اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (199)

قوله : { خُذِ العفو } .

قال عبدُ الله بنُ الزُّبير : أمر اللَّهُ نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم بأخذ العفو من أخلاق النَّاسِ .

قال مجاهدٌ : يعني خذ العفو من أخلاق النَّاسِ وأعمالهم من غير تَجَسُّسِ وذلك مثل قبول الاعتذار ، والعفو المتساهل ، وترك البَحْثِ عن الأشياء ونحو ذلك{[17103]} . روي أنَّهُ لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل : " ما هذا ؟ قال : لا أدْرِي حتى أسْألَ ثم رجع فقال : " إنَّ اللَّهَ يأمر أنَّ تصلَ مَنْ قطعك ، وتُعْطي مَنْ حَرَمكَ ، وتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمكَ {[17104]} "

قال العلماءُ : تفسيرُ جبريل - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - مطابق للفظ الآية ؛ لأنَّك إن وصلت من قطعك فقد عفوت عنه ، وإن أعطيت من حرمك فقد أتيت بالمعروف ، وإذا عفوت عمَّن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهلين .

وقال ابنُ عباَّسٍ ، والسدُّ ، والضحاك ، والكلبيُّ : والمعنى خُذ ما عفا لك من أموالهم وهو الفضل من العيال ، وذلك معنى قوله : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } [ البقرة : 219 ] ثم نسخت هذه الآية بالصَّدقات المفروضات{[17105]} .

قوله : { وَأْمُرْ بالعرف } ، أي : بالمعروف ، وهو كلُّ ما يعرفه الشَّرع ، وقال عطاءٌ : { وَأْمُرْ بالعرف } بلا إله إلا الله وأعرض عن الجاهلين " يعني أبا جهل وأصحابه ، نسختها آية السَّيْفِ ، وقيل : إذا تسفه عليك الجاهل ، فلا تقابله بالسَّفهِ كقوله : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] .

قال جعفرُ الصَّادق : ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاقِ من هذه الآية .

فصل

اعلم أنَّ تَخْصِيصَهُمْ قوله : " خُذِ العَفْوَ " بما ذكروه من أخذ الفضل تقييد للمطلق من غير دليل ، وأيضاً إذا حملناه على أداء الزَّكَاةِ كالمقادير المخصوصة مُنافياً لذلك ؛ لأنَّ أخذ الزكاة مأمور بأن لا يأخذ كرائم الأموال ولا يشدد الأمر على المزكي ، فلم يك إيجاب الزَّكاةِ ناسخاً لهذه الآية .

وأمَّا قوله : { وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } فالمقصودُ منه أمر الرَّسُول بأن يصبر على سوء أخلاقهم ، وأن لا يقابل أقوالهم الركيكة وأفعالهم الخسيسة بأمثالها وليس فيه دلالة على المنع من القتالِ ؛ لأنَّهُ لا يمتنع أن يؤمر عليه الصَّلاة والسَّلام بالإعراض عن الجاهلين مع الأمر بقتال المشركين فإنَّهُ لا تناقض بأن يقول الشَّارعُ لا تُقابلْ سفاهتهم بمثلها ولكن قاتلهم ، وإذا أمكن الجمع بين الأمرين ؛ فلا حاجة إلى التزامِ النَّسْخٍ .


[17103]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/152).
[17104]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/154) وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/280) وزاد نسبته لابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[17105]:ذكره الرازي في تفسيره (15/78-79).