روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (199)

{ خذ العفو } أي عفا وسهل وتيسر من أخلاق الناس وإلى هذا ذهب ابن عمر وابن الزبير وعائشة ومجاهد رضي الله تعالى عنهم وغيرهم وأخرجه ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن آدم مرفوعا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والأخذ مجاز عن القبول والرضا أي ارض من الناس بما تيسر من أعمالهم وما أتى منهم وتسهل من غير كلفة ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا ومن ذلك قوله : خذي العفو مني تستديمي وجوز أن يراد بالعفو ظاهره أي خذ العفو عن المذنبين والمراد اعف عنهم وفيه إستعارة مكنية إذ شبه العفو بأمر محسوس يطلب فيؤخذ وإلى هذا ذهب جمع من السلف ويشهد له ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال : لما أنزل الله تعالى { خذ العفو } إلى آخره قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما هذا يا جبريل قال : لا أدري حتى أسأل العالم فذهب ثم رجع فقال : إن الله تعالى أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك وأخرج ابن مردويه عن جابر نحو ذلك ولعل زبدة الحديث مفسرة لزبدة الآية وإلا فالتطبيق مشكل كما لا يخفى وتكلف القطب لتطبيق ألفاظه على ألفاظها وفيه خفاء وعن ابن عباس المراد بالعفو ما عفى من أموال الناس أي خذ أي شيء أتوك به وكان هذا قبل فرض الزكاة وقيل : العفو ما فضل عن النفقة من المال وبذلك فسره الجوهري وإليه ذهب السدي فقد أخرج أبو الشيخ عنه أنه قال : نزلت هذه الآية فكان الرجل يمسك من ماله ما يكفيه ويتصدق بالفضل فنسخها الله تعالى بالزكاة { وأمر بالمعروف } أي بالمعروف المستحسن من الأفعال فإن ذلك أقرب إلى قبول الناس من غير نكير وفي لباب التأويل أن المراد وأمر بكل ما أمرك الله تعالى به وعرفته بالوحي وقال عطاء : المراد بالعرف كلمة لا إله إلا الله وهو تخصيص من غير داع { وأعرض عن الجاهلين } أي ولا تكافيء السفهاء بمثل سفههم ولا تمترهم واحلم عليهم وأغض بما يسوءك منهم وعن السدي أن هذا أمر بالكف عن القتال ثم نسخ بآيته ولا ضرورة إلى دعوى النسخ في الآية كما لا يخفى على المتدبر وقد ذكر غير واحد أنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية وزبدتها كما قالوا تحري حسن المعاشرة مع الناس وتوخي بذل المجهود في الإحسان إليهم والمداراة منهم والإغضاء عن مساويهم وجعلوا نحو ذلك زبدة الخبر إلا أن القرآن مادته عامة ومادته خاصة وقد علم كل أناس مشربهم ولا يخفى حسن موقع هذا الأمر بعد ما عد من أباطيل المشركين وقبائحهم ما لا يطاق حمله وإذ قيل : بأن الجاهلين موضوع موضع ضمير أولئك المشركين حيث أن الكلام فيهم تسجيلا عليهم بعدم الإرعواء وإقناطا كليا منهم التأمت أطراف الكلام غاية الإلتئام هذا وعن ابن زيد أنه لما نزل قوله تعالى : { وأعرض عن الجاهلين } قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : كيف يا رب والغضب فنزل قوله سبحانه وتعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } .

ومن باب الإشارة : { خذ العفو } أي السهل الذي يتيسر لهم ولا تكلفهم ما يشق عليهم { وَأْمُرْ بالعرف } أي بالوجه الجميل ، { وَأَعْرِض عن الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] فلا تكافئهم بجهلهم . عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية قيل وذلك لقوة دلالتها على التوحيد فإن من شاهد مالك النواصي وتصرفه في عباده وكونهم فيما يأتون ويطرون به سبحانه وتعالى لا بأنفسهم لا يشاقهم ولا يداقهم في تكاليفهم ولا يغضب في الأمر والنهي ولا يتشدد ويحلم عنهم ،