قوله تعالى : { خذ العفو } ، قال عبد الله بن الزبير : أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يأخذ العفو من أخلاق الناس ، وقال مجاهد : { خذ العفو } يعني العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس ، وذلك مثل قبول الاعتذار ، والعفو ، والمساهلة ، وترك البحث عن الأشياء ونحو ذلك .
وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول صلى الله عليه وسلم لجبريل : ( ما هذا ؟ قال : لا أدري حتى أسأله ، ثم رجع فقال : إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ) . وقال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي والضحاك ، والكلبي : يعني ، خذ ما عفا لك من الأموال ، وهو الفضل من العيال ، وذلك معنى قوله : { يسألونك ماذا ينفقون قل العفو } [ البقرة : 219 ] ، ثم نسخت هذه بالصدقات المفروضات .
قوله تعالى : { وأمر بالعرف } أي : بالمعروف ، وهو كل ما يعرفه الشرع ، وقال عطاء : { وأمر بالعرف } يعني بلا إله إلا الله .
قوله تعالى : { وأعرض عن الجاهلين } ، أبي جهل وأصحابه ، نسختها آية السيف . وقيل : إذا تسفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه ، وذلك مثل قوله : { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } [ الفرقان : 63 ] ، وذلك سلام المتاركة ، قال جعفر الصادق : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق ، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية .
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجرجاني ، ثنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، ثنا الهيثم بن كليب ، ثنا أبو عيسى الترمذي ، ثنا محمد بن بشار ، ثنا محمد بن جعفر ، ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبد الله الجدلي ، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ، ولا متفحشاً ، ولا سخاباً في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح " .
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي ، ثنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الواعظ ، ثنا عمار بن محمد البغدادي ، ثنا أحمد بن محمد ، عن سعيد الحافظ ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا عمر بن إبراهيم يعني الكوفي ، ثنا يوسف بن محمد بن المنكدر ، عن أبيه ، عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله بعثني لتمام مكارم ا لأخلاق ، وتمام محاسن الأفعال ) .
199 خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ .
هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس ، وما ينبغي في معاملتهم ، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس ، أن يأخذ العفو ، أي : ما سمحت به أنفسهم ، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق ، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم ، بل يشكر من كل أحد ما قابله به ، من قول وفعل جميل أو ما هو دون ذلك ، ويتجاوز عن تقصيرهم ويغض طرفه عن نقصهم ، ولا يتكبر على الصغير لصغره ، ولا ناقص العقل لنقصه ، ولا الفقير لفقره ، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم .
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي : بكل قول حسن وفعل جميل ، وخلق كامل للقريب والبعيد ، فاجعل ما يأتي إلى الناس منك ، إما تعليم علم ، أو حث على خير ، من صلة رحم ، أو بِرِّ والدين ، أو إصلاح بين الناس ، أو نصيحة نافعة ، أو رأي مصيب ، أو معاونة على بر وتقوى ، أو زجر عن قبيح ، أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية أو دنيوية ، ولما كان لا بد من أذية الجاهل ، أمر اللّه تعالى أن يقابل الجاهل بالإعراض عنه وعدم مقابلته بجهله ، فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه ، ومن حرمك لا تحرمه ، ومن قطعك فَصِلْهُ ، ومن ظلمك فاعدل فيه .
وأما ما ينبغي أن يعامل به العبد شياطين الإنس والجن ، فقال تعالى :
( خذ العفو ، وأمر بالعرف ، وأعرض عن الجاهلين ، وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ، إنه سميع عليم . إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) . .
خذ العفو الميسر الممكن من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة ، ولا تطلب إليهم الكمال ، ولا تكلفهم الشاق من الأخلاق . واعف عن أخطائهم وضعفهم ونقصهم . . كل أولئك في المعاملات الشخصية لا في العقيدة الدينية ولا في الواجبات الشرعية . فليس في عقيدة الإسلام ولا شريعة الله يكون التغاضي والتسامح . ولكن في الأخذ والعطاء والصحبة والجوار . وبذلك تمضي الحياة سهلة لينة . فالإغضاء عن الضعف البشري ، والعطف عليه ، والسماحة معه ، واجب الكبار الأقوياء تجاه الصغار الضعفاء . ورسول الله [ ص ] راع وهاد ومعلم ومرب . فهو أولى الناس بالسماحة واليسر والإغضاء . . وكذلك كان [ ص ] . . لم يغضب لنفسه قط . فإذا كان في دين الله لم يقم لغضبه شيء ! . . وكل أصحاب الدعوة مأمورون بما أمر به رسول الله [ ص ] . فالتعامل مع النفوس البشرية لهدايتها يقتضي سعة صدر ، وسماحة طبع ، ويسراً وتيسيراً في غير تهاون ولا تفريط في دين الله . .
( وأمر بالعرف ) . . وهو الخير المعروف الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة وجدال ؛ والذي تلتقي عليه الفطر السليمة والنفوس المستقيمة . والنفس حين تعتاد هذا المعروف يسلس قيادها بعد ذلك ، وتتطوع لألوان من الخير دون تكليف وما يصد النفس عن الخير شيء مثلما يصدها التعقيد والمشقة والشد في أول معرفتها بالتكاليف ! ورياضة النفوس تقتضي أخذها في أول الطريق بالميسور المعروف من هذه التكاليف حتى يسلس قيادها وتعتاد هي بذاتها النهوض بما فوق ذلك في يسر وطواعية ولين . .
( وأعرض عن الجاهلين ) . . من الجهالة ضد الرشد ، والجهالة ضد العلم . . وهما قريب من قريب . . والإعراض يكون بالترك والإهمال ؛ والتهوين من شأن ما يجهلون به من التصرفات والأقوال ؛ والمرور بها مر الكرام ؛ وعدم الدخول معهم في جدال لا ينتهي إلى شيء إلا الشد والجذب ، وإضاعة الوقت والجهد . . وقد ينتهي السكوت عنهم ، والإعراض عن جهالتهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها ، بدلاً من الفحش في الرد واللجاج في العناد . فإن لم يؤد إلى هذه النتيجة فيهم ، فإنه يعزلهم عن الآخرين الذين في قلوبهم خير . إذ يرون صاحب الدعوة محتملاً معرضاً عن اللغو ، ويرون هؤلاء الجاهلين يحمقون ويجهلون فيسقطون من عيونهم ويُعزلون !
