الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (199)

ثم قال تعالى : { خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين }[ 199 ] .

قال بعض أهل المعاني : في هذه الآية بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أوتيت جوامع الكلام " {[26514]} .

فهذه الآية قد جمعت معاني كثيرة ، فوائد عظيمة ، وجمعت كل خُلُق حسن ؛ لأن في " أخذ العفو " : صلة القاطعين ، والصفح عن الظالمين ، وأعطاء{[26515]} المانعين{[26516]} .

وفي " الأمر بالمعروف " : تقوى الله ( عز وجل ){[26517]} ، وطاعته ، ( جلت عظمته ){[26518]} ، وصلة الرحم ، وصون اللسان عن الكذب ، وغض الطرف عن الحُرُمات{[26519]} .

وسمي ذلك{[26520]} ونحوه " عرفا " ؛ لأن كل نفس تعرفه وتركن إليه .

وفي " الإعراض عن الجاهلين " : الصبر ، والحلم ، وتنزيه النفس عن مخالطة السفيه ، ومنازعة اللجوج{[26521]} ، وغير ذلك من الأفعال المرضية{[26522]} .

وقال أهل التفسير في قوله : { خذ العفو } أي : خذ فضل أموالهم ، وهو حق في المال نسخته الزكاة . وهو قول : ابن عباس ، والسدي ، وغيرهما{[26523]} .

وقيل : هو الزكاة{[26524]} . وهو قول مجاهد{[26525]} .

وقيل : هو أمر بالاحتمال وترك الغلظة ، ثم نسخ بالأمر بالغلظة والأمر بالقتال . وهو قول ابن زيد{[26526]} .

وقال القاسم{[26527]} ، وسالم{[26528]} : حق في المال سوى الزكاة{[26529]} .

وقال عبد الله{[26530]} ، وعروة بن{[26531]} الزبير{[26532]} : روى{[26533]} هشام بن عروة{[26534]} عن أبيه { خذ العفو } ، أي : من أخلاق الناس ، أي : السهل منها{[26535]} .

{ وامر بالعرف }[ 199 ] .

قال عروة ، والسدي : " العرف " : المعروف{[26536]} .

وفي الحديث معنى الآية : " أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك " {[26537]} .

قال سفيان بن عيينة : بلغني{[26538]} أن جبريل عليه السلام{[26539]} ، نزل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : يا محمد ، جئتك بمكارم الأخلاق في الدنيا والآخرة { خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } ، وهو يا محمد أن تصل من قطعك ، وأن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك{[26540]} .

وروى ابن عيينة عن الشعبي أنه قال : إن جبريل عليه السلام ، ( لما{[26541]} ) نزل بهذه الآية على النبي عليه السلام ، قال له النبي ( عليه السلام ) ، : ما هذا يا جبريل ؟ قال جبريل : لا أدري حتى أسأل العالم ، فذهب فمكث شيئا ، ثم رجع فقال : إن الله ( عز وجل{[26542]} ) ، يأمرك أن تعفو/عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك{[26543]} .

وقوله : { وأعرض عن الجاهلين } .

قال ابن زيد : هذا منسوخ بالقتل{[26544]} .

وقيل{[26545]} : هي محكمة{[26546]} ، إنما بالاحتمال واللين . وذكر سفيان بن عيينة أن جبريل ، ( عليه السلام ) ، فسر هذا للنبي ( صلى الله عله وسلم ){[26547]} ، فقال : يا محمد ، إن ربك أمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك{[26548]} .

قال قتادة : هذه أخلاق أمر الله ( عز وجل{[26549]} ) نبيه ( عليه السلام{[26550]} ) ( بها{[26551]} ) ودله عليها{[26552]} .

وروي : أن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال يا محمد ، أتيتك بمكارم الأخلاق في الدنيا والآخرة { خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } ، وذلك يا محمد ، أن تصل من قطعك ، وتعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتحلم عمن هو دونك{[26553]} .

وروي أن " العرف " ، قول : لا إله إلا الله ، أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس بقولها{[26554]} .


