قوله تعالى : { وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل } اختلفوا في تأويلها : فحملها بعضهم على الإقرار وبعضهم على الإنكار . فمن قال هو إقرار ، قال عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه ، ولم يقتله كما قتل سائر غلمان بني إسرائيل ، ولم يستعبده كما استعبد بني إسرائيل ، مجازه بلى وتلك نعمة لك علي أن عبدت بني إسرائيل ، وتركتني فلم تستعبدني . ومن قال : هو إنكار قال قوله : وتلك نعمة هو على طريق الاستفهام ، أي : أو تلك نعمة ؟ حذف ألف الاستفهام ، كقوله : :أفهم الخالدون . قال الشاعر :
تروح من الحي أو تبتكر *** وماذا يضرك لو تنتظر
أي : تروح من الحي ، قال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة :
لم أنس يوم الرحيل وفقتها *** وطرفها في دموعها غرق
وقولها والركاب واقفة *** تتركني هكذا وتنطلق
أي : أتتركني ؟ يقول : تمن علي أن ربيتني ، وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملات القبيحة . أو يريد : كيف تمن علي بالتربية وقد استعبدت قومي ، ومن أهين قومه ذل ، فتعبيدك بني إسرائيل قد أحبط إحسانك إلي . وقيل : معناه تمن علي بالتربية . وقوله أن عبدت بني إسرائيل أي : باستعبادك بني إسرائيل وقتلك أولادهم ، دفعت إليك حتى ربيتني وكفلتني ولو لم تستعبدهم وتقتلهم كان لي من أهلي من يربيني ولم يلقوني في اليم ، فأي نعمة لك علي قوله : عبدت أي : اتخذتهم عبيداً ، يقال : عبدت فلاناً ، وأعبدته ، وتعبدته ، واستعبدته ، أي : اتخذته عبداً .
{ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } . أي : تدلي علي بهذه المنة لأنك سخرت بني إسرائيل ، وجعلتهم لك بمنزلة العبيد ، وأنا قد أسلمتني من تعبيدك وتسخيرك ، وجعلتها علي نعمة ، فعند التصور ، يتبين أن الحقيقة ، أنك ظلمت هذا الشعب الفاضل ، وعذبتهم وسخرتهم بأعمالك ، وأنا قد سلمني الله من أذاك ، مع وصول أذاك لقومي ، فما هذه المنة التي تبت بها وتدلي بها ؟ .
ثم يجيبه تهكما بتهكم . ولكن بالحق . ( وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ) . . فما كانت تربيتي في بيتك وليدا إلا من جراء استعبادك لبني إسرائيل ، وقتلك أبناءهم ، مما اضطر أمي أن تلقيني في التابوت ، فتقذف بالتابوت في الماء ، فتلتقطونني ، فأربى في بيتك ، لا في بيت أبوي . فهل هذا هو ما تمنه علي ، وهل هذا هو فضلك العظيم ? !
ثم حاجه عليه السلام في منه عليه بالتربية وترك القتل بقوله { وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل } ، واختلف الناس في تأويل هذا الكلام ، فقال قتادة هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة كأنه يقول أو يصح لك أن تعتمد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلهم ، أي ليست نعمة لأن الواجب كان ألا يقتلني وألا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير ذلك ، وقرأ الضحاك «وتلك نعمة ما لك أن تمنها » ، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل ، وقال الأخفش قيل ألف الاستفهام محذوفة والمعنى «أو تلك » وهذا لا يجوز إلا إذا عادلتها أم كما قال «تروح من الحي أم تبتكر »{[8918]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا القول تكلف{[8919]} ، قول موسى عليه السلام تقرير بغير ألف وهو صحيح كما قال قتادة والله المعين ، وقال السدي والطبري هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة ، كأنه يقول تربيتك نعمة علي من حيث عبدت غيري وتركتني ولكن ذلك لا يدفع رسالتي{[8920]} .
قال القاضي أبو محمد : ولكل وجه ناحية من الاحتجاج فالأول ماض في طريق المخالفة لفرعون ونقض كلامه كله ، والثاني مبد من موسى عليه السلام أنه منصف من نفسه معترف بالحق ، ومتى حصل أحد المجادلين في هذه الرتبة وكان خصمه في ضدها غلب المتصف بذلك وصار قوله أوقع في النفوس .
عاد إلى أول الكلام فكرّ على امتنانه عليه بالتربية فأبطله وأبى أن يسميه نعمة ، فقوله : { وتلك نعمة } إشارة إلى النعمة التي اقتضاها الامتنان في كلام فرعون إذ الامتنان لا يكون إلا بنعمة .
ثم إن جعلت جملة { أن عبدت } بياناً لاسم الإشارة كان ذلك لزيادة تقرير المعنى مع ما فيه من قلب مقصود فرعون وهو على حد قوله تعالى : { وقضينا إليه ذلك الأمر أنّ دابرَ هؤلاء مقطوعٌ مصبحين } [ الحجر : 66 ] إذ قوله { أن دابر هؤلاء } بيان لقوله : { ذلك الأمر } .
ويجوز أن يكون { أن عبدت } في محل نصب على نزع الخافض وهو لام التعليل والتقدير : لأن عبَّدتَّ بني إسرائيل .
وقيل الكلام استفهام بحذف الهمزة وهو استفهام إنكار . ومعنى { عبدت } ذَلَّلْت ، يقال : عبَّد كما يقال : أعبد بهمزة التعدية . أنشد أيمة اللغة :
حتّامَ يُعْبِدني قومي وقد كَثُرتْ *** فيهم آباعِرُ ما شاءوا وَعُبدان
وكلام موسى على التقادير الثلاثة نقض لامتنان فرعون بقلب النعمة نقمة بتذكيره أن نعمة تربيته ما كانت إلا بسبب إذلال بني إسرائيل إذ أمر فرعون باستئصال أطفال بني إسرائيل الذي تسبب عليه إلقاء أمّ موسى بطفلها في اليمّ حيث عثرت عليه امرأة فرعون ومن معها من حاشيتها وكانوا قد علموا أنه من أطفال إسرائيل بسِماتِ وجهه ولون جلده ، ولذلك قالت امرأة فرعون { قُرتُ عين لي ولك لا تَقتلُوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً } [ القصص : 9 ] . وفيه أن الإحسان إليه مع الإساءة إلى قومه لا يزيد إحساناً ولا منة .