنفه، وانتسابهم إليه وتجردهم من كل من عداه؛ واستعدادهم للجهاد في سبيله واستمدادهم النصر منه.. كل أولئك في نغمة وادعة واجفة تصور بإيقاعاتها وجيب القلب ورفرفة الروح.. {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}. فدائرة الخطأ والنسيان هي التي تحكم تصرف المسلم حين ينتابه الضعف البشري الذي لا حيلة له فيه. وفي مجالها يتوجه إلى ربه يطلب العفو والسماح. وليس هو التبجح إذن بالخطيئة أو الإعراض ابتداء عن الأمر، أو التعالي عن الطاعة والتسليم؛ أو الزيغ عن عمد وقصد...
. ليس في شيء من هذا يكون حال المؤمن مع ربه؛ وليس في شيء من هذا يطمع في عفوه أو سماحته.. إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينيب.. وقد استجاب الله لدعاء عباده المؤمنين في هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا}.. وهو دعاء ينبعث من وراثة الأمة المسلمة لتراث الرسالة كله، ومعرفتهم -كما علمهم ربهم في هذا القرآن- بما كان من سلوك الأمم التي جاءتها الرسالات قبلهم؛ وما حملهم الله من الآصار والأثقال عقوبة لهم على بعض ما كان منهم... {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به}.. وهو دعاء يشي بحقيقة الاستسلام. فالمؤمنون لا ينوون نكولا عن تكليف الله أيا كان. ولكنهم فقط يتوجهون إليه راجين متطلعين أن يرحم ضعفهم فلا يكلفهم ما لا يطيقون. كي لا يعجزوا عنه ويقصروا فيه.. وإلا فهي الطاعة المطلقة والتسليم.. إنه طمع الصغير في رحمة الكبير. ورجاء العبد الضعيف في سماحة المالك المتصرف. وطلب ما هو من شأن الله في معاملته لعباده من كرم وبر وود وتيسير. ثم الاعتراف بالضعف بعد ذلك والتوجس من التقصير، الذي لا يمحو آثاره إلا فضل الله العفو الغفور: {واعف عنا، واغفر لنا وارحمنا}. فهذا هو الضمان الحقيقي لاجتياز الامتحان، ونيل الرضوان. فالعبد مقصر مهما يحاول من الوفاء. ومن رحمة الله به أن يعامله بالعفو والمرحمة والغفران.. عن عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله [ص]: "لا يدخل أحدكم الجنة بعمله".. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله برحمته". وهذا هو قوام الأمر في حس المؤمن: عمل بكل ما في الوسع. وشعور مع ذلك بالتقصير والعجز.. ورجاء -بعد ذلك- في الله لا ينقطع. وتطلع إلى العفو والمغفرة والسماح. وأخيرا يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله، وهم يهمون بالجهاد في سبيله، لإحقاق الحق الذي أراده، وتمكين دينه في الأرض ومنهجه، {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}. يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله الركين؛ ويرفعون رايته على رؤوسهم فينتسبون إليه وحده. إذا انتسبت الجاهلية إلى شتى الشعارات والعنوانات؛ ويطلبون نصره لأوليائه بما أنه هو مولاهم الوحيد؛ وهم باسمه يقاتلون الكفار الخارجين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد البيانُ والتخصيص، لأنّ الذي تطمئنّ له النفس: أنّ هذه الآيات متتابعة النظم، ومع ذلك يجوز أن تكون نزلت منجّمة، فحدَث بين فترة نزولها ما ظنّه بعض المسلمين حرجاً. والوسع في القراءة بضم الواو، في كلام العرب مثلّث الواو وهو الطاقة والاستطاعة، والمراد به هنا ما يطاق ويستطاع، فهو من إطلاق المصدر وإرادة المفعول. والمستطاع هو ما اعتادَ الناسُ قدرتَهم على أن يفعلوه إن توجّهت إرادتهم لفعله مع السلامة وانتفاء الموانع. وهذا دليل على عدم وقوع التكليف بما فوق الطاقة في أديان الله تعالى لعموم (نفساً) في سياق النفي، لأنّ الله تعالى ما شرع التكليف إلاّ للعمل واستقامة أحوال الخلق، فلا يكلّفهم ما لا يطيقون فعله، وما ورد من ذلك فهو في سياق العقوبات، هذا حكم عام في الشرائع كلّها.
وامتازت شريعة الإسلام باليسر والرفق، بشهادة قوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78] وقوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، ولذلك كان من قواعد الفقه العامة « المشقّةُ تجلب التيسير». وكانت المشقة مظنّة الرخصة...
{لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} حال من « نَفَسا» لبيان كيفية الوسع الذي كلفت به النفس: وهو أنّه إن جاءت بخير كان نفعه لها وإن جاءت بشرّ كان ضُرّه عليها. وهذا التقسيم حاصل من التعليق بواسطة « اللاّم» مرة وبواسطة (علَى) أخرى. وأما كسبت واكتسبت فبمعنى واحد في كلام العرب؛ لأنّ المطاوعة في اكتسب ليست على بابها، وإنّما عبّر هنا مرة ب"كَسَبت" وأخرى ب"اكتسبت" تفنّناً وكراهيةَ إعادة الكلمة بعينها... وحاصل معنى الكسب، وما دعا إلى إثباته: هو أنّه لما تقرر أنّ الله قادر على جميع الكائنات الخارجة عن اختيار العبد، وجب أن يقرّر عموم قدرته على كلّ شيء لئلاّ تكون قدرة الله غير متسلّطة على بعض الكائنات، إعمالاً للأدلة الدالة على أنّ الله على كلّ شيء قدير، وأنّه خالق كلّ شيء، وليس لعموم هذه الأدلة دليل يخصّصه، فوجب إعمال هذا العموم...
{واعف عنا واغفر لنا} لم يؤت مع هذه الدعوات بقوله ربّنا، إمّا لأنّه تكرّر ثلاث مرات، والعرب تكره تكرير اللفظ أكثر من ثلاث مرات إلاّ في مقام التهويل، وإمّا لأنّ تلك الدعوات المقترنة بقوله: {ربنا} فروع لهذه الدعوات الثلاث، فإذا استجيب تلك حصلت إجابة هذه بالأوْلى؛ فإنّ العفو أصل لعدم المؤاخذة، والمغفرةَ أصل لرفع المشقة والرحمة أصل لعدم العقوبة الدنيوية والأخروية، فلمّا كان تعميماً بعد تخصيص، كان كأنّه دعاء واحد.
{أنت مولانا} فصله لأنّه كالعلّة للدعوات الماضية: أي دعوناك ورجونا منك ذلك لأنّك مولانا، ومن شأن المولى الرفقُ بالمملوك، وليكون هذا أيضاً كالمقدمة للدعوة الآتية.
{فانصرنا على القوم الكافرين} جيء فيه بالفاء للتفريع عن كونه مولى، لأنّ شأن المولى أن ينصر مولاه...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
"لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" هذه الجملة السامية تبين أن كل تكليف قد اقترن بجزائه، وأن كل امرئ سيجزى على الخير خيرا، وعلى الشر شرا. وما تضمنه ذلك النص الكريم هو نتيجة لما تضمنه النص السابق؛ لأن النص السابق أفاد أن ثمة تكليفا، ولا ينتج التكليف نتائجه إلا إذا كان ثمة جزاء، والنص السابق أيضا أفاد أن الله لا يكلف إلا بما يكون في القدرة من غير إرهاق، بل بإرادة حرة ويسر لا عسر فيه. وذلك أساس للقيام بالتكليف بإرادة حرة، ومقدرة غير مرهقة، وذلك يوجب الجزاء العادل...
{ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} الطاقة: قال فيها الراغب الأصفهاني ما نصه: "الطاقة اسم لمقدار ما يمكن الإنسان أن يفعله بمشقة، وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء، فقوله تعالى: {لا تحملنا ما لا طاقة لنا به} أي ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه لا تحملنا ما لا قدرة لنا به" فالطاقة على هذا تكون فيما يمكن فعله بأقصى القدرة.
وهذا هو الدعاء الثالث وقد كررت فيه كلمة "ربنا" لكمال الضراعة ولبيان أن حالهم دائما يتجدد فيها الشعور بالربوبية وحق الخالق المنعم عليهم. وهذا هو الدعاء هو تدرج مترتب على الدعاء السابق. لقد ضرعوا إلى الله ألا يختبرهم ذلك الاختبار الشديد الذي ألقي على عاتق من سبقوهم أو يخشون ألا يقوموا بحقه كما قام من قبلهم، ثم يضرعون الآن ألا يكلفوا إلا ما يطيقون، أي أنهم على أتم استعداد لأن يبذلوا أقصى قدرتهم وغاية قوتهم فإن الطاقة أقصى القدرة كما بينا ونقلنا. فمعنى الجملة السامية: لا تحملنا ما فوق الطاقة ونحن على استعداد بعونكم لما هو كل الطاقة. وهذه حال من الإيمان سامية.