وما أجدر صاحب الدعوة أن يتبع هذا التوجيه الرباني العليم بدخائل النفوس !
{ خذ العفو } أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وتسهل ولا تطلب ما يشق عليهم ، من العفو الذي هو ضد الجهد أو { خذ العفو } عن المذنبين أو الفضل وما يسهل من صدقاتهم ، وذلك قبل وجوب الزكاة . { وأمر بالعُرف } المعروف المستحسن من الأفعال . { وأعرض عن الجاهلين } فلا تمارهم ولا تكافئهم بمثل أفعالهم ، وهذه الآية جامعة لمكارم الأخلاق آمرة للرسول باستجماعها .
وقوله تعالى : { خذ العفو } الآية ، وصية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم تعم جميع أمته وأخذ بجميع مكارم الأخلاق ، وقال الجمهور في قوله { خذ العفو } إن معناه اقبل نم الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما أتى عفواً دون تكلف ، فالعفو هنا الفضل والصفو الذي تهيأ دون تحرج ، قاله عبد الله بن الزبير في مصنف البخاري ، وقاله مجاهد وعروة ، ومنه قول حاتم الطائي : [ الطويل ]
خذي العفو مني تستديمي مودتي*** ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وقال ابن عباس والضحاك والسدي : هذه الآية ، في الأموال ، وقيل هي فرض الزكاة ، أمر بها صلى الله عليه وسلم أن يأخذ ما سهل من أموال الناس ، وعفا أي فضل وزاد من قولهم : عفا النبات والشعر أي كثر ، ثم نزلت الزكاة وحدودها فنسخت هذه الآية ، وذكر مكي عن مجاهد أن { خذ العفو } معناه خذ الزكاة المفروضة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا شاذ ، وقوله { وأمر بالعرف } معناه بكل ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة ، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : «ما هذا العرف الذي أمر به ، قال : لا أدري حتى أسأل العالم ، فرجع إلى ربه فسأله ثم جاءه فقال له : يا محمد هو أن تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك » .
قال القاضي أبو محمد : فهذا نصب غايات والمراد فما دون هذا من فعل الخير ، وقرأ عيسى الثقفي فيما ذكر أبو حاتم «بالعُرف » بضم الراء والعرْف والعرُف بمعنى المعروف ، وقوله { وأعرض عن الجاهلين } حكم مترتب محكم مستمر في الناس ما بقوا ، هذا قول الجمهور من العلماء ، وقال ابن زيد في قوله { خذ العفو - إلى - الجاهلين } إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مداراة لكفار قريش ثم نسخ ذلك بآية السيف .
قال القاضي أبو محمد : وحديث الحر بن قيس حين أدخل عمه عيينة بن حصن على عمر دليل على أنها محكمة مستمرة ، لأن الحر احتج بها على عمر فقررها ووقف عندها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: تأويله: خذ العفوَ من أخلاق الناس، وهو الفضل وما لا يجهدهم... عن مجاهد في قوله:"خذِ العَفْوَ" قال: عفو أخلاق الناس، وعفو أمورهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: خُذِ العَفْوَ من أموال الناس، وهو الفضل. قالوا: وأمر بذلك قبل نزول الزكاة، فلما نزلت الزكاة نسخ... وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالعفو عن المشركين وترك الغلظة عليهم قبل أن يُفرض قتالهم عليه... وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معناه: خذ العفو من أخلاق الناس، واترك الغلظة عليهم، وقال: أُمر بذلك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في المشركين. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الله جلّ ثناؤه اتبع ذلك تعليمه نبيه صلى الله عليه وسلم محاجته المشركين في الكلام، وذلك قوله: "قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونَ"، وعقبه بقوله: "وإخْوَانُهُمْ يَمُدونَهُمْ فِي الغَيّ ثُمّ لا يُقْصِرُونَ وإذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها "فما بين ذلك بأن يكون من تأديبه نبيه صلى الله عليه وسلم في عشرتهم به أشبه وأولى من الاعتراض بأمره بأخذ الصدقة من المسلمين.
فإن قال قائل: أفمنسوخ ذلك؟ قيل: لا دلالة عندنا على أنه منسوخ، إذ كان جائزا أن يكون، وإن كان الله أنزله على نبيه عليه الصلاة والسلام في تعريفه عشرةَ من لم يؤمر بقتاله من المشركين مرادا به تأديب نبيّ الله والمسلمين جميعا في عشرة الناس وأمرهم بأخذ عفو أخلاقهم، فيكون وإن كان من أجلهم نزل تعليما من الله خلقه صفة عشرة بعضهم بعضا، لم يجب استعمال الغلظة والشدّة في بعضهم، فإذا وجب استعمال ذلك فيهم استعمل الواجب، فيكون قوله: "خُذِ العَفْوَ" أمرا بأخذه ما لم يجب غير العفو، فإذا وجب غيره أخذ الواجب وغير الواجب إذا أمكن ذلك فلا يحكم على الآية بأنها منسوخة لما قد بينا ذلك في نظائره في غير موضع من كتبنا.
وأما قوله: "وأمُرْ بالعُرْفِ" فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم بما: حدثني الحسن بن الزبرقان النخعي، قال: ثني حسين الجعفي، عن سفيان بن عيينة، عن رجل قد سماه، قال: لما نزلت هذه الآية: "خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا جِبْرِيلُ ما هَذَا»؟ قال: ما أدري حتى أسأل العالِم. قال: ثم قال جبريل: يا محمد إن الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك...
وقال آخرون...: "وأْمُرْ بالعُرْفِ" يقول: بالمعروف...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس بالعُرْف، وهو المعروف في كلام العرب، مصدر في معنى المعروف، يقال أوليته عُرْفا وعارفا وعارفةً كل ذلك بمعنى المعروف. فإذا كان معنى العرف ذلك، فمن المعروف صلة رحم من قُطِع، وإعطاء من حُرِم، والعفو عمن ظَلَم. وكلّ ما أمر الله به من الأعمال أو ندب إليه فهو من العرف، ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى فالحقّ فيه أن يقال: قد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف كله لا ببعض معانيه دون بعض.
