قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون }
قيل : معنى قوله : { حتى تستأنسوا } أي : حتى تستأذنوا وكان ابن عباس يقرأ ( حتى تستأذنوا ) ويقول : تستأنسوا خطأ من الكاتب . وكذلك كان يقرأ أبي ابن كعب ، والقراءة المعروفة تستأنسوا وهو بمعنى الاستئذان . وقيل : الاستئناس طلب الأنس ، وهو أن ينظر هل في البيت ناس ، فيؤذنهم إني داخل . وقال الخليل : الاستئناس الاستبصار من قوله : آنست ناراً ، أي : أبصرتها . وقيل : هو أن يتكلم بتسبيحة أو تكبيرة أو يتنحنح ، يؤذن أهل البيت . وجملة حكم الآية : أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد السلام والاستئذان . واختلفوا في أنه يقدم الاستئذان أم السلام ؟ فقال قوم : يقدم الاستئذان فيقول : أأدخل سلام عليكم ، لقوله تعالى : { حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } والأكثرون على أنه يقدم السلام فيقول : سلام عليكم أأدخل . وفي الآية تقديم وتأخير ، تقديرها : حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا . وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود . وروي عن كلدة بن حنبل قال : " دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ولم أسلم ولم أستأذن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ارجع فقل : السلام عليكم أأدخل " . وروي عن ابن عمر : " أن رجلاً استأذن عليه فقال : أأدخل ؟ فقال ابن عمر : لا ، فأمر بعضهم الرجل أن يسلم فسلم فأذن له " . وقال بعضهم : إن وقع بصره على إنسان قدم السلام ، وإلا قدم الاستئذان ، ثم سلم ، وقال أبو موسى الأشعري وحذيفة : يستأذن على ذوات المحارم ، ومثله عن الحسن ، وإن كانوا في دار واحدة يتنحنح ويتحرك حركة .
أخبرنا أحمد عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد عبد الله بن بشران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنبأنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن سعيد الحريري ، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : " سلم عبد الله بن قيس على عمر بن الخطاب ثلاث مرات فلم يأذن له فرجع فأرسل عمر في أثره فقال : لم رجعت ؟ قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا سلم أحدكم ثلاثاً فلم يجب فليرجع . قال عمر : لتأتين على ما تقول ببينة وإلا لأفعلن بك كذا وكذا غير أنه قد أوعده ، قال : فجاء أبو موسى الأشعري منتقعاً لونه و أنا في حلقة جالس ، فقلنا : ما شأنك ؟ فقال : سلمت على عمر ، فأخبرنا خبره ، فهل سمع أحد منكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : نعم كلنا قد سمعه ، قال فأرسلوا معه رجلاً منهم حتى أتى عمر فأخبره بذلك " . ورواه بشر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري ، وفيه : قال أبو موسى الأشعري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع " . قال الحسن : الأول إعلام والثاني مؤامرة ، والثالث استئذان بالرجوع .
يرشد الباري عباده المؤمنين ، أن لا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم بغير استئذان ، فإن في ذلك عدة مفاسد : منها ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث قال " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " فبسبب الإخلال به ، يقع البصر على العورات التي داخل البيوت ، فإن البيت للإنسان في ستر عورة ما وراءه ، بمنزلة الثوب في ستر عورة جسده .
ومنها : أن ذلك يوجب الريبة من الداخل ، ويتهم بالشر سرقة أو غيرها ، لأن الدخول خفية ، يدل على الشر ، ومنع الله المؤمنين من دخول غير بيوتهم حَتَّى يَسْتَأْنِسُوا أي : يستأذنوا . سمي الاستئذان استئناسا ، لأن به يحصل الاستئناس ، وبعدمه تحصل الوحشة ، { وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } وصفة ذلك ، ما جاء في الحديث : " السلام عليكم ، أأدخل " ؟
{ ذَلِكُمْ } أي : الاستئذان المذكور { خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } لاشتماله على عدة مصالح ، وهو من مكارم الأخلاق الواجبة ، فإن أذن ، دخل المستأذن .
( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ، ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون . فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم . وإن قيل لكم : ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ، والله بما تعملون عليم . ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم . والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) . .
لقد جعل الله البيوت سكنا ، يفيء إليها الناس ؛ فتسكن أرواحهم ؛ وتطمئن نفوسهم ؛ ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم ، ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب !
والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرما آمنا لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم . وفي الوقت الذي يريدون ، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس .
ذلك إلى أن استباحة حرمة البيت من الداخلين دون استئذان ، يجعل أعينهم تقع على عورات ؛ وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات ؛ وتهيى ء الفرصة للغواية ، الناشئة من اللقاءات العابرة والنظرات الطائرة ، التي قد تتكرر فتتحول إلى نظرات قاصدة ، تحركها الميول التي أيقظتها اللقاءات الأولى على غير قصد ولا انتظار ؛ وتحولها إلى علاقات آثمة بعد بضع خطوات أو إلى شهوات محرومة تنشأ عنها العقد النفسية والانحرافات .
ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوما ، فيدخل الزائر البيت ، ثم يقول : لقد دخلت ! وكان يقع أن يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليها أحد . وكان يقع أن تكون المرأة عاريةأو مكشوفة العورة ، هي أو الرجل ، وكان ذلك يؤذي ويجرح ، ويحرم البيوت أمنها وسكينتها ؛ كما يعرض النفوس من هنا ومن هناك للفتنة ، حين تقع العين على ما يثير .
من أجل هذا وذلك أدب الله المسلمين بهذا الأدب العالي . أدب الاستئذان على البيوت ، والسلام على أهلها لإيناسهم . وإزالة الوحشة من نفوسهم ، قبل الدخول :
( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) . .
ويعبر عن الاستئذان بالاستئناس - وهو تعبير يوحي بلطف الاستئذان ، ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق ، فتحدث في نفوس أهل البيت أنسا به ، واستعدادا لاستقباله . وهي لفتة دقيقة لطيفة ، لرعاية أحوال النفوس ، ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم ، وما يلابسها من ضرورات لا يجوز أن يشقى بها أهلها ويحرجوا أمام الطارقين في ليل أو نهار .
هذه آداب شرعية ، أدّب الله بها عباده المؤمنين ، وذلك في الاستئذان أمر الله المؤمنين ألا يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم حتى يستأنسوا ، أي : يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده . وينبغي أن يستأذن ثلاثًا ، فإن أذن له ، وإلا انصرف ، كما ثبت{[20980]} في الصحيح : أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثًا ، فلم يؤذن له ، انصرف . ثم قال عمر : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن ؟ ائذنوا له . فطلبوه فوجدوه قد ذهب ، فلما جاء بعد ذلك قال : ما رَجَعَك ؟ قال : إني استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا استأذن أحدكم ثلاثًا ، فلم يؤذن له ، فلينصرف " . فقال : لَتَأتِيَنَّ على هذا ببينة وإلا أوجعتك ضربًا . فذهب إلى ملأ من الأنصار ، فذكر لهم ما قال عمر ، فقالوا : لا يشهد{[20981]} لك إلا أصغرنا . فقام معه أبو سعيد الخُدْريّ فأخبر عمر بذلك ، فقال : ألهاني عنه الصَّفْق بالأسواق{[20982]} .
وقال الإمام أحمد : حَدَّثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر عن ثابت ، عن أنس - أو : غيره{[20983]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال : " السلام عليك ورحمة الله " . فقال سعد : وعليك السلام ورحمة الله ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثًا . ورد عليه{[20984]} سعد ثلاثًا ولم يُسْمعه . فرجع النبي صلى الله عليه وسلم ، واتبعه سعد فقال : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، ما سلمتَ تسليمة إلا وهي بأذني ، ولقد رَدَدْت عليك ولم أُسْمِعك ، وأردتُ أن أستكثر من سلامك ومن البركة . ثم أدخله البيت ، فقرَّب إليه زَبيبًا ، فأكل نبي الله . فلما فرغ قال : " أكل طعامكم الأبرار ، وصَلَّت عليكم الملائكة ، وأفطر عندكم الصائمون " {[20985]} .