وعبر هنا بالفعل المضعف "تحملنا" وفي الأول من غير تضعيف؛ لأن الإصر نفسه والتعبير بعلى فيهما بيان شدة الاختبار، فلا حاجة إلى مبالغة في صيغة الحمل؛ أما هنا فالاختبار بما هو في الطاقة وإن كانت المشقة شديدة، فكان ثمة متسع في المبالغة في الصيغة...
{واعف عنا واغفر لنا وارحمنا} هذه هي الأدعية الثلاثة الأخيرة وكلها في باب واحد، وهو باب الإحساس بالمصير في القيام بالواجب، فهي مرتبة من الإيمان سامية؛ لأن المؤمن يفرض التقصير في نفسه ليسعى إلى الكمال، وليرجو رحمة الكبير المتعال، لا يفرض في نفسه الكمال حتى لا يدلى بغرور، ويكون ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا. وحال الرسول مع المتقين حال الشاعرين بالتقصير مهما يكن مقدار ما قاموا به؛ وإذا ضرعوا بهذا الدعاء؛ طالبوا بالعفو بألا يحاسبهم على ما عساه يكون منهم من هفوات، أو ما تتحدث به نفوسهم من إصرار على شر ولا نية له، وما يكون موضع الحساب يضرعون إلى ربهم أن يكون موضع غفرانه، فيستر ذنوبهم ولا يفضحهم، ثم يضرعون إلى الله بعد ذلك أن يمن عليهم برحمته في الدنيا والآخرة، وإنهم لفرط إحساسهم بالتقصير لا يعتبرون الثواب جزاء، بل يعتبرونه رحمة ومنة وفضلا من رب العالمين.
{أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} هذه هي الوثيقة الربانية، يستمسكون بها، وهي إحساسهم بأن الله مولاهم، أي معينهم وكالئهم وناصرهم وممدهم بفضله، وقد طلبوا منه النصرة الدائمة على القوم الكافرين. وإن هذا الدعاء الأخير يقوي المعنى الذي قررناه في تفسير قوله تعالى: {ولا تحمل علينا إصرا}. وإنا نضرع إلى المولى جلت قدرته أن يعفو عنا، ويغفر لنا، ويرحمنا، إنه الغفور الرحيم، والعفو القدير...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
مغزى تزكية الله للرسول وهناك نقاطٌ لا بد من التوقف عندها للتوضيح:
لماذا هذا الإعلان عن إيمان الرسول بما أنزل إليه من ربّه، بعد أن كانت هذه حقيقة واضحة، من موقع المعنى الذي تفرضه رساليته أو رسوليته. ونجيب على ذلك، بأن من الممكن أن يكون الأساس في ذلك هو الإيحاء بانطلاق الرسالة من قاعدة الإيمان العميق بها من قبل داعية الرسالة، الأمر الذي يعني تحرّك الرسول من خلال وضوح الرؤية لكل ما يدعو إليه من أفكار وما يبشر به من مفاهيم للحياة، ما يجعل للقضية بعداً روحياً ينطلق من فكره وشعوره، بالإضافة إلى مسؤوليته الملقاة عليه من الله، فإن ذلك يعطي للدعوة حرارةً في الكلمة والأسلوب والفكرة، ويبعث في الموقف والحركة روحاً جديدة وحيوية نابضة بالإخلاص، وبذلك يختلف الوضع عما إذا كانت الدعوة منطلقة من التكليف والمسؤولية بعيداً عن الجانب الذاتي، كما يحدث في بعض الدعاة الذين ينطلقون في الدعوة من قاعدة المهنة والوظيفة من دون إيمان أو إحساس ذاتي بالحقيقة التي تفرض نفسها على الفكر والشعور، أو الذين يثيرون الناس بالأفكار والشعارات التي لا يؤمنون بها من ناحية فكرية، فهم يتحركون في الحالة الأولى من دون روح، تماماً كأيّة عملية جامدة، لأن المسؤولية تقضي بذلك، فلا يستطيعون في غالب الحالات التأثير الروحي على الآخرين، لأنهم يفقدون الشعلة المقدّسة التي تشرق من خلالهم في قلوب الآخرين. أما الحالة الثانية، فتتمثل بالجوانب الاستغلالية أو التجارية التي تدفع الإنسان إلى البحث عن عناصر الإثارة التي لا يقتنع بها من أجل إثارة الناس بعيداً عن جانب المصلحة الحقيقية في أمورهم العامة. إن الله سبحانه يريد أن يوحي بأنّ الرسول كان أوّل مؤمن برسالته، ليقول لنا، إنّ على الداعية أن يعمّق الإيمان في نفسه قبل أن ينطلق في رسالته، لتكون بداية خط الإيمان منطلقة من نقطة الإيمان في روحه وفكره وحياته، لأن ذلك هو سبيل الصدق الذي ينبغي للإنسان أن يعيشه في القول والعمل، وقد جاء في بعض الآيات الكريمة التأكيد على هذا الجانب في الرسول، وذلك قوله تعالى: {وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]، وقد درج القرآن الكريم في أسلوبه التربوي على أن يقدّم للمؤمنين شخصية الرسول في صفاته وخطواته العملية كنموذج حي في التأكيد على عظمة بعض الأشياء وخطورتها، فكان يخاطب الأمة من خلال خطاب النبي (ص).