وأما قوله: "وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ" فإنه أمر من الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض عمن جهل، وذلك وإن كان أمرا من الله لنبيه، فإنه تأديب منه عزّ ذكره لخلقه باحتمال من ظلمهم أو اعتدى عليهم، لا بالإعراض عمن جهل الواجب عليه من حقّ الله ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته، وهو للمسلمين حَرْبٌ...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
من خصائص سُنَّةِ الله في الكرم أنه أمر نبيَّه -صلوات الله عليه وعلى آله- بالأخذ به، إذ الخبر وَرَدَ بأنَّ المؤمن أخذ من الله خُلُقاً حسناً. وكلما كان الجُرْمُ أكبرَ كان العفو عنه أجرَّ وأكمل، وعلى قَدْرِ عِظَم رتبة العبد في الكرم يتوقف العفو عن الأصاغر والخدم، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الجراحات التي أصابته في حرب أحد:"اللهم اغفِرْ لقومي فإنهم لا يعلمون".
قوله {وَأمُرْ بِالعُرْفِ}: أفضل العرف أن يكون أكمل العطاء لأكثر أهل الجفاء، وبذلك عامل الرسول -صلى الله عليه وعلى آله- الناسَ. قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ}: الإعراض عن الأغيار بالإقبال عن من لم يَزْل ولا يزال، وفي ذلك النجاة من الحجاب، والتحقق بما يتقاصر عن شرحه الخطاب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{العفو} ضد الجهد: أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم، وتسهل من غير كلفة، ولا تداقهم، ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا، كقوله صلى الله عليه وسلم:"يسروا ولا تعسروا"...
{وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين} ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، ولا تمارهم، واحلم عنهم، وأغض على ما يسوؤك منهم... وعن جعفر الصادق: أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {خذ العفو...} وصية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم تعم جميع أمته وأخذ بجميع مكارم الأخلاق، وقال الجمهور في قوله {خذ العفو} إن معناه اقبل من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما أتى عفواً دون تكلف، فالعفو هنا الفضل والصفو الذي تهيأ دون تحرج، قاله عبد الله بن الزبير في مصنف البخاري، وقاله مجاهد وعروة...
وقوله {وأمر بالعرف} معناه بكل ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة،...فهذا نصب غايات والمراد فما دون هذا من فعل الخير،...
وقوله {وأعرض عن الجاهلين} حكم مترتب محكم مستمر في الناس ما بقوا...
بيّن في هذه الآية ما هو المنهج القويم والصراط المستقيم في معاملة الناس فقال: {خذ العفو وأمر بالعرف} قال أهل اللغة: العفو الفضل وما أتي من غير كلفة. إذا عرفت هذا فنقول: الحقوق التي تستوفى من الناس وتؤخذ منهم، إما أن يجوز إدخال المساهلة والمسامحة فيها، وإما أن لا يجوز. أما القسم الأول: فهو المراد بقوله: {خذ العفو} ويدخل فيه ترك التشدد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية، ويدخل فيه أيضا التخلق مع الناس بالخلق الطيب، وترك الغلظة والفظاظة كما قال تعالى: {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} ومن هذا الباب أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بالرفق واللطف، كما قال تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن}. وأما القسم الثاني: وهو الذي لا يجوز دخول المساهلة والمسامحة فيه، فالحكم فيه أن يأمر بالمعروف،والعرف، والعارفة، والمعروف هو كل أمر عرف أنه لا بد من الإتيان به، وأن وجوده خير من عدمه، وذلك لأن في هذا القسم لو اقتصر على الأخذ بالعفو ولم يأمر بالعرف ولم يكشف عن حقيقة الحال، لكان ذلك سعيا في تغيير الدين وإبطال الحق وأنه لا يجوز، ثم إنه إذا أمر بالعرف ورغب فيه ونهى عن المنكر ونفر عنه، فربما أقدم بعض الجاهلين على السفاهة والإيذاء فلهذا السبب قال تعالى في آخر الآية: {وأعرض عن الجاهلين}... وأما قوله: {وأعرض عن الجاهلين} فالمقصود منه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يصبر على سوء أخلاقهم، وأن لا يقابل أقوالهم الركيكة ولا أفعالهم الخسيسة بأمثالها، وليس فيه دلالة على امتناعه من القتال، لأنه لا يمتنع أن يؤمر عليه السلام بالإعراض عن الجاهلين مع الأمر بقتال المشركين فإنه ليس من المتناقض أن يقال الشارع لا يقابل سفاهتهم بمثلها؟ ولكن قاتلهم وإذا كان الجمع بين الأمرين ممكنا فحينئذ لا حاجة إلى التزام النسخ، إلا أن الظاهرية من المفسرين مشغوفون بتكثير الناسخ والمنسوخ من غير ضرورة ولا حاجة...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات. فقوله:"خذ العفو" دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ودخل في قوله: "وأمر بالعرف "صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار.
وفي قوله: "وأعرض عن الجاهلين" الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة...
قوله تعالى: "وأعرض عن الجاهلين" أي إذا أقمت عليهم الحجة وأمرتهم بالمعروف فجهلوا عليك فأعرض عنهم، صيانة له عليهم ورفعا لقدره عن مجاوبتهم. وهذا وإن كان خطابا لنبيه عليه السلام فهو تأديب لجميع خلقه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآية بيان لأصول الفضائل الأدبية وأساس التشريع، وهي التي تلي في المرتبة أصول العقيدة المبنية على التوحيد، الذي تقرر فيما قبلها من الآيات بأبلغ التوكيد، فقوله تعالى {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} يأمر فيه بثلاثة أشياء هي أصول كلية للقواعد الشرعية والآداب النفسية والأحكام العلمية.