وقد رَوَى أبو داود والنسائي ، من حديث أبي عمرو الأوزاعي : سمعت يحيى بن أبي كثير يقول : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن سعد{[20986]} بن زرارة ، عن قيس بن سعد - هو ابن عبادة - قال : زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا ، فقال : " السلام عليكم ورحمة الله " . فردّ سعد ردًا خفيًا{[20987]} ، قال قيس : فقلت : ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ذَرْه{[20988]} يكثر علينا من السلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السلام عليكم ورحمة الله " . فرد سعد رَدًا خفيًا{[20989]} ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السلام عليكم ورحمة الله " ثم رَجَع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتبعه سعد فقال : يا رسول الله ، إني كنت أسمع تسليمك ، وأرد عليك ردّا خفيًا{[20990]} ، لتكثر علينا من السلام . قال : فانصرف معه [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر له سعد بغسل ، فاغتسل ، ثم ناوله ملْحَفَة مصبوغة ]{[20991]} بزعفران - أو : وَرس - فاشتمل بها ، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول : " اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة " . قال : ثم أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام ، فلما أراد الانصراف قرّب إليه سعد حمارًا قد وَطَّأ عليه بقطيفة ، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد : يا قيس ، اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال قيس : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اركب " . فأبيت ، فقال : " إما أن تركب وإما أن تنصرف " . قال : فانصرفت .
وقد روي هذا من وجه آخر{[20992]} فهو حديث جيد قويّ ، والله أعلم .
ثم ليُعْلمْ أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه ، ولكن ليَكن{[20993]} البابُ ، عن يمينه أو يساره ؛ لما رواه أبو داود : حدثنا مُؤَمَّل بن الفضل الحراني - في آخرين - قالوا : حدثنا بَقيَّة ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن بُسْر في أ : " وثبت " . {[20994]} قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم ، لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، ويقول : " السلام عليكم ، السلام عليكم " . وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور . تَفَرد به أبو داود{[20995]} .
وقال أبو داود أيضًا : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، ( ح ) قال أبو داود : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن طلحة ، عن هُزَيل قال : جاء رجل - قال عثمان : سعد - فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن ، فقام على الباب - قال عثمان : مستقبل الباب - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " هكذا عنك - أو : هكذا - فإنما الاستئذان من النظر " {[20996]} .
وقد رواه أبو داود الطيالسي ، عن سفيان الثوري ، عن الأعمش عن طلحة بن مُصَرّف ، عن رجل ، عن سعد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . رواه أبو داود من حديثه{[20997]} رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فَخَذَفته بحصاة ، ففقأت عينه ، ما كان عليك من جناح " {[20998]} .
وأخرج الجماعة من حديث شعبة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في دَين كان على أبي ، فدققت الباب ، فقال : " من ذا " ؟ قلت : أنا . قال : " أنا ، أنا " كأنه كرهه{[20999]} .
وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يُعرَف صاحبها حتى يُفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور بها ، وإلا فكل أحد يُعبِّر عن نفسه ب " أنا " ، فلا يحصل بها المقصود من الاستئذان ، الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية .
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : الاستئناس : الاستئذان . وكذا قال غيرُ واحد .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بَشَّار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي بِشْر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في هذه الآية : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا } {[21000]}
قال : إنما هي خطأ من الكاتب ، " حَتَّى تَسْتَأذنُوا وَتُسَلِّمُوا " .
وهكذا رواه{[21001]} هُشَيم ، عن أبي بشر - وهو جعفر بن إياس - به . وروى معاذ بن سليمان ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، بمثله ، وزاد : وكان ابن عباس يقرأ : " حَتَّى تَسْتَأذنُوا وَتُسَلِّمُوا " ، وكان يقرأ على قراءة أبي بن كعب رضي الله عنه .
وقال هُشَيْم{[21002]} أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم قال : في مصحف ابن مسعود : " حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا " . وهذا أيضًا رواية عن ابن عباس ، وهو اختيار ابن جرير .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا رَوْح ، حدثنا ابن جُرَيْج ، أخبرني عمرو بن أبي سفيان : أن عمرو بن أبي صفوان أخبره ، أن كَلَدَةَ بن الحنبل أخبره ، أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بِلبَأ وجَدَايَة وضَغَابيس ، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي . قال : فدخلتُ عليه ولم أسلم ولم أستأذن . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ارجع فقل : السلام عليكم ، أأدخل ؟ " وذلك بعدما أسلم صفوان .
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن جريج ، به{[21003]} وقال الترمذي : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديثه .
وقال أبو داود : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو الأحوَص ، عن منصور ، عن رِبْعي قال : حدثنا{[21004]} رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو في بيته ، فقال : أألج ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه : " اخرج إلى هذا فعلِّمه الاستئذان ، فقل له : قل : السلام عليكم ، أأدخل ؟ " فسمعه الرجل فقال : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخل{[21005]} .
