السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَتِلۡكَ نِعۡمَةٞ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنۡ عَبَّدتَّ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ} (22)

ولما اجتمع في كلام فرعون منّ وتعيير ، بدأه بجوابه عن التعيير ولأنه الأخير فكان أقرب ولأنه أهم ، وهو معنى ما تقدم من أنه على طريقة النشر المشوش بأن يبدأ بالأخير قبل الأوّل ، ولهذا كرّ على امتنانه عليه بالتربية فأبطله من أصله موبخاً له مبكتاً منكراً عليه غير أنه حذف حرف الإنكار إجمالاً في القول وإحساناً في الخطاب وأبى أن تسمى نعمته إلا نقمة بقوله : { وتلك } أي : التربية الشنيعة العظيمة في الشناعة التي ذكرتنيها { نعمة تمنها عليّ أن عبدت } أي : تعبيدك وتذليلك قومي { بني إسرائيل } أي : جعلتهم عبيداً ظلماً وعدواناً وهم أبناء الأنبياء ولسلفهم يوسف عليه السلام عليكم من المنة بإحياء نفوسكم أولاً وعتق رقابكم ثانياً ، ما لا تقدرون له على جزاء أصلاً ثم ما كفاك ذلك حتى فعلت ما لم يفعله مستعبد فأمرت بقتل أبناءهم فكان ذلك سبب وقوعي إليك لأسلم من ظلمك ، ولو لم تفعل ذلك لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليمّ فكيف تمن عليّ بذلك ؟ وقيل : معناه إنك تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في تربيته . وقال الحسن : إنك استعبدت بني إسرائيل فأخذت أموالهم وأنفقت منها عليّ فلا نعمة لك بالتربية . وقيل : إنّ الذي تولى تربيتي هم الذين استعبدتهم فلا منة لك عليّ لأنّ التربية كانت من قبل أمي ومن قومي ، ليس لك إلا مجرد الاسم وهذا ما يعد إنعاماً .

فإن قيل : لم جمع الضمير في منكم وخفتكم مع إفراده في تمنها وعبدت ؟ أجيب : بأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله ، كما مرّت الإشارة إليه بدليل قوله تعالى : { إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك } ( القصص : 20 ) وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك التعبيد .