الأصل الأول: العفو وهو يطلق في اللغة على خالص الشيء وجيده، وعلى الفضل الزائد فيه أو منه، وعلى السهل الذي لا كلفة فيه، وعلى ما يأتي بدون طلب أو بدون إحفاء ومبالغة في الطلب، وهذه المعاني متقاربة وهي وجودية، ومن معانيه السلبية إزالة الشيء كعفت الرياح الديار والآثار، أو إزالة أثره كالعفو عن الذنب وهو منع ما يترتب عليه من العقاب، فمعاني العفو الوجودية والعدمية أو الموجبة والسالبة كلها إحسان ورفق، وقد ورد عن مفسري السلف في تفسير العفو هنا أقوال كلها ترجع إلى هذه المعاني، فرواية العوفي عن ابن عباس في تفسير (خذ العفو) خذ ما عفا لك من أموالهم- أي ما فضل وما أتوك به من شيء. وكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها، وبذلك قال السدي وزعم أنها نسخت بآية الزكاة- وفي رواية الضحاك عنه: أنفق الفضل، ومثلها عن سعيد بن جبير. وفي عدة روايات عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عمه عبد الله بن الزبير أن معناها خذ العفو من أخلاق الناس ومثله وفي رواية لهشام عن عروة عن خالته عائشة أم المؤمنين مثل ذلك وبه قال مجاهد.
وروي عن عبد الرحمان بن زيد بن أسلم أن العفو هنا الصفح عن المشركين وكان عشر سنين فنسخ بآية السيف، وهذا ضعيف لأن العفو بهذا المعنى لا يعبر عنه بالأخذ لأنه أمر عدمي هو بالإعطاء أشبه، ولا بالقبول لأنه لم يطلب. وأحسن الزمخشري ما شاء في تصويره معنى العفو بما تعطيه اللغة فقال: العفو ضد الجهد أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم وتسهل من غير كلفة، ولا تداقهم ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى ينفروا كقوله صلى الله عليه وسلم (يسروا ولا تعسروا)...
وقيل خذ الفضل وما تسهل من صدقاتهم، وذلك قبل نزول آية الزكاة. فلما نزلت أمر أن يأخذهم بها طوعا أو كرها اه نقول وبقيت الآية محكمة في صدقة التطوع.
والمختار عندنا أن العفو يشمل هذا وذاك فالمراد به أن من أصول آداب هذا الدين قواعد شرعه اليسر وتجب الحرج وما يشق على الناس. وقد تقدم تفصيل في ذلك في تفسير آية الوضوء من سورة المائدة. وقد خالف هذه القاعدة الأساسية أهل الفقه المقلوب فجعلوا العسر والحرج من أهم قواعد الدين وأصول الشرع فعلا لا تسمية. وقد صح في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وترى هؤلاء لا يخير أحدهم بين أمرين إلا اختار أعسرهما، ولاسيما العسر على الأمة بأسرها، وأما فتاوى الأفراد فقد قال بعض المصنفين منهم في المسألة فيها قولان مصححان: نحن مع الدراهم قلة وكثرة!! يعني في الفتوى بأحدهما.
الأصل الثاني: الأمر بالعرف وهو ما تعارفه الناس من الخير وفسروه بالمعروف وفي اللسان المعروف ضد المنكر والعرف ضد النكر (قال) والعرف والعارفة والمعروف واحد ضد النكر وهو كل ما تعرفه النفس من الخير وتبسأ به وتطمئن إليه (قال) وقد تكرر ذكر المعروف في الحديث وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس وكل ما ندب إليه ونهي عنه من المحسنات والمقبحات وهو من الصفات الغالبة أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه، والمعروف النصفة وحسن الصحبة مع الأهل وغيرهم، والمنكر ضد ذلك جميعه اه.
والقول الجامع إن العرب تطلق المعروف على ضد المنكر وعلى ضد المجهول، والمنكر هو المستقبح عند الناس الذي ينفرون منه لقبحه أو ضرره ويذمونه ويذمون أهله. والأمر به في هذه السورة المكية التي نزلت في أصول الدين وكليات التشريع تثبت لنا أن العرف أو المعروف أحد هذه الأركان للآداب الدينية والتشريع الإسلامي وهو مبني على اعتبار عادات الأمة الحسنة وما تتواطأ عليه من الأمور النافعة في مصالحها حتى أن كتاب الله عز وجل قد قيد طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بالمعروف في عقد مبايعته صلى الله عليه وسلم للنساء، قال عز وجل في سورة الممتحنة {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن باللّه شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن اللّه إن اللّه غفور رحيم} [الممتحنة: 12] ومن المعلوم أن عقد المبايعة أعظم العقود في الأمم والدول فتقييد طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بالمعروف دليل على أن التزام المعروف من أعظم أركان هذا الدين وشرعه ومن المعلوم في السنة أن مبايعته صلى الله عليه وسلم للرجال كانت مبنية على أصل مبايعته للنساء المنصوص في هذه الآية. وقال صلى الله عليه وسلم (إنما الطاعة في المعروف) وهو في مواضع من الصحيح.
وقد تقدم من هذه السورة (الأعراف) وصف النبي صلى الله عليه وسلم في بشارة التوراة والإنجيل بأنه (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) وورد ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما حكاه تعالى من وصية لقمان في السورة المسماة باسمه، وهي مكية كالأعراف، ثم تكرر ذكر المعروف في السور المدنية، وأكثرها في بيان الأحكام الشرعية العملية، وذلك في عشرات من الآيات بعضها في صفة الأمة الإسلامية وحكومتها وأكثرها في الأحكام الزوجية والمالية. فمن النوع الأول قوله تعالى في تعليل الإذن للمسلمين بالقتال من سورة الحج، فذكر من صفات المأذون لهم به أنهم ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق لأجل توحيده الله تعالى ثم قال: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} [الحج: 41] ومنه قوله تعالى في سورة آل عمران: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} [آل عمران: 103] وقوله بعدها: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 9] وقوله عز وجل في سورة التوبة: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [التوبة: 71] الآية ثم قوله في صفاتهم منها {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين} [التوبة: 112] فهذه الآيات أصول لا مندوحة للأمة عن التزامها في آدابها وتشريعها.