وقال هُشَيْم : أخبرنا منصور ، عن ابن سِيرِين - وأخبرنا يونس بن عبيد ، عن عَمْرو بن سعيد الثقفي - أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أألج - أو : أنلج ؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأمة له ، يقال لها روضة : " قومي إلى هذا فعلميه ، فإنه لا يحسن يستأذن ، فقولي له يقول : السلام عليكم ، أأدخل " . فسمعها الرجل ، فقالها ، فقال : " ادخل " {[21006]} .
وقال الترمذي : حدثنا الفضل بن الصباح ، حدثنا سعيد بن زكريا ، عن عَنْبَسَة بن عبد الرحمن ، عن محمد بن زاذان ، عن محمد بن المنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السلام قبل الكلام " {[21007]} .
ثم قال الترمذي : عنبسة ضعيف الحديث ذاهب ، ومحمد بن زاذان مُنكَر الحديث .
وقال هُشَيْم : قال مغيرة : قال مجاهد : جاء ابن عمر من حاجة ، وقد آذاه الرمضاء ، فأتى فُسْطَاط امرأة من قريش ، فقال : السلام عليكم ، أأدخل ؟ قالت : ادخل بسلام . فأعاد ، فأعادت ، وهو يُرَاوح بين قدميه ، قال : قولي : ادخل . قالت : ادخل ، فدخل{[21008]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو نعيم الأحول ، حدثنا خالد بن إياس ، حدثتني جدتي أم إياس قالت : كنت في أربع نسوة نستأذن [ على عائشة ]{[21009]} فقلت : ندخل ؟ قالت : لا قلن{[21010]} لصاحبتكن : تستأذن . فقالت : السلام عليكم ، أندخل ؟ قالت : ادخلوا ، ثم قالت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } [ الآية ]{[21011]} .
وقال هُشَيْم : أخبرنا أشعث بن سَوَّار ، عن كُرْدُوس ، عن ابن مسعود قال : عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم . قال أشعث ، عن عدي بن ثابت : إن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله ، إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها ، والد ولا ولد ، وإنه لا يزال يدخل عليَّ رجل من أهلي ، وأنا على تلك الحال ؟ قال : فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا }{[21012]} .
وقال ابن جريج : سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس ، رضي الله عنه ، قال : ثلاث آيات جَحَدها الناس : قال الله : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] ، قال : ويقولون : إن أكرمهم عند الله أعظمهم بيتًا . قال : والإذن كله قد جحده الناس . قال : قلت : أستأذن على أخواتي أيتام في حجري ، معي في بيت واحد ؟ قال : نعم . فرددت ليرخِّص{[21013]} لي ، فأبى . قال : تحب أن تراها عريانة ؟ قلت : لا . قال : فاستأذن . قال : فراجعته أيضًا ، فقال : أتحب أن تطيع الله ؟ قلت : نعم . قال : فاستأذن .
قال ابن جُرَيْج : وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال : ما من امرأة أكره إلي أن أرى عريتها من ذات محرم . قال : وكان يشدد في ذلك .
وقال ابن جريج ، عن الزهري : سمعت هُزَيل بن شُرَحْبِيل الأوْدِيّ الأعمى ، أنه سمع ابن مسعود يقول : عليكم الإذن على أمهاتكم .
وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أيستأذن الرجل على امرأته ؟ قال : لا .
وهذا محمول على عدم الوجوب ، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به ، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا القاسم ، [ قال ]{[21014]} حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن حازم ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن يحيى بن الجزار ، عن ابن أخي زينب - امرأة عبد الله بن مسعود - ، عن زينب ، رضي الله عنها ، قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب ، تنحنح وبزق ؛ كراهية{[21015]} أن يهجُم منا على أمر يكرهه{[21016]} . إسناد صحيح .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان الواسطي ، حدثنا عبد الله بن نُمَيْر ، حدثنا
الأعمش ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي هُبَيْرة{[21017]} قال : كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس - تكلم ورفع صوته .
[ و ]{[21018]} قال مجاهد : { حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } قال : تنحنحوا - أو{[21019]} تَنَخَّموا .