[26514]:أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، رقم 2755، بلفظ: بعثت بجوامع الكلم. ومسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، رقم 812، بلفظ: أعطيت...، ز813، بلفظ بعثت...، ومسند أحمد رقم 70-96.
[26515]:في الأصل: وأعطى، وهو تحريف.
[26516]:تأويل مشكل القرآن 4، بزيادة في بعض ألفاظه.
[26517]:ما بين الهلالين ساقط من "ج".
[26518]:تأويل مشكل القرآن 4.
[26519]:في "ج" وتأويل مشكل القرآن الذي نقل عنه مكي: هذا
[26520]:تأويل مشكل القرآن 5، بلفظ: "وإنما سمي هذا وما أشبهه "عرفا" و"معروفا"؛ لأن كل نفس تعرفه، وكل قلب يطمئن إليه".
[26521]:المصدر نفسه.
[26522]:انظر: تفسير التحرير والتنوير 9/225، وما بعدها، ففيه مزيد بيان تفسير الآية.
[26523]:هاهنا إيجاز يوضح بما في جامع البيان 13/328، الذي نقل عنه مكي. وقال في الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه 291: "روي عن ابن عباس أن قوله {خذ العفو وامر بالعرف}، منسوخ بالزكاة.
[26524]:في الأصل، بعد "الزكاة": كلمتان تعسرت قراءتهما.
[26525]:قال في الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه 292،: "وقال مجاهد: هي محكمة، والمراد بها: الزكاة؛ لأنها قليل من كثير". وفي المحرر الوجيز 2/491،: "وذكر مكي عن مجاهد أن {خذ العفو} معناه: خذ الزكاة المفروضة. قال القاضي أبو محمد: وهذا شاذ". وفي زاد المسير 3/308، "...المراد بعفو المال: الزكاة. قاله مجاهد في رواية الضحاك". ولم أجده في تفسيره المطبوع.
[26526]:انظر: تفصيل ما أجمل هاهنا في جامع البيان 13/328، 329، الذي نقل عنه مكي. وقال في الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه 292: "وقال ابن زيد: نسخت بالأمر بالغلظة عليهم والقتال". وأورده ابن الجوزي في الزاد 3/308، ونواسخ القرآن 341. وهو غير منسوب في أحكام ابن العربي 2/823.
[26527]:هو: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي، ثقة، أحد الفقهاء بالمدينة. توفي سنة 106هـ. روى له الستة تقريب التهذيب 387.
[26528]:هو: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، أبو عمر، المدني، أحد الفقهاء السبعة. توفي آخر سنة 106هـ. روى له الستة. تقريب التهذيب 166.
[26529]:وقال في الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه 292: "وقال القاسم، وسالم: هي محكمة، يراد بها غير الزكاة عن ظهر غني، فكأنها عندهما على الندب". وذكره ابن الجوزي في نواسخ القرآن 341.
[26530]:هو: عبد الله بن الزبير بن عيسى القرشي الأسدي الحميدي، المكي، أبو بكر، ثقة حافظ فقيه، أجل أصحاب ابن عيينه. توفي بمكة سنة 119هـ. انظر: تقريب التهذيب 246.
[26531]:في "ج": ابنا.
[26532]:هو: عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، أبو عبد الله، المدني، ثقة فقيه مشهور. توفي سنة 94هـ. انظر: تقريب التهذيب 329.
[26533]:في الأصل: ووى، وليس بشيء.
[26534]:هو: هشام بن عروة بن الزبير بن العوام الأسدي، ثقة فقيه. مترجم في تقريب التهذيب 504.
[26535]:قال في الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه 292: "وقال عبد الله وعروة ابنا الزبير: هي محكمة. ومعناها: خذ العفو من أخلاق الناس". انظر: جامع البيان 13/326، 327، وأحكام ابن العربي 2/823، وزاد المسير 3/307. وبشأن نسخ الآية، موضوع التفسير، وعدمه، انظر: جامع البيان 13/329، وناسخ هبة الله ابن سلامة 63، وناسخ ابن العربي 2/221، وأحكامه 2/823، ونواسخ ابن الجوزي 340، وزاده 3/307.