ومن النوع الثاني وهو ما ورد في الأحكام الفرعية قوله تعالى في الحقوق الزوجية من سورة البقرة: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} [البقرة: 228] وهذه الآية ركن من أركان الحقوق الزوجية يفضل به الإسلام جميع الشرائع والقوانين في العدل والمصلحة، ولم تنل النساء مثله في أمة من الأمم. ومنها قوله في أحكام الطلاق {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229] وقوله بعده {فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} [البقرة: 231] ومثلها في سورة الطلاق- وقوله بعدها في المطلقات الرجعيات {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف} [البقرة: 231] وقوله بعدها فيهن إذا كن مرضعات {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة: 233] إلى قوله {فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف} [البقرة: 233] وقوله في الآية التي بعدها في معتدات الوفاة {فإذا بلغن أجهلن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} [البقرة: 234] وقوله بعد آية أخرى في المطلقات: {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين} [البقرة: 236] وقوله بعد أربع آيات أخرى {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} [البقرة: 241] وكقوله في معاشرة الأزواج من سورة النساء {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} [النساء: 19] وهنالك آيات أخرى في العفو عن القصاص وفي الوصية للوالدين والأقربين وفي أكل الوصي من مال اليتيم قيدت بالمعروف.
فأنت ترى أن المعروف في هذه الآيات معتبر في هذه الأحكام المهمة، وأن المعروف فيها هو المعهود بين الناس في المعاملات والعادات، ومن المعلوم بالضرورة أنه يختلف باختلاف الشعوب والبيوت والبلاد والأوقات، فتحديده وتعيينه باجتهاد بعض الفقهاء بدون مراعاة عرف الناس مخالف لنص كتاب الله تعالى. ولشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من فقهاء الحديث والحنابلة أقوال حكيمة في المعروف، منها أنه يجب على كل من الزوجين من أعمال البيت والأسرة ما جرى العرف به، وأنه إذا كان من المعروف عن بعض البيوت أنهن لا يزوجن بناتهن لمن يتزوج عليهن ويضارهن كان هذا كالشرط فلا يجوز للرجل أن يتزوج على المرأة منهن.
فإن قلت: إن بعض العلماء قالوا إن المراد بالعرف والمعروف في الآيات هو المنصوص في الشرع، كقول صاحب لباب التأويل في قوله: {وأمر بالعرف} وأمر بكل ما أمرك الله به وعرفته بالوحي. فالجواب أن مثل هذا القول مخالف لما ذكرنا وما لم نذكر من أقوال السلف والخلف، ولا يمكن أن يراد من كل آية ولا من مجموع الآيات المتقدمة وما يحتمله منها كآيات الأمر والنهي المدنية لابد أن يكون اللفظ فيها عاما يشمل المعروف في الشرع وفي العادات والمعاملات ولا يظهر هذا في آية الأعراف التي هي الأصل الأول لأنها الأولى في الموضوع، ولم يكن قد نزل قبلها أحكام يفسر بها العرف ويحال عليها فيه- فما قاله صاحب لباب التأويل هو من قشره لا من لبابه، وأول ما يرد عليه أنه إذا كان المراد من العرف المعروف بالوحي يقال فيه إنه لم يكن قبل الأمر به معروفا وبعد الأمر به صار من قبيل تحصيل الحاصل.
نعم إن ما يتقرر بنص الشرع يصير من جملة المعروف الذي هو ضد المجهول كما أنه يكون بالضرورة من المعروف الذي هو ضد المنكر. ويبقى تحكيم العرف والمعروف بالمعنى اللغوي العام معتبرا فيما لا نص فيه بخصوصه وللأمة فيه عرف غير معارض بنص، ولا يستقيم نظام الأمة على أساس ثابت إذا كان أمر العرف والمعروف فيها فوضى وغير مقيد بأصول وأحكام وفضائل ثابتة، فلا بد من شيء ثابت وهو ما لا تختلف فيه المصالح والمنافع باختلاف الزمان والمكان وأحوال المعيشة، ولابد من شيء يحكم فيه العرف وهو ما يقابله، ولذلك جاء الشرع الحكيم بهما معا، ولا يضر مع هذا اختلاف الناس فيما يعرفون وينكرون فليكن المعروف كما قال الجصاص من أئمة الحنفية: ما يستحسن في العقل فعله ولا تنكره العقول الصحيحة. فيكفي المسلمين المحافظة على النصوص الثابتة إذ لا يمكن أن يستنكر المؤمن ما جاء عن الله ورسوله نصا حتما لا اجتهاد فيه، وليكن للجماعة بعده رأي فيما يعرفون وينكرون، ويستحسنون ويستهجنون، يكون عمدتهم فيه جمهور العقلاء والعلماء وأهل الأدب والفضيلة في كل عصر.
الأمر الثالث: الإعراض عن الجاهلين وهم السفهاء بترك معاشرتهم وعدم مماراتهم، ولا علاج أوقى لأذاهم من الإعراض عنهم، وشرهم في هذا العصر مرتزقة صحف الأخبار المنشرة، فإن سفهاءها هم شر من سفهاء الشعراء في العصور السابقة، وقد قل سفه الشعراء في عصرنا هذا فلا أعرف لشاعر مشهور من القذع والبذاء في الهجو شيئا مما نعهد في الصحف التي يعبرون عنها بالساقطة، وكم من صحيفة قائمة ناهضة بالثروة، شر من ساقطة بالقلة. وإنما يجب الإعراض عن السفهاء لأنهم لا يطلبون الحق إذا فقدوه، ولا يأخذون فيما يخالف أهواءهم إذا وجدوه، ولا يرعون عهدا، ولا يحفظون ودا، ولا يشكرون من النعمة إلا ما اتصل مدده، فإذا انقطع عاد الشكر كفرا، واستحال المدح ذما.
أكثر ما كتب المفسرون في هذه الآية ما دلت عليه من الآداب، وأقله ما اشتملت عليه من أصول الأحكام، وروي عن جدنا الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الخلاق منها، ووجهوه بأن الأخلاق ثلاثة بحسب القوى الإنسانية، عقلية وشهوية وغضبية، فالعقلية الحكمة ومنها الأمر بالمعروف، والشهوية العفة ومنها أخذ العفو، والغضبية الشجاعة ومنها الإعراض عن الجاهلين. وروى الطبري مرسلا وابن مردويه موصولا من حديث جابر وغيره لما نزلت (خذ العفو وأمر بالعرف) سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عنها فقال: (لا أعلم حتى أسأل ثم رجع فقال إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك) اه من فتح الباري ومراد الإمام أعلى وأشمل من ذلك وفهمه أبعد وأوسع من فهم من علله أو فسره كما علمت من تفسيرها في الجملة...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس، أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد ما قابله به، من قول وفعل جميل أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم ويغض طرفه عن نقصهم، ولا يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم. وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي: بكل قول حسن وفعل جميل، وخلق كامل للقريب والبعيد، فاجعل ما يأتي إلى الناس منك، إما تعليم علم، أو حث على خير، من صلة رحم، أو بِرِّ والدين، أو إصلاح بين الناس، أو نصيحة نافعة، أو رأي مصيب، أو معاونة على بر وتقوى، أو زجر عن قبيح، أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية أو دنيوية، ولما كان لا بد من أذية الجاهل، أمر اللّه تعالى أن يقابل الجاهل بالإعراض عنه وعدم مقابلته بجهله، فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه، ومن حرمك لا تحرمه، ومن قطعك فَصِلْهُ، ومن ظلمك فاعدل فيه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تجيء هذه التوجيهات الربانية في نهاية السورة، من الله سبحانه إلى أوليائه.. رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه.. وهم بعد في مكة؛ وفي مواجهة تلك الجاهلية من حولهم في الجزيرة العربية وفي الأرض كافة.. هذه التوجيهات الربانية في مواجهة تلك الجاهلية الفاحشة، وفي مواجهة هذه البشرية الضالة، تدعو صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم إلى السماحة واليسر، والأمر بالواضح من الخير الذي تعرفه فطرة البشر في بساطتها، بغير تعقيد ولا تشديد. والإعراض عن الجاهلية فلا يؤاخذهم، ولا يجادلهم، ولا يحفلهم.. فإذا تجاوزوا الحد وأثاروا غضبه بالعناد والصد، ونفخ الشيطان في هذا الغضب، فليستعذ بالله ليهدأ ويطمئن ويصبر: (خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين. وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم. إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون).. ثم يعرفه بطبيعة أولئك الجاهلين؛ والوسوسة التي وراءهم والتي تمدهم في الغي والضلال. ويذكر طرفاً من سلوكهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبهم الخوارق؛ ليوجهه إلى ما يقول لهم، ليعرفهم بطبيعة الرسالة وحقيقة الرسول، وليصحح لهم تصوراتهم عنها وعنه وعن علاقته بربه الكريم: (وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون. وإذا لم تأتهم بآية قالوا:لولا اجتبيتها! قل:إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي. هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون).. وبمناسبة هذه الإشارة إلى ما أوحاه إليه ربه من القرآن، يجيء توجيه المؤمنين إلى أدب الاستماع لهذا القرآن؛ وأدب ذكر الله؛ مع التنبيه إلى مداومة هذا الذكر، وعدم الغفلة عنه. فإن الملائكة الذين لا يخطئون يذكرون ويسبحون ويسجدون، فما أولى البشر الخطائين أن لا يغفلوا عن الذكر والتسبيح والسجود: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون. واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين. إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون)..
خذ العفو الميسر الممكن من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة، ولا تطلب إليهم الكمال، ولا تكلفهم الشاق من الأخلاق. واعف عن أخطائهم وضعفهم ونقصهم.. كل أولئك في المعاملات الشخصية لا في العقيدة الدينية ولا في الواجبات الشرعية. فليس في عقيدة الإسلام ولا شريعة الله يكون التغاضي والتسامح. ولكن في الأخذ والعطاء والصحبة والجوار. وبذلك تمضي الحياة سهلة لينة. فالإغضاء عن الضعف البشري، والعطف عليه، والسماحة معه، واجب الكبار الأقوياء تجاه الصغار الضعفاء. ورسول الله صلى الله عليه وسلم راع وهاد ومعلم ومرب. فهو أولى الناس بالسماحة واليسر والإغضاء.. وكذلك كان صلى الله عليه وسلم.. لم يغضب لنفسه قط. فإذا كان في دين الله لم يقم لغضبه شيء!.. وكل أصحاب الدعوة مأمورون بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالتعامل مع النفوس البشرية لهدايتها يقتضي سعة صدر، وسماحة طبع، ويسراً وتيسيراً في غير تهاون ولا تفريط في دين الله.. (وأمر بالعرف).. وهو الخير المعروف الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة وجدال؛ والذي تلتقي عليه الفطر السليمة والنفوس المستقيمة. والنفس حين تعتاد هذا المعروف يسلس قيادها بعد ذلك، وتتطوع لألوان من الخير دون تكليف وما يصد النفس عن الخير شيء مثلما يصدها التعقيد والمشقة والشد في أول معرفتها بالتكاليف! ورياضة النفوس تقتضي أخذها في أول الطريق بالميسور المعروف من هذه التكاليف حتى يسلس