وعن الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، أنه قال : إذا دخل الرجل بيته ، استحب له أن يتنحنح ، أو يحرك نعليه .
ولهذا جاء في الصحيح ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه نَهَى أن يطرق الرجل أهلَه طُروقًا - وفي رواية : ليلا يَتَخوَّنهم{[21020]} .
وفي الحديث الآخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة نهارًا ، فأناخ بظاهرها ، وقال : " انتظروا حتى تدخل عشاء - يعني : آخر النهار - حتى تمتشط الشَّعثَة وتستحدّ المُغَيبة " {[21021]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدَّثنا أبي ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الرحمن{[21022]} بن سليمان ، عن واصل بن السائب ، حدَّثني أبو سَوْرة ابن أخي أبي أيوب ، عن أبي أيوب قال : قلت : يا رسول الله ، هذا السلام ، فما الاستئناس ؟ قال : " يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ، ويتنحنح فَيؤذنُ أهل البيت " . هذا حديث غريب{[21023]} .
وقال قتادة في قوله : { حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } قال : هو الاستئذان . [ قال : وكان يقال : الاستئذان ]{[21024]} ثلاث ، فمن لم يؤذن له فيهن ، فليرجع . أما الأولى : فليسمع{[21025]} الحي ، وأما الثانية : فليأخذوا حذرهم ، وأما الثالثة : فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا رَدّوا . ولا تَقِفَنَّ على باب قوم ردوك عن بابهم ؛ فإن للناس حاجات ولهم أشغال ، والله أولى بالعذر .
وقال مقاتل بن حيَّان في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه ، لا يسلم عليه ، ويقول : حُيِّيتَ صباحًا وحييت مساء ، وكان ذلك تحية القوم بينهم . وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم ، ويقول : " قد دخلتُ " . فيشق ذلك على الرجل ، ولعله يكون مع أهله ، فغَيَّر الله ذلك كله ، في ستر وعفة ، وجعله نقيًا نزهًا من الدنس والقذر والدرَن ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } .
وهذا الذي قاله مقاتل حسن ؛ ولهذا قال : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ } يعني : الاستئذان خير لكم ، بمعنى : هو خير للطرفين{[21026]} : للمستأذن ولأهل البيت ، { . لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } .
ذكرنا أن من أكبر الأغراض في هذه السورة تشريع نظام المعاشرة والمخالطة العائلية في التجاور . فهذه الآيات استئناف لبيان أحكام التزاور وتعليم آداب الاستئذان ، وتحديد ما يحصل المقصود منه كيلا يكون الناس مختلفين في كيفيته على تفاوت اختلاف مداركهم في المقصود منه والمفيد .
وقد كان الاستئذان معروفاً في الجاهلية وصدر الإسلام ، وكان يختلف شكله باختلاف حال المستأذن عليه من ملوك وسوقة فكان غير متماثل . وقد يتركه أو يقصر فيه من لا يهمه إلا قضاء وطره وتعجيل حاجته ، ولا يبعد بأن يكون ولوجه محرجاً للمزور أو مثقلاً عليه فجاءت هذه الآيات لتحديد كيفيته وإدخاله في آداب الدين حتى لا يفرط الناس فيه أو في بعضه باختلاف مراتبهم في الاحتشام والأنفة واختلاف أوهامهم في عدم المؤاخذة أو في شدتها .
وشرع الاستئذان لمن يزور أحداً في بيته لأن الناس اتخذوا البيوت للاستتار مما يؤذي الأبدان من حرّ وقرّ ومطر وقتام ، ومما يؤذي العرض والنفس من انكشاف ما لا يحب الساكن اطلاع الناس عليه ، فإذا كان في بيته وجاءه أحد فهو لا يدخله حتى يصلح ما في بيته وليستر ما يحب أن يستره ثم يأذن له أو يخرج له فيكلمه من خارج الباب .
