قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون }
قيل : معنى قوله : { حتى تستأنسوا } أي : حتى تستأذنوا وكان ابن عباس يقرأ ( حتى تستأذنوا ) ويقول : تستأنسوا خطأ من الكاتب . وكذلك كان يقرأ أبي ابن كعب ، والقراءة المعروفة تستأنسوا وهو بمعنى الاستئذان . وقيل : الاستئناس طلب الأنس ، وهو أن ينظر هل في البيت ناس ، فيؤذنهم إني داخل . وقال الخليل : الاستئناس الاستبصار من قوله : آنست ناراً ، أي : أبصرتها . وقيل : هو أن يتكلم بتسبيحة أو تكبيرة أو يتنحنح ، يؤذن أهل البيت . وجملة حكم الآية : أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد السلام والاستئذان . واختلفوا في أنه يقدم الاستئذان أم السلام ؟ فقال قوم : يقدم الاستئذان فيقول : أأدخل سلام عليكم ، لقوله تعالى : { حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } والأكثرون على أنه يقدم السلام فيقول : سلام عليكم أأدخل . وفي الآية تقديم وتأخير ، تقديرها : حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا . وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود . وروي عن كلدة بن حنبل قال : " دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ولم أسلم ولم أستأذن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ارجع فقل : السلام عليكم أأدخل " . وروي عن ابن عمر : " أن رجلاً استأذن عليه فقال : أأدخل ؟ فقال ابن عمر : لا ، فأمر بعضهم الرجل أن يسلم فسلم فأذن له " . وقال بعضهم : إن وقع بصره على إنسان قدم السلام ، وإلا قدم الاستئذان ، ثم سلم ، وقال أبو موسى الأشعري وحذيفة : يستأذن على ذوات المحارم ، ومثله عن الحسن ، وإن كانوا في دار واحدة يتنحنح ويتحرك حركة .
أخبرنا أحمد عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد عبد الله بن بشران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنبأنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن سعيد الحريري ، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : " سلم عبد الله بن قيس على عمر بن الخطاب ثلاث مرات فلم يأذن له فرجع فأرسل عمر في أثره فقال : لم رجعت ؟ قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا سلم أحدكم ثلاثاً فلم يجب فليرجع . قال عمر : لتأتين على ما تقول ببينة وإلا لأفعلن بك كذا وكذا غير أنه قد أوعده ، قال : فجاء أبو موسى الأشعري منتقعاً لونه و أنا في حلقة جالس ، فقلنا : ما شأنك ؟ فقال : سلمت على عمر ، فأخبرنا خبره ، فهل سمع أحد منكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : نعم كلنا قد سمعه ، قال فأرسلوا معه رجلاً منهم حتى أتى عمر فأخبره بذلك " . ورواه بشر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري ، وفيه : قال أبو موسى الأشعري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع " . قال الحسن : الأول إعلام والثاني مؤامرة ، والثالث استئذان بالرجوع .
يرشد الباري عباده المؤمنين ، أن لا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم بغير استئذان ، فإن في ذلك عدة مفاسد : منها ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث قال " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " فبسبب الإخلال به ، يقع البصر على العورات التي داخل البيوت ، فإن البيت للإنسان في ستر عورة ما وراءه ، بمنزلة الثوب في ستر عورة جسده .
ومنها : أن ذلك يوجب الريبة من الداخل ، ويتهم بالشر سرقة أو غيرها ، لأن الدخول خفية ، يدل على الشر ، ومنع الله المؤمنين من دخول غير بيوتهم حَتَّى يَسْتَأْنِسُوا أي : يستأذنوا . سمي الاستئذان استئناسا ، لأن به يحصل الاستئناس ، وبعدمه تحصل الوحشة ، { وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } وصفة ذلك ، ما جاء في الحديث : " السلام عليكم ، أأدخل " ؟
{ ذَلِكُمْ } أي : الاستئذان المذكور { خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } لاشتماله على عدة مصالح ، وهو من مكارم الأخلاق الواجبة ، فإن أذن ، دخل المستأذن .
( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ، ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون . فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم . وإن قيل لكم : ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ، والله بما تعملون عليم . ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم . والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) . .
لقد جعل الله البيوت سكنا ، يفيء إليها الناس ؛ فتسكن أرواحهم ؛ وتطمئن نفوسهم ؛ ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم ، ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب !
والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرما آمنا لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم . وفي الوقت الذي يريدون ، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس .
ذلك إلى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان ، يجعل أعينهم تقع على عورات ؛ وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات ؛ وتهيى ء الفرصة للغواية ، الناشئة من اللقاءات العابرة والنظرات الطائرة ، التي قد تتكرر فتتحول إلى نظرات قاصدة ، تحركها الميول التي أيقظتها اللقاءات الأولى على غير قصد ولا انتظار ؛ وتحولها إلى علاقات آثمة بعد بضع خطوات أو إلى شهوات محرومة تنشأ عنها العقد النفسية والانحرافات .
ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوما ، فيدخل الزائر البيت ، ثم يقول : لقد دخلت ! وكان يقع أن يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليها أحد . وكان يقع أن تكون المرأة عاريةأو مكشوفة العورة ، هي أو الرجل ، وكان ذلك يؤذي ويجرح ، ويحرم البيوت أمنها وسكينتها ؛ كما يعرض النفوس من هنا ومن هناك للفتنة ، حين تقع العين على ما يثير .
من أجل هذا وذلك أدب الله المسلمين بهذا الأدب العالي . أدب الاستئذان على البيوت ، والسلام على أهلها لإيناسهم . وإزالة الوحشة من نفوسهم ، قبل الدخول :
( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) . .
ويعبر عن الاستئذان بالاستئناس - وهو تعبير يوحي بلطف الاستئذان ، ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق ، فتحدث في نفوس أهل البيت أنسا به ، واستعدادا لاستقباله . وهي لفتة دقيقة لطيفة ، لرعاية أحوال النفوس ، ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم ، وما يلابسها من ضرورات لا يجوز أن يشقى بها أهلها ويحرجوا أمام الطارقين في ليل أو نهار .
{ يا أيها اللذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم } التي تسكنوها فإن الآجر والمعير أيضا لا يدخلان إلا بإذن . { حتى تستأنسوا } تستأذنوا من الاستنئناس بمعنى الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره ، فإن المستأذن مستعلم للحال مستكشف أنه هل يراد دخوله أو يؤذن له ، أو من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش فإن المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له فإذا أذن له استأنس ، أو تتعرفوا هل ثم إنسان من الإنس . { وتسلموا على أهلها } بأن تقولوا السلام لعيكم أأدخل . وعنه عليه الصلاة والسلام " التسليم أن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات فإن أذن له دخل وإلا رجع " { ذلكم خير لكم } أي الاستئذان أو التسليم خير لكم من أن تدخلوا بغتة ، أو من تحية الجاهلية كان الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته قال : حييتم صباحا أو حييتم مساء ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف . وروي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم " أأستأذن على أمي ، قال نعم : قال : إنها ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت ، قال أتحب أن تراها عريانة ، قالا : لا ، قال فاستأذن " { لعلكم تذكرون } متعلق بمحذوف أي أنزل عليكم ، أو قيل لكم هذا إرادة أن تذكروا وتعملوا بما هو أصلح لكم .