قيادها وتعتاد هي بذاتها النهوض بما فوق ذلك في يسر وطواعية ولين.. (وأعرض عن الجاهلين).. من الجهالة ضد الرشد، والجهالة ضد العلم.. وهما قريب من قريب.. والإعراض يكون بالترك والإهمال؛ والتهوين من شأن ما يجهلون به من التصرفات والأقوال؛ والمرور بها مر الكرام؛ وعدم الدخول معهم في جدال لا ينتهي إلى شيء إلا الشد والجذب، وإضاعة الوقت والجهد.. وقد ينتهي السكوت عنهم، والإعراض عن جهالتهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها، بدلاً من الفحش في الرد واللجاج في العناد. فإن لم يؤد إلى هذه النتيجة فيهم، فإنه يعزلهم عن الآخرين الذين في قلوبهم خير. إذ يرون صاحب الدعوة محتملاً معرضاً عن اللغو، ويرون هؤلاء الجاهلين يحمقون ويجهلون فيسقطون من عيونهم ويُعزلون! وما أجدر صاحب الدعوة أن يتبع هذا التوجيه الرباني العليم بدخائل النفوس!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أشبعت هذه السورة من أفانين قوارع المشركين وعظتهم وإقامة الحجة عليهم وبعثتهم على التأمل والنظر في دلائل وحدانية الله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي دينه وكتابه وفضح ضلال المشركين وفساد معتقدهم والتشويه بشركائهم، وقد تخلل ذلك كلّه التسجيل بمكابرتهم، والتعجيبُ منهم كيف يركبون رؤوسهم، وكيف يَنأون بجانبهم، وكيف يصمون أسماعهم، ويغْمضون أبصارهم عما دعوا إلى سماعه وإلى النظر فيه، ونُظرت أحوالهم بأحوال الأمم الذين كذبوا من قبلهم، وكفروا نعمة الله فحل بهم ما حل من أصناف العذاب، وأنذر هؤلاء بأن يحل بهم ما حل بأولئك، ثم أعلن باليأس من ارعوائهم، وبانتظار ما سيحل بهم من العذاب بأيدي المؤمنين، وبتثبيت الرسول والمؤمنين وتبشيرهم والثناء على ما هم عليه من الهدى، فكان من ذلك كله عبرة للمتبصرين، ومسلاة للنبيء وللمسلمين، وتنويه بفضلهم وإذ قد كان من شأن ذلك أن يثير في أنفس المسلمين كراهية أهل الشرك وتحفزُهم للانتقام منهم ومجافاتهم والإعراض عن دعائِهم إلى الخير، لا جرم شُرع في استيناف غرض جديد، يكون ختاماً لهذا الخوض البديع، وهو غَرض أمْرِ الرسول والمؤمنين بقلة المبالاة بجفاء المشركين وصلابتهم، وبأن يَسعوهم من عفوهم والدَأب على محاولة هديهم والتبليغ إليهم بقوله: {خُذ العفو وأمر بالعرف} الآيات.
والأخذ حقيقته تناول شيء للانتفاع به أو لإضراره، كما يقال: أخذت العدو من تلابيبه، ولذلك يقال في الأسير أخيذ، ويقال للقوم إذا أسروا أخذوا واستعمل هنا مجازاً فاستعير للتلبس بالوصف والفعل من بين أفعال لو شاء لتلبس بها، فيُشبّه ذلك التلبسُ واختيارهُ على تلبس آخر بأخذ شيء من بين عدة أشياء، فمعنى (خذ العفو): عَامِل به واجْعله وصفاً ولا تتلبس بضده. وأحسب استعارة الأخذ للعرف من مبتكرات...
والعفو الصفح عن ذنب المذنب وعدم مؤاخذته بذَنبه وقد تقدم عند قوله تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة: 219] وقوله: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} في سورة البقرة (109)، والمراد به هنا ما يعم العفو عن المشركين وعدم مؤاخذتهم بجفائهم ومساءتهم الرسول والمؤمنين.
وقد عمت الآية صور العفو كلها: لأن التعريف في العفو تعريف الجنس فهو مفيد للاستغراق إذا لم يصلح غيرُه من معنى الحقيقة والعهد، فأمر الرسول بأن يعفو ويصفح وذلك بعدم المؤاخذة بجفائهم وسوء خلقهم، فلا يعاقبهم ولا يقابلهم بمثل صنيعهم كما قال تعالى: {فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم} [آل عمران: 159]، ولا يخرج عن هذا العموم من أنواع العفو أزمانه وأحواله إلا ما أخرجته الأدلة الشرعية مثل العفو عن القاتل غيلة، ومثل العفو عن انتهاك حرمات الله، والرسولُ أعلم بمقدار ما يُخص من هذا العموم، وقد يبينه الكتاب والسنة وألحق به ما يقاس على ذلك المبين، وفي قوله: {وأمُر بالعُرف} ضابط عظيم لمقدَار تخصيص الأمر بالعفو.
ثم العفو عن المشركين المقصود هنا أسبقُ أفراد هذا العموم إلى الذهن من بقيتها ولم يَفهم السلف من الآية غير العموم...
و {العُرف} اسم مرادف للمعروف من الأعمال وهو الفعل الذي تعرفه النفوس أي لا تنكره إذا خليت وشأنها بدون غرض لها في ضده... والأمر يشمل النهي عن الضد، فإن النهي عن المنكر أمر بالمعروف، والأمر بالمعروف نهي عن المنكر، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فالاجتزاء بالأمر بالعرف عن النهي عن المنكر من الايجاز، وإنما اقتصر على الأمر بالعرف هنا: لأنه الأهم في دعوة المشركين لأنه يدعوهم إلى أصول المعروف واحداً بعد واحد، كما ورد في حديث معاذ بن جبل حين أرسله إلى أهل اليمن فإنه أمره أن يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ثم قال: « فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات» ولو كانت دعوة المشركين مبتدأة بالنهي عن المنكر لنفروا ولملّ الداعي، لأن المناكير غالبة عليهم ومحدقة بهم، ويدخل في الأمر بالعرف الاتسام به والتخلق بخلقه: لأن شأن الآمر بشيء أن يكون متصفاً بمثله...
على أن خطاب القرآن الناس بأن يأمروا بشيء يعتبر أمراً للمخاطب بذلك الشيء وهي المسألة المترجمة في أصول الفقه بأن الأمر بالأمر بالشيء هو أمر بذلك الشيء.
والتعريف في {العرف} كالتعريف في {العفو} يفيد الاستغراق.
وحُذف مفعول الأمر لإفادة عموم المأمورين {واللَّهُ يَدعُو إلى دار السلام} [يونس: 25]، أمر الله رسوله بأن يأمر الناس كلهم بكل خير وصلاح فيدخل في هذا العموم المشركون دخولاً أولياً لأنهم سبب الأمر بهذا العموم أي لا يصدنك إعراضهم عن إعادة إرشادهم وهذا كقوله تعالى: {فأعرض عنهم وعظهُم} [النساء: 63].