ومعنى { تستأنسوا } تطلبوا الأنس بكم ، أي تطلبوا أن يأنس بكم صاحب البيت ، وأنسه به بانتفاء الوحشة والكراهية . وهذا كناية لطيفة عن الاستئذان ، أي أن يستأذن الداخل ، أي يطلب إذناً من شأنه أن لا يكون معه استيحاش رب المنزل بالداخل . قال ابن وهب قال مالك : الاستئناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان . يريد أنه المراد كناية أو مرادفة فهو من الأنس ، وهذا الذي قاله مالك هو القول الفصل . ووقع لابن القاسم في « جامع العتيبة » أن الاستئناس التسليم . قال ابن العربي : وهو بعيد . وقلت : أراد ابن القاسم السلام بقصد الاستئذان فيكون عطف { وتسلموا } عطف تفسير . وليس المراد بالاستئناس أنه مشتق من آنس بمعنى علم لأن ذلك إطلاق آخر لا يستقيم هنا فلا فائدة في ذكره وذلك بحسب الظاهر فإنه إذا أذن له دل إذنه على أنه لا يكره دخوله وإذا كره دخوله لا يأذن له والله متولي علم ما في قلبه فلذلك عُبر عن الاستئذان بالاستئناس مع ما في ذلك من الإيماء إلى علة مشروعية الاستئذان .
وفي ذلك من الآداب أن المرء لا ينبغي أن يكون كلاًّ على غيره ، ولا ينبغي له أن يعرض نفسه إلى الكراهية والاستثقال ، وأنه ينبغي أن يكون الزائر والمزور متوافقين متآنسين وذلك عون على توفر الأخوة الإسلامية .
وعطف الأمر بالسلام على الاستئناس وجعل كلاهما غاية للنهي عن دخول البيوت تنبيهاً على وجوب الإتيان بهما لأن النهي لا يرتفع إلا عند حصولهما .
وعن ابن سيرين : " أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أأدخل ؟ فأمر النبي رجلاً عنده أو أَمَةً اسمها روضة فقال : إنه لا يحسن أن يستأذن فليقُل : السلام عليكم أأدخل . فسمعه الرجل فقال : السلام عليكم أأدخل . فقال : ادْخلْ " ، وروى مطرف عن مالك عن زيد بن أسلم : « أنه استأذن على عبد الله بن عمر فقال : أألج . فأذن له ابن عمر ، فلما دخل قال له ابن عمر : ما لك واستئذان العرب ؟ ( يريد أهل الجاهلية ) إذا استأذنت فقل : السلام عليكم . فإذا رد عليك السلام فقل : أأدخل ، فإن أذن لك فادخل » .
وظاهر الآية أن الاستئذان واجب وأن السلام واجب غير أن سياق الآية لتشريع الاستئذان . وأما السلام فتقررت مشروعيته من قبل في أول الإسلام ولم يكن خاصاً بحالة دخول البيوت فلم يكن للسلام اختصاص هنا وإنما ذكر مع الاستئذان للمحافظة عليه مع الاستئذان لئلا يلهي الاستئذان الطارقَ فينسى السلام أو يحسب الاستئذان كافياً عن السلام . قال المازري في كتاب « المعلم على صحيح مسلم » : الاستئذان مشروع . وقال ابن العربي في « أحكام القرآن » قال جماعة : الاستئذان فرض والسلام مستحب . وروي عن عطاء : الاستئذان واجب على كل محتلم . ولم يفصح عن حكم الاستئذان سوى فقهاء المالكية . قال الشيخ أبو محمد في « الرسالة » : الاستئذان واجب فلا تدخُلْ بيتاً فيه أحد حتى تستأذن ثلاثاً فإن أذن لك وإلا رجعت . وقال ابن رشد في « المقدمات » : الاستئذان واجب . وحكى أبو الحسن المالكي في « شرح الرسالة » الإجماع على وجوب الاستئذان . وقال النووي في « شرح صحيح مسلم » : الاستئذان مشروع . وهي كلمة المازري في « شرح مسلم » .
وأقول : ليس قرن الاستئذان بالسلام في الآية بمقتض مساواتَهما في الحكم إذا كانت هنالك أدلة أخرى تفرق بين حكميهما وتلك أدلة من السنة ، ومن المعنى فإن فائدة الاستئذان دفع ما يكره عن المطروق المزور وقطع أسباب الإنكار أو الشتم أو الإغلاظ في القول مع سد ذرائع الريب وكلها أو مجموعها يقتضي وجوب الاستئذان .
وأما فائدة السلام مع الاستئذان فهي تقوية الألفة المتقررة فلا تقتضي أكثر من تأكد الاستحباب . فالقرآن أمر بالحالة الكاملة وأحال تفصيل أجزائها على تبيين السنة كما قال تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } [ النحل : 44 ] .