لقد تحدث الله عن دعاء المؤمنين بأن لا يؤاخذهم بما أخطأوا أو عصوا فيه عن نسيان، ما يعني أن النسيان قد يقتضي المؤاخذة، مع أن الناسي غافل لا يمكن توجه التكليف إليه، فكيف يمكن أن يعاقب على ذلك؟! ويُجاب عن ذلك، أن النسيان قد يصدر من حالة غير طبيعية أو اختيارية، فتلك لا يؤاخذ عليها الإنسان، بل يؤاخذ على اللامبالاة في تكاليفه الشرعية الذي أدى إليها ترك التحفظ عن النسيان، ففي مثل ذلك، قد يكون الترك اختيارياً باختيارية مقدماته، وذلك إذا أوجب الله عليه التحفظ عن النسيان بالتحفظ عما يوجبه، فيكون رفع المؤاخذة عنه برفع وجوب التحفظ عليه... وقد تحدّث الأصوليون عن هذا الموضوع تفصيلياً في مناقشتهم لحديث الرفع المشهور.
كيف يطلب المؤمنون من الله أن لا يحمّلهم لا ما لا طاقة لهم به... وأجيب عنه، بأن من الممكن أن يكون المراد به ما لا يطاق بحسب العادة لا بحسب الحقيقة، وهو الذي يقترب من مفهوم الحرج الشديد، ويمكن أن يكون إشارةً إلى العذاب الذي لا يطاق، لا إلى التكليف؛ والله العالم.
إن الله قد قرّر في هذه الآية بأسلوب الجملة الاعتراضية الحقيقة الإلهية المستمدة من عدل الله تعالى، وهي أن الله لا يكلف الإنسان إلا بمقدار طاقته ووسعه... وفي هذا النطاق الذي تتحرك من خلاله القدرة، يواجه الإنسان المسؤولية، فله الثواب من الله بما كسبه من طاعة وخير، وعليه العقاب مما اكتسبه من معصية وشر. وفي ضوء ذلك، كان الدعاء يتحرك في أجواء الحالات التي يشعر فيها الإنسان بالحاجة إلى المغفرة، أو التي يشعر فيها بالحاجة إلى أن يبقى التكليف في نطاق القدرة.
ربما نستوحي من هذه الآية أنها تمثل التلخيص للأجواء العقيدية والعملية والروحية التي أثارتها سورة البقرة في آياتها العقيدية والقصصية والتشريعية والإيمانية، في هدفها الكبير من صنع الشخصية المسلمة المؤمنة على أساس هذه الصورة، وبذلك يلتقي آخر السورة بأوّلها في الحديث عن المؤمنين في صفاتهم وتطلعاتهم وأعمالهم، وفي الإيحاء بأن الحديث عن الإيمان والمؤمنين ليس مجرّد حديث يعيش في الخيال الروحي والفكري، بل هو حديث عن حقيقة حيّة تحركت مفاهيمها في الواقع، فاستطاعت أن تجسد الصورة في الفرد وفي المجتمع، في النموذج الأمثل الأعلى المتمثل بالرسول محمد (ص) وفي النماذج المتنوعة الجيّدة المتجسدة في شخصيات المؤمنين الذين رافقوا الرسول (ص) أو الذين جاؤوا من بعده. وربما كان في الحديث عن الموضوع، واقعا حيا متحركا، إيحاءٌ للعاملين بالتحرّك في دعوتهم إلى الله على الأساس الواقعي الذي يحوّل المفاهيم إلى مواقف ونماذج وأوضاع حيّة، ولا يتركها مجرد مفاهيم تتحرك فيها الكلمات وتلتهب من خلالها المشاعر، فإن قيمة الدعوة تتمثل بمقدار ما تتجسد في الحياة عقيدة وشعوراً وخططاً عملية لهذه الحياة...