والإعراض: إدارة الوجه عن النظر للشيء. مشتق من العارض وهو الخَد، فإن الذي يلتفت لا ينظر إلى الشيء وقد فسر ذلك في قوله تعالى: {أعْرَضَ ونأى بجانبه} [الإسراء: 83] وهو هنا، مستعار لعدم المؤاخذة بما يسوء من أحد، شبه عدم المؤاخذة على العمل بعدم الالتفات إليه في كونه لا يترتب عليه أثر العلم به لأن شأن العلم به أن تترتب عليه المؤاخذة.
و« الجهل» هنا ضد الحلم والرشد، وهو أشهر إطلاق الجهل في كلام العرب قبل الإسلام، فالمراد بالجاهلين السفهاء كلهم لأن التعريف فيه للاستغراق، وأعظم الجهل هو الإشراك، إذ اتخاذ الحجر إلهاً سفاهة لا تَعْدِلها سفاهة، ثم يشمل كل سفيه رأي. وكذلك فَهم منها الحر بن قيس في الخبر المتقدم آنفاً، وأقره عمر بن الخطاب على ذلك الفهم.
وقد جمعتْ هذه الآية مكارم الأخلاق لأن فضائِل الأخلاق لا تعدُو أن تكون عفواً عن اعتداء فتدخل في {خذ العفو}، أو إغضاءً عما لا يلائم فتدخل في {وأعرض عن الجاهلين}، أو فعلَ خير واتساماً بفضيلة فتدخل في {وأمر بالعرف} كما تقدم من الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء، وهذا معنى قول جعفر بن محمد: « في هذه الآية أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها وهي صالحة لأن يبين بعضها بعضاً، فإن الأمر يأخذ العفو يتقيد بوجوب الأمر بالعرف، وذلك في كل ما لا يقبل العفو والمسامَحة من الحقوق، وكذلك الأمر بالعرف يتقيد بأخذ العفو وذلك بأن يدعو الناس إلى الخير بلين ورفق.
وهذا الأمر مراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء وهو شامل لأمته.
وفي نهاية الآية يقول الله تعالى: {وأعرض عن الجاهلين}. وكيف يكون الإعراض عن الجاهلين؟. يخطئ من يظن أن الجاهل هو الذي لا يعلم، لأن من لا يعلم هو الأمي، أما الجاهل فهو من يعلم قضية تخالف الواقع. ونلحظ أن المشكلات لا تأتي من الأميين الذين لا يعلمون، فالأمي من هؤلاء يصدق أي قضية تحدثه عنها وتكون مقبولة بالفطرة؛ لأنه لا يملك بديلا لها، أما الجاهل فهو من يعلم قضية مخالفة للواقع ويحتاج إلى تغيير علمه بتلك القضية، والخطوة الثانية أن تقنعه بالقضية الصحيحة. والحق هنا يوضح: أعرضْ عن الجاهل الذي يعتقد قضية مخالفة للواقع ويتعصب لها، وأنت حين تعرض عن الجاهل، يجب ألا تماريه، أي لا تجادله، لأن الجدل معه لن يؤدي إلى نتيجة مفيدة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
دراسة الواقع الفكري والنفسي لمجال الدعوة:
{خُذِ الْعَفْوَ} كخطٍّ عمليٍّ للتعامل مع الناس في أجواء الدعوة، في ما يواجهه من حالات التشنّج والتمرد، لأن المسألة لدى الرسول أو الداعية ليست مسألة مزاج يبحث عن منفذٍ للتنفيس، ولكنها مسألة دعوةٍ تفتش عن مدخل إلى فكر الآخرين للحصول على قناعاتهم، مما يخلق بعض التعقيد في مواقفهم، وبعض السلبيات الذاتية في ردود فعلهم، فلا بد من اتباع الأسلوب الذي يتحرّك بالتوازن في عرض الفكرة، وبالتسامح في مواجهة ردود الفعل، وبالتّسهيل والتيسير في إعطاء المسؤوليات... ولا يكلّفهم من أمرهم عسراً. {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} وهو المعروف في القول والعمل الذي يعرفه الناس بفطرتهم ولا يستنكرونه بطبيعتهم، من خلال إدراكهم لارتباطه بمصالحهم ومنافعهم وتنمية أفكارهم وأرواحهم وأجسادهم. وهذا هو الخط الواضح الذي يشمل كل مفردات الشريعة الإسلامية في أخلاقياتها وأحكامها، في ما تدعو إليه من الارتفاع بإنسانية الإنسان إلى المدى البعيد في الآفاق الواسعة. {وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ} الذين لا يتحركون في الحياة من مواقع الوعي للمسؤولية، ولهذا فإنهم لا ينطلقون للأخذ بأسباب المعرفة، ليعرفوا من خلال قضايا الخطأ والصواب جوَّ المصلحة والمفسدة في ما يفعلون ويتركون، مما يؤدي بهم إلى أن يواجهوا الرسالات بأساليب السباب والسخرية والتشويه والتهويل، بعيداً عن أيّ منطق للحوار أو قاعدةٍ للتفكير... فلا بدّ للداعية من دراسة كل هذا الواقع الفكري والنفسي لهؤلاء في عملية التخطيط لمواجهته بالحكمة الواعية، التي تفرض الإعراض عنهم في أكثر الحالات، لأن الخضوع لأساليب ردود الفعل يؤدي إلى أن يتحول الموقف إلى ساحة للسباب وللكلمات القاسية، ويثير العصبية في نفوسهم للباطل، ويحجب الرؤية عنهم من خلال أجواء الانفعال التي تثير الضباب في الأفكار والمشاعر، ويُبعد المواقع عن الحصول على مكاسب إيجابية في مصلحة الرسالة، بينما يؤدّي التعالي عن هذه الأساليب إلى إبعاد الساحة عن أجواء الحقد والبغضاء، ويفسح المجال لفترةٍ من الهدوء النفسي الذي يبعث على التفكير، وبالتالي إلى الحوار، عندما تهدأ الضجة، ويستعيد هؤلاء بعض عقولهم في مواقع الصراع...