وقد أجملت حكمة الاستئذان في قوله تعالى : { ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون } أي ذلكم الاستئذان خير لكم ، أي فيه خير لكم ونفع فإذا تدبرتم علمتم ما فيه من خير لكم كما هو المرجو منكم .
وقد جمعت الآية الاستئذان والسلام بواو العطف المفيد التشريك فقط فدلت على أنه إن قدم الاستئذان على السلام أو قدم السلام على الاستئذان فقد جاء بالمطلوب منه ، وورد في أحاديث كثيرة الأمر بتقديم السلام على الاستئذان فيكون ذلك أولى ولا يعارض الآية .
وليس للاستئذان صيغة معينة . وما ورد في بعض الآثار فإنما محمله على أنه المتعارف بينهم أو على أنه كلام أجمع من غيره في المراد . وقد بينت السنة أن المستأذن إن لم يؤذن له بالدخول يكرره ثلاث مرات فإذا لم يؤذن له انصرف .
وورد في هذا حديث أبي موسى الأشعري مع عمر بن الخطاب في « صحيح البخاري » وهو ما روي : « عن أبي سعيد الخدري قال : كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى الأشعري كأنه مذعور قال : استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يأذن لي فرجعت ( وفسره في رواية أخرى بأن عمر كان مشتغلاً ببعض أمره ثم تذكر فقال : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ؟ قالوا : استأذن ثلاثاً ثم رجع ) فأرسل وراءه فجاء أبو موسى فقال عمر : ما منعك ؟ قال قلت : استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت . " وقال رسول الله : إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع " فقال عمر : والله لتقيمن عليه بينة . قال أبو موسى : أمنكم أحد سمعه من النبي ؟ فقال أبيّ بن كعب : والله لا يقوم معك إلا أصغرنا فكنت أصغرهم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي قال ذلك . فقال عمر : خفِي عليّ هذا من أمر رسول الله ألهاني الصفق بالأسواق .
وقد علم أن الاستئذان يقتضي إذناً ومنعاً وسكوتاً فإن أذن له فذاك وإن منع بصريح القول فذلك قوله تعالى : { وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم } . والضمير عائد إلى الرجوع المفهوم من { ارجعوا } كقوله : { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] .
ومعنى { ازكى لكم } أنه أفضل وخير لكم من أن يأذنوا على كراهية . وفي هذا أدب عظيم وهو تعليم الصراحة بالحق دون المواربة ما لم يكن فيه أذى . وتعليم قبول الحق لأنه أطمن لنفس قابله من تلقي ما لا يدري أهو حق أم مواربة ، ولو اعتاد الناس التصارح بالحق بينهم لزالت عنهم ظنون السوء بأنفسهم .
وأما السكوت فهو ما بيّن حكمه حديث أبي موسى . وفعل { تسلموا } معناه تقولوا : السلام عليكم ، فهو من الأفعال المشتقة من حكاية الأقوال الواقعة في الجمل مثل : رحّب وأهّل ، إذا قال : مرحباً وأهلاً ، وحيّا ، إذا قال : حيَّاك الله ، وجزّأ إذ قال له : جزاك الله خيراً . وسهَّل ، إذا قال : سهلاً ، أي حللت سهلاً . قال البعيث بن حريث :
فقلت لها أهلاً وسهلاً ومرحباً *** فردت بتأهيل وسهل ومرحبِ
وفي الحديث : " تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين " . وهي قريبة من النحت مثل : بسمل ، إذا قال : باسم الله ، وحسبل ، إذا قال : حسبنا الله .
و { على أهلها } يتعلق ب { تسلموا } لأنه أصله من بقية الجملة التي صيغ منها الفعل التي أصلها : السلام عليكم ، كما يعدى رحَّب به ، إذا قال : مرحباً بك ، وكذلك أهّل به وسهّل به .
ومنه قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً } [ الأحزاب : 56 ] .
وصيغة التسليم هي : السلام عليكم . وقد علمها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ، ونهى أبا جُزَي الهجيمي عن أن يقول : عليك السلام . وقال له : إن عليك السلام تحية الميت ثلاثاً ، أي الابتداء بذلك . وأما الرد فيقول : وعليك السلام بواو العطف وبذلك فارقت تحية الميت ورحمة الله . أخرج ذلك الترمذي في كتاب الاستئذان . وتقدم السلام في قوله تعالى : { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم } في سورة [ الأنعام : 54 ] .