[26536]:جامع البيان 13/331، وزاد نسبته إلى قتادة، وتفسير ابن أبي حاتم 5/1638، وزاد نسبته إلى سفيان الثوري، وتفسير ابن كثير 2/278، وزاد نسبته إلى قتادة وغير واحد. وهو قول البخاري في صحيحه: كتاب التفسير / الأعراف. وقال أبو جعفر الطبري، المصدر السابق: "...وكل ما أمر الله به من الأعمال أو ندب إليه، فهو من "العرف". ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى، فالحق فيه، أن يقال: قد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، أن أمر عباده بالمعروف كله، لا ببعض معانيه دون بعض".
[26537]:أخرجه أحمد في مسنده رقم 15065 بلفظ: "أفضل الفضائل أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتصفح عمن شتمك.
[26538]:في "ج": المعنى.
[26539]:في "ر": رمز: عم عليه السلام.
[26540]:انظر: جامع البيان 13/330، وتفسير ابن أبي حاتم 5/1638، وتفسير ابن كثير 2/277.
[26541]:ما بين الهلالين ساقط من "ر".
[26542]:المصادر نفسها، المنصوص عليها في توثيق الأثر فوقه، هامش 4.
[26543]:انظر: المصدر السابق.
[26544]:الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه 293، بلفظ: "...، هو منسوخ بالأمر بالقتال والقتل"، وأحكام ابن العربي 2/823، والمحرر الوجيز 2/491، وتفسير القرطبي 7/220، وزاد نسبته إلى عطاء. وأورده هبة الله بن سلامة في ناسخه 63، من غير عزو، وابن الجوزي في نواسخه 341، وابن البازي في ناسخه 33.
[26545]:وهو قول مجاهد، وقتادة، كما في تفسير القرطبي 7/220.
[26546]:وهو اختياره في الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه 293، قال: "والصحيح عند أهل النظر: أنها محكمة، ومعناها: أعرض يا محمد، عن مخالطتهم، ومجالستهم، وهذا لا ينسخ إلا بالأمر بمخالطتهم، وهذا لا يجوز". واختاره أيضا ابن الجوزي في نواسخه 342، والقرطبي في تفسيره7/220، وقال: "وهو الصحيح لما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس، قال: قَدَم عيينة بن حصن بن حذيفة،...، فنزل على ابن أخيه الحُرِّ بن قيس،....، وكان من النفر الذين يدينهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر، ومشاورته، كهولا كانوا أو شبانا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فتستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه، فاستأذن لعيينة. فلما دخل قال: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجَزْلَ، ولا تحكم بيننا بالعدل. قال: فغضب عمر حتى هم أن يقع به. فقال الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافا عند كتاب الله عز وجل. [صحيح البخاري، كتاب التفسير/الأعراف]. قلت: فاستعمال عمر رضي الله عنه، لهذه الآية، واستدلال الحر بها، يدل على أنها محكمة لا منسوخة". انظر جامع البيان 13/332. وقال ابن عطية في المحرر 2/491: "وحديث الحر بن قيس، حين أدخل عمه عيينة بن حصن على عمر دليل على أنها محكمة مستمرة؛ لأن الحر احتج بها على عمر فقررها ووقف عندها".
[26547]:ما بين الهلالين ساقط من "ج".
[26548]:مضى قريبا، ومصادر توثيقه هناك.
[26549]:ما بين الهلالين ساقط من "ج".
[26550]:ساقط من "ج" وفي "ر": صلى الله عليه وسلم.
[26551]:ساقط من "ر".
[26552]:جامع البيان 13/332، وتفسير ابن كثير 2/278، والدر المنثور 3/629.
[26553]:انظر: الدر المنثور 3/629، 630.
[26554]:وهو قول عطاء في تفسير البغوي 3/316، وتفسير القرطبي 7/220. وهو في أحكام ابن العربي 2/823، من